Skip to main content

الفَصلُ الأوَّل "الإختِيارُ والنِّعمَة" - ثلاثَة مبادِئ في الإختِيارِ والنِّعمة

الصفحة 4 من 4: ثلاثَة مبادِئ في الإختِيارِ والنِّعمة

ثلاثَة مبادِئ في الإختِيارِ والنِّعمة

يَضَعُ بُولُس ثلاثَة مبادِئ للنِّعمة علينا أن نستَوعِبَها خلالَ إقتِرابِنا من هذا الإصحاحِ التَّاسِع. المَبدَأُ الأوَّل هُوَ أنَّ الخلاصَ غيرُ مَورُوث. تصَوَّرُوا أنَّنا وُلِدنا لأهلٍ مُؤمِنينَ أتقياء. ولقد علَّمَنا أهلُنا كلمةَ اللهِ، وأخذُونا دائماً للحُضُورِ في كَنيسَةٍ رائِعة، ولَرُبَّما أرسلُونا للتَّعَلُّمِ في مدرَسَةٍ مسيحيَّةٍ مُستَقيمة، من صفِّ الحضانَةِ حتَّى آخِرِ صُفُوفِ الجامِعة. في هذه الحال نكُونُ ذَوي إمتيازاتٍ رُوحيَّة. ونكُونُ مَسؤُولينَ ومُطالَبينَ للإجابَةِ على ما فعلنا بِتُراثِنا الرُّوحي وبإمتِيازاتِنا الرُّوحيَّة التي ورِثناها. ولكنَّ هذا لا يعني أنَّنا مُخَلَّصُون. فاللهُ ليسَ لدَيهِ أحفاد. بل لدَيهِ فقط أولاد. والمَبدأُ الرُّوحِيُّ الأوَّل عندَ بُولُس والمُتَعلِّق بالإختِيارِ والنِّعمة، هُوَ أنَّ الخَلاصَ غير مَورُوث.

مَبدَأٌ ثانٍ يَضَعُهُ بُولُس في هذا الإصحاح، هُوَ أنَّ الخلاصَ غيرَ مَبنِيٍّ على خياراتٍ نَتَّخِذُها بأن نلتَزِمَ بعَيشِ حياتِنا لله، بل خيارات يتَّخِذُها اللهُ عندما يختارُنا لِلخلاص. نحنُ نُقاوِمُ هذا المبدأ الثَّانِي لأنَّنا نُريدُ أن نُؤمِنَ أنَّنا نحنُ من يُديرُ الدُّفَّة، وأنَّ الأمُورَ هي تحتَ سيطَرَتنا. إن كانَ هذا المبدَأُ صحيحاً، عندها ستَكُونُ السَّيطَرَةُ في يدَي الله، ونحنُ لا نُحِبُّ أن نخسَرَ هكذا نوع منَ السَّيطَرَة.

مبدأٌ رُوحِيٌّ ثالِث يضعُهُ بولُس هُنا، هُوَ أنَّ الخلاصَ غَيرُ مُؤَسَّسٍ على كَونِنا صالِحينَ أم سَيئين، أو على ما إذا عمِلنا أعمالاً صالِحةً أم سَيِّئَة. يستَخدِمُ بُولُس المَجازَ التَّاريخيّ عن عيسُو ويعقُوب. فهذانِ التَّوأَمانِ في رَحِمِ رفقة لم يَكُونا قد فعَلا خيراً ولا شَرَّاً. رُغمَ ذلكَ، نسمَعُ تصريحاً كِتابِيَّاً يقُولُ أنَّ اللهَ أحَبَّ يعقُوبَ وإختارَهُ، وأنَّهُ أبغَضَ عيسُو، ولذلكَ فإنَّ عيسُو سيخدُمُ يعقُوب.

عندَما نقرأُ أنَّ اللهَ أبغَضَ عِيسُو، علينا أن نُدرِكَ أنَّ هذا القَول هُوَ تعبيرٌ مجازِيّ. وهُوَ يعني بجَوهَرِهِ أنَّهُ بالمُقارَنَةِ معَ المحبَّةِ التي أظهَرَها اللهُ لِيَعقُوب، فإنَّ سَحبَهُ للنَّعمِةِ تجاهَ عيسُو بدا وكأنَّهُ بُغضَى. يستخدِمُ يسُوعُ هذه الصُّورَة التَّعبِيريَّة نفسَها عندما قدَّمَ الدَّعوَةَ بالإلتِزامِ بإتِّباعِهِ قائِلاً أنَّهُ إن أرادَ أحدٌ أن يَصيرَ لهُ تلميذاً، عليهِ أن يُبغِضَ أباهُ وأُمَّهُ وإخوتَهُ وأخواتِهِ وكُلَّ النَّاس الآخرين في حياتِهِ (لُوقا 14: 26). رُغمَ ذلكَ، فإنَّ كلمةَ اللهِ تُعَلِّمُ بِوُضُوحٍ أنَّ علينا أن نُحِبَّ والِدَينا (خُرُوج 20: 12)، وأنَّهُ علينا أن نُحِبَّ كُلَّ إنسان (1يُوحَنَّا 4: 7- 21). يُعَلِّمُ يسُوعُ أنَّ محَبَّتَنا لهُ ينبَغي أن تَكُونَ عظيمةً لدرَجَةِ أنَّها عندما نُقارِنُها معَ عواطِفِنا تجاهَ أيِّ شَخصٍ آخر، سوفَ تبدُو عواطِفُنا للآخرين وكأنَّها بُغضَى. كانت هذه صُورَةٌ تعبيريَّةٌ مجازِيَّة في الحضارَةِ الشَّرقِيَّة.

أحدُ مشاهِير مُفَسِّري الكتابِ المُقدَّس الأتقياء، إقتَرَبَت منهُ سَيِّدَةٌ مَرَّةً وقالَت لهُ، "أيُّها الدُّكتُور آيرونسايد، لدَيَّ مُشكِلَة معَ هذا العدد، حَيثُ يقتَبِسُ بُولُس قولَ الله، "أحبَبتُ يعقُوب وأَبغَضتُ عيسُو." فكانَ جوابُ آيرُونسايد، "أنا أيضاً لدَيَّ مُشكِلَة معَ هذا العدد، ولكن مُشكِلَتي هي أن أفهَمَ كيفَ إستطاعَ اللهُ أن يَقُولُ: "أحبَبتُ يعقُوب."

عندَما نقرأُ قِصَّةَ حياة يعقُوب المُحتال والمُخادِع، ونُدرِكُ كيفَ عاشَ على مُستَوى إسمِهِ، الذي هُوَ "مُتَعَقِّب،" بإمكانِنا أن نفهَمَ لماذا أجابَ مُعَلِّمُ الكتابِ المُقدَّس آيرُونسايد بذلكَ الجواب. في الإصحاحِ الخامِس من هذه الرِّسالَة، تعجَّبَ بُولُس من كَونِ محبَّةِ اللهِ قد عُبِّرَ عنها من خلالِ المسيح لأجلِ خلاصِنا، عندما كُنَّا بعدُ أَثَمَةً، خُطاة، وأعداء الله. نحنُ جميعاً نتعجَّبُ من كونِ اللهِ أحَبَّ يعقُوب، أو أحَبَّ أيَّاً منَّا نحنُ الخطاة، وخَلَّصنا بالمسيح.

مُلاحَظَةٌ أُخرى حولَ هذا المقطع المُفعَم بالمعاني، وهُوَ أنَّنا قد نُسيءُ فهمَ الهدف الأساسيّ منَ التَّعليمِ هُنا، عندما نُرَكِّزُ كُلِّيَّاً على المَفهُومِ المُشارِ إليهِ بكلمة "إختِيار." سوفَ أُعالِجُ هذا المَفهوم قَريباً، ولكن قبلَ أن أفعَلَ ذلكَ أُشَجِّعُكُم على أن تستَوعِبُوا الحقيقَةَ الأساسيَّةَ والأوَّليَّة التي يُعَلِّمُها بُولُس في هذا المقطع الصَّعب. وما نُسَمِّيهِ إختِيار يُشَدَّدُ عليهِ في هذا الإصحاح، لأنَّهُ يُوضِحُ الهدَفَ الرَّئيسيّ مِمَّا يُعَلِّمُهُ في هذه التُّحفَة اللاهُوتِيَّة: فهذا الخلاص لا يُكتَسَبُ بالأعمالِ الصَّالِحَة، بل يُغدَقُ كهِبَةٍ بنعمَةِ الله.

فقبلَ أن يعمَلَ هذانِ التَّوأَمانِ خَيراً أو شَرَّاً، تمَّ إختِيارُ يعقُوب للخلاص، لأنَّ اللهَ أحَبَّهُ، وليسَ بِسَبَبِ أيَّة أعمالٍ صالِحَةٍ عَمِلَها. هذا يُثيرُ قَضِيَّةَ إختيار الله عمداً ليَعقُوب. فهل يختارُ اللهُ أشخاصاً أو شَعبَاً للخلاص؟ بمعنىً ما، يُخبِرُنا العهدُ القَديمُ بأكمَلِهِ بإسهابٍ أنَّ اللهَ بالفِعل يختارُ شَعباً للخلاص، لأنَّهُ إختَارَ اليَهُود.

لدَينا مُشكِلَتانِ في هذا التَّصريح. فنحنُ نُحِبُّ أن نعتَقِدَ أنَّ خَلاصَنا هُوَ تحتَ سيَطَرَتِنا، وأنَّنا لا نَظُنُّ أنَّهُ منَ العَدلِ أن يختارَ اللهُ بعضَ الأشخاص ولا يختارَ آخرين.

جَوهَرُ ما يُعَلِّمُ بهِ بُولُس هُنا هُوَ أنَّهُ علينا أن نَرُدَّ خلاصَنا إلى النِّعمَة، وإلى خياراتِ اللهِ الكُلِّيّ السِّيادَة، وإلى عملِ يسوع المسيح على الصَّليبِ لأَجلِ خلاصِنا، بَدَلَ أن نَرُدَّ خلاصَنا إلى خياراتِنا وأعمالِنا. ولكنَّ بُولُس يُقَدِّمُ أيضاً هذا التَّناقُض: حتَّى وإن كُنَّا مُختارِين، علينا أن نختارَ بأن نَكُونَ مُختارِينَ، بإيمانِنا بِالمسيح مُخَلِّصاً لنا لنتَبَرَّرَ بالإيمان.

إن كانَ نامُوسُ مُوسى مألُوفاً لدَيكُم، ستَفهَمُونَ لماذا كانَ منَ الصَّعبِ جدَّاً على الفَرِّيسيِّينَ الأتقِياء أن يستَوعِبُوا ويُؤمِنُوا بما يُعَلِّمُهُ بُولُس هُنا. فالفَرِّيسيُّونَ الغَيُورُون، كما كانَ شاوُل الطَّرسُوسِيّ قَبلَ تجديدِهِ، كانُوا يحفَظُونَ الأسفارَ الخمسةَ الأُولى من الكتابِ المُقدَّس عن ظَهرِ قَلب. كَثيرُونَ منَ المُؤمنينَ اليوم لم يقرأُوا حتَّى هذه الأسفار الخمسة الأُولى منَ الكتابِ المُقدَّس ولا مَرَّة، رُغمَ كَونِها تُشَكِّلُ حجَرَ زاوِيَةٍ في كلمَةِ الله. لهذا كانَ اليَهُودُ الأتقياء مُتآلِفينَ معَ أسفارِ النَّامُوسِ هذه. إثنانِ منهُما إنتَهَيا بحَضٍّ قَوِيٍّ على إختيارِ الفَرقِ بينَ الحياةِ والمَوت، الذي كانَ يعني إختِيارُ طاعَةِ نامُوسِ الله وخدمَتِهِ، أو إختيار التَّمَرُّد والعِصيان على الله: (لاوِيِّين 26، 27؛ تثنيَة 28، 30).

لهذا كانَ منَ الصَّعبِ جدَّاً على اليَهُودِ الأتقِياء أن يستَوعِبُوا الفِكرَةَ أنَّ الحياةَ الرُّوحيَّةَ والمَوت الرُّوحِيّ لم يَكُونا خيارَهما، بل خَيارَ الله. بإمكانِنا أن نرى لماذا كانَ صعباً عليهم أن يُؤمِنُوا أنَّ الخلاصَ والبِرَّ المُعلَن هو دَعوة، وعطيَّة نعمَةِ اللهِ ينبَغي أن تُقبَلَ بالإيمان، ولَيسَ حَقَّاً مَورُوثاً وعاقِبَةً لطاعَةِ نوامِيسِ الله.

بإمكانِنا أيضاً أن نرى لماذا إحتاجَ بُولُس، وهُوَ فَرِّيسيٌّ منَ الفَرِّيسيِّين، إلى بِضعِ سنواتٍ في صَحراءِ العَرَبِيَّة ليَتَعَلَّمَ هذه الحقائِق معَ المسيحِ المُقام، كما وصفَ ذلكَ الإختِبار في رسالَتِهِ إلى الغَلاطِيِّين (غلاطية 1- 2: 10). منَ الواضِحِ أنَّهُ إحتاجَ إلى وقتٍ وإلى إعلانٍ خارِقٍ للطَّبيعَة، ليستَوعِبَ هذه الحقيقة بِنَفسِهِ، وليدمُجَ عَطِيَّةَ البِرّ والتَّبرير بالإيمان معَ لاهُوتِهِ، كَونَهُ و احِداً منَ الرَّابِيِّين الفَرِّيسيِّين الغَيُورِين الذين عاشُوا على الأرض.

لقد علَّمَ الرَّابِيُّونَ أو مُعَلِّمُو النَّامُوس أمثال بُولُس مُستَخدِمِينَ منهَجِيَّةَ الأسئِلَة والأجوِبَة. بالحقيقَة، لقد كانُوا يُجِيبُونَ حتَّى على الأسئِلَةِ بأسئِلَةٍ أُخرى. سُئِلَ الرَّابِيُّ هِلِّل مرَّةً، "لماذا أنتُم الرَّابِّيُّونَ تُجيبُونَ دائماً على السُّؤالِ بِسُؤالٍ آخر؟" فأجابَ هذا الرَّابِيُّ المَشهُور، "ولمَ لا؟" كَون بُولُس رابِّي جَيِّد، تصوَّرَ أنَّ قُرَّاءَ رِسالَتِهِ هذه يطرَحُونَ عليهِ أسئِلَة، أجابَ عليها لاحِقاً بالقَول: "فماذا نَقُولُ؟ ألَعَلَّ عندَ اللهِ ظُلماً. حاشا. لأنَّهُ يَقُولُ لِمُوسى إنِّي إرحَمُ من أرحَمُ وأتراءَفُ على من أتراءَف. فإذاً ليسَ لِمَن يشاءُ ولا لِمَن يسعَى بل للهِ الذي يَرحَم. لأنَّهُ يَقُولُ الكتابُ لِفِرعَون إنِّي لهذا بعَينِهِ أقمتُكَ لِكَي أُظهِرَ فيكَ قُوَّتِي ولكي يُنادَى بإسمِي في كُلِّ الأرض. فإذاً هُوَ يرحَمُ من يَشاءُ ويُقَسِّي من يَشاء." (رُومية 9: 14- 18).

إنَّ مَثَلَ بُولُس عن مُوسَى وفرعَون يصعُبُ فهَمُهُ وقُبُولُهُ أكثَر من مَثَلِهِ عن يعقُوب وعِيسُو. يعُودُ بُولُسُ إلى حوارِهِ بالسُّؤالِ والجَواب، بتَخَيُّلِ قارِئِهِ يطرَحُ الإعتِراضَ أنَّهُ لَيسَ عدلاً أن يخلُقَ اللهَ فرعون لمُجَرَّدِ قصدِهِ الصَّريح بأن يجعَلَهُ يُناقِضُ عمَلَهُ المُزمِع أن يعمَلَهُ في مصر. لا يبدُو أنَّهُ منَ العَدلِ أن اللهَ خلقَ فرعوناً مُتَمَرِّداً، لكي يُظهِرَ اللهُ بهِ قُوَّتَهُ الجليلة، من خِلالِ الضَّرَباتِ العَشر التي وقَعَت على المِصرِيِّين.

جوابُ بُولُس على هذا السُّؤال، أمامَ السُّؤالِ الفَرَضِيّ، "من أنتَ أيُّها الإنسانُ الذي تُجاوِبَ الله؟" ثُمَّ يستخدِمُ إستِعارَةً عميقَةً كانت الإستِعارَةَ المُفضَّلَةَ عندَ النَّبِيِّ إرميا (إرميا 18: 1-6).

الإستِعارَةُ هي أنَّنا كبَشَرٍ مائِتين، نُشبِهُ الطِّين، واللهُ يُشبِهُ الفَخَّارِيّ الإلهي الذي ينحَتُ الطِّين. عندما يَقُومُ النَّحَّاتُ المَوهُوبُ بصناعَةِ آنِيَةٍ من كُتلَةٍ ضخمَةٍ منَ الطِّين، فهل يتكلَّمُ الطِّينُ معَ الفَخَّارِيّ أو النَّحَّات ليَقُولَ لهذا الفَنَّان كيفَ يُريدُهُ أن يعمَلَهُ ويُشَكِّلَهُ؟ الجوابُ الواضِحُ هُوَ أنَّ النَّحَّاتُ هُوَ سَيِّدٌ على الطِّين، وبإمكانِهِ أن يُقَرِّرَ أن يعمَلَ إناءً جميلاً من أجزاءٍ من هذا الطِّين، وبإجزاءٍ أُخرى منهُ يعمَلُ إناءً كانَ يستَخدِمُهُ النَّاسُ كالمِرحاضِ، قبلَ أن تُصبِحَ المجارِيرُ والمراحِيضُ العصريَّةُ مُتَوَفِّرَةً داخِلَ المنازِل. ثُمَّ يُطَبِّقُ هذه الإستِعارَة على اللهِ في خَلقِهِ لمُوسى وفرعون من نفسِ الطِّينَةِ البَشَرِيَّة.

نَجِدُ هُنا الحقيقَةَ نَفسَها المُشَدَّد عليها في المقطَعِ الذي يتكلَّمُ عن رِفقَة وعنِ التَّوأمَينِ اللذينِ يتصارَعانِ في أحشائِها: "فإذاً ليسَ لِمَن يَشَاءُ ولا لِمَن يَسعَى بَل للهِ الذي يرحَم." (رُومية 9: 16). الحقيقَةُ المَركَزِيَّةُ والأساسيَّةُ في هذه المقاطِع الصَّعبَة عنِ الإختِيار لا تكمُنُ في خيارِ اللهِ المُعتَمِد على سِيادَتِهِ. فزُخمُ هذينِ المقطَعَينِ هُوَ أنَّ الخلاصَ ليسَ نتيجَةً لأعمالِ ومَشيئَةِ وسَعيِ الإنسان، بل نتيجَةً لأعمالِ ومشيئَةِ وعنايَةِ وإختِيارِ ونعمَةِ الله.

يعقُوبُ هُوَ واحِدٌ من أعظَمِ النَّماذِجِ الكتابِيَّة عنِ النِّعمَة. فلقد بدأَ رحلةَ إيمانِهِ ظانَّاً أنَّ كُلَّ بركاتِهِ هي نتيجَة لدَهائِهِ ولإحتيالِهِ في إنتِزاعِ البَركاتِ وفي جعلِ الأُمُور تسيرُ كما يَشاءُ. ولكن عندما تصارَعَ معَ ملاكٍ، جعلَهُ اللهُ يعرِفُ أنَّهُ قد تبارَكَ بسَبَبِ نعمَةِ الله، التي لم يكتَسِبْها ولم يَستَحِقَّها ولم يُنجِزْها بجُهُودِهِ الشَّخصِيَّة.

لقد كانَ اللهُ يُحاوِلُ أن يُبارِكَ يعقُوب بنعمَتِهِ لمُدَّةِ عشرينَ عاماً، ولكنَّهُ لم يَستَطِعْ أن يجعَلَ يعقُوب يتوقَّفُ ساكِناً بشكلٍ كافٍ ليُبارِكَهُ. في إحدى أعظَمِ الصُّوَرِ المجازِيَّة عن النِّعمَة في الكتابِ المُقدَّس، أخذَ اللهُ هذا الرَّجُل يعقُوب (الذي دأبَ على السَّعيِ والتَّحريضِ والعَبَثِ بالأشياء والأشخاص، إلى أن كانت الأُمُور تسيرُ على ذَوقِهِ)، إلى مكانٍ يُسَمَّى "يَبُّوق،" والذي يعني بالعِبريَّة "الرَّكض." وهُناك جعلَهُ اللهُ أعرَجَ، فما عادَ بعدَها قادِراً على السَّعيِ والرَّكض (تكوين 32: 22- 32).

طريقَةٌ أُخرى للتَّعبيرِ عن هذه الحقيقة نفسِها، هي بالقَولِ أنَّ اللهَ كانَ يُحاوِلُ أن يُعَلِّمَ يعقُوبَ بأن يعمَلَ شَيئاً طالَما أوصى بهِ الكتابُ المُقدَّس: "إنتَظِرِ الرَّبّ!" لقد شجَّعَ اللهُ شخصاً مثل يعقُوب أن ينتَظِرَ الرَّبَّ ومن ثَمَّ أن يُراقِبَ اللهَ يعمَلُ. ويُريدُنا اللهُ أن نَكُونَ أشخاصاً "ندَعُ الأُمُورَ تأخُذُ مجراها." أمَّا يعقُوب فكانَ شَخصاً "يجعَلُ الأُمُورَ تحدُث،" لدَرَجَةِ أنَّهُ لم ينتَظِرْ الرَّبّ. لهذا خلعَ اللهُ حُقَّ فَخذِهِ فجعَلَهُ بذلكَ أعرَجَ. وبالنِّهايَة، عندَما يُصبِحُ الإنسانُ أعرَجَ أو مُقعَداً، ماذا يبقَى أمامَهُ إلا أن ينتَظِرَ الرَّبّ. أنا أُسَمِّي هذا "بركةُ تاج العَرَج ليَعقُوب." عندما كتبَ بُولُس في العددِ السَّادِس عشَر أنَّ الإختِيارَ ليسَ للذي يسعَى، بل للهِ، أعتَقِدُ أنَّهُ كانَ يُشيرُ إلى إختِبارِ يعقُوب في مخاضَةِ "يبُّوق."

إنَّ إشارَةَ بُولس إلى إختيار اللهِ لمُوسى وفرعَون من نفسِ الطِّينَة، يُرَكِّزُ على جَوابٍ كِتابِيّ على هذا السُّؤال الذي طرحَهُ بولُس، والذي ذَكَرتُهُ في تفسيري للإصحاحِ الخامِس من هذه الرِّسالة: "كيفَ دَخَلَ الشَّرُّ إلى هذا العالم؟" ولقد حيَّرَ هذا السُّؤالُ الفلاسِفَةَ واللاهوتيِّين منذُ ظهُورِ هذينِ الحقلَين في تاريخِ الفِكر. يُوجَدُ عَدَدٌ في نُبُوَّةِ إشَعياء يُخبِرُنا فيهِ اللهُ أنَّهُ: "مُصَوِّرُ النُّور وخالِقُ الظُّلمَة صانِعُ السَّلامِ وخالِقُ الشَّرّ. أنا الرَّبُّ صانِعُ كُلَّ هذهِ." (إشعياء 45: 7).

عندما يُريدُ صانِعُ الجَواهِرِ أن يعرُضَ ماساتِهِ، يَضَعُها على خَلفَيَّةٍ مخمَلِيَّةٍ سَوداء، لكي يُظهِرَ ويُبرِزَ جمالَها. يُخبِرُنا الكتابُ المُقدَّسُ أنَّ الشَّرَّ مَوجُودٌ هُنا بِمَشيئَةِ الله. فاللهُ لا يخلُقُ شَرَّاً، ولكنَّ الشَّرَّ لا يُمكِنُهُ أن يكُونَ مَوجُوداً لو لم يسمَحِ اللهُ بِوُجُودِهِ. يستخدِمُ اللهُ في الكتابِ المُقدَّس الشَّرَّ كخَلفِيَّةٍ مخمَلِيَّةٍ سَوداء يُبرِزُ عليها جواهِرَ محبَّتِهِ وفدائِهِ.

يُمَثِّلُ إسمُ اللهِ جوهَرَ من هُوَ الله. فاللهُ هُوَ بالتَّأكيد ليسَ شِرِّيراً. في هذا المقطَع، نقرأُ أنَّ اللهَ إستَخدَمَ فِرعون وعِصيانَهُ لِتحريرِ بني إسرائيل، كخَلفِيَّةٍ مخمَلِيَّةٍ سوداء أظهَرَ اللهُ عليها قُوَّتَهُ العظيمة. فقصدُ اللهِ في هذا هُوَ أن يُعرَفَ إسمُهُ في كُلِّ الأرض.

بدَأَ بُولُس هذا المقطَع بالحِوارِ معَ أسئِلَةِ قُرَّائِهِ: "فماذا نَقُولُ؟ ألَعَلَّ عندَ اللهِ ظُلماً؟" (رُومية 9: 14) جَوهَرُ جوابِهِ على هذا السُّؤال هُوَ أنَّ اللهَ سَيِّدٌ مُطلَق، وأنَّهُ يفعَلُ ما يشَاء. وبما أنَّ اللهَ عالِمٌ بِكُلِّ شَيء، فهُوَ لا يحتاجُ لا مِن قَريبٍ ولا من بعيد إلى نصيحَتِنا أو رَأينا. في تسبيحَةِ التَّمجيد الرَّائِعة التي يختُمُ بها بُولُس هذه الإصحاحاتِ الثَّلاثة، يقتَبِسُ من إشعياء في تساؤُلِهِ: "لأن من عرفَ فِكرَ الرَّبِّ أو من صارَ لهُ مُشيراً؟" (رُومية 11: 34) فاللهُ سيترأَّفُ على من يَشاء، وعندما سيُقسِّي قَلبَ أشخاصٍ مثل فرعَون، لأسبابٍ لا يَعرِفُها أحدٌ سِواهُ، فهُوَ يفعَلُ ذلكَ لأنَّهُ يشاءُ أن يفعَلَ ذلكَ.

ثُمَّ يرجِعُ بُولُس إلى هذا الحوار الخيالِيّ معَ قُرَّائِهِ: "فسَتَقُولُ لي لماذا يَلُومُ بعد؟ لأنْ من يُقاوِمُ مشيئَتَهُ. بَل من أنتَ أيُّها الإنسانُ الذي تُجاوِبُ الله. أَلَعَلَّ الجبلَةَ تقُولُ لجابِلِها لماذا صنعتَني هكذا؟ أم لَيسَ لِلخَزَّافِ سُلطانٌ على الطِّينِ أن يصنَعَ من كُتلَةٍ واحِدَةٍ إناءً لِلكَرامَةِ وآخَرَ لِلهَوان؟" (رُومية 9: 19- 21)

يستَطيعُ بُولُس بِسُهُولَةٍ أن يتخيَّلَ قُرَّاءَهُ وهم يُجيبُون، "هذا غَيرُ عادِل! فكَيفَ يُمكِنُ أن يَصنَعَ اللهُ فرعَون لهذا الهَدف، ومن ثَمَّ أن يدينَهُ على عمَلِهِ ما خالقَهُ ليَكُونَهُ ويعمَلَهُ؟" الجوابُ على هذا السُّؤال هُوَ، "كيفَ يُمكِنُنا كمخلُوقاتٍ أن نعتَرِضَ على الخالِق؟ فهل يُمكِنُ للطِّينَ أن يعتَرِضَ على الفَخَّارِيّ الذي يعمَلُ من هذا الطِّينِ إناءً؟ وبما أنَّنا مُجَرَّدُ طِينٍ في يدَي الله، فمَنْ نحنُ حتَّى نضعَ أنفُسَنا في دَورِ مُشيرِينَ للهِ ونَاصِحِينَ لهُ؟

في سفرِ أيُّوب يُوجَدُ مَثَلٌ جميلٌ حولَ الحقيقَةِ التي يُقدِّمُها بُولُس هُنا، من خلالِ الطَّريقَة التي يُجيبُ بها على هذا السُّؤال بِسُؤالٍ آخر. لقد كانَ يُعتَبَرُ أيُّوب واحداً من أكثَرِ النَّاسِ حكمَةً وبِرَّاً عاشَ في زمانِهِ. لقد إنخَرَطَ في حِوارٍ معَ ثلاثَةٍ من أصدِقائِهِ، الذين كانُوا بِدَورِهِم يُعتَبَرُونَ أيضاً رجالاً حُكماءَ في تلكَ الحضارَة. عندما نَصِلُ إلى الإصحاحِ الثَّامِن والثَّلاثِين من "مَلحَمَةِ الألمَ" تِلكَ، نجدُ أنَّ اللهَ إنخَرَطَ في حوارِهِم، وأقامَ حديثاً مُدهِشاً معَ أيُّوب، إستَمَرَّ لبِضعَةِ إصحاحاتٍ، فيما يُعتَبَرُ أقدَمَ سِفرٍ في الكتابِ المقدَّس.

لقد أرغَمَ اللهُ أيُّوبَ على التَّواضُعِ من خلالِ سَيلٍ منَ الأسئِلَةِ التي لا يستَطيعُ أيُّوب الإجابَةَ عنها. لقد طرحَ اللهُ على أيُّوب أسئِلَةً عن الخَلقِ، فسألَ أيُّوبَ ما معناهُ، "ماذا تَعرِفُ عنِ الخَلقِ يا أيُّوب؟"

"أينَ كُنتَ؟ أينَ كُنتَ عندما خَلَقتُ السَّماواتِ والأرض؟" ولقد طَرَحَ اللهُ على أيُّوب أسئِلَةً عنِ النُّجُوم في المَجمُوعَةِ الشَّمسِيَّة، وعنِ الطَّقس، وعنِ البَرقِ وقضايا أُخرى كثيرَة، لم يكُن أيُّوب يفهَمُها ولم تَكُنْ لدَيهِ أيَّةُ سَيطَرَةٍ عليها. وهُنا نَجِدُ بُولُس يفعَلُ تقريباً الشَّيءَ نفسَهُ، عندما يطرَحُ السُّؤالَ عن كيفَ يُمكِنُ للإنسانِ المحدُود و المائِت أن يستَجوِبَ اللهَ ويعتَرِضَ على أحكامِهِ. ثُمَّ يسأَلُ بُولُس، "أم لَيسَ لِلخَزَّافِ سُلطانٌ على الطِّينِ أن يصنَعَ من كُتلَةٍ واحِدَةٍ إناءً لِلكَرامَةِ وآخَرَ لِلهَوان؟" (رُومية 9: 21).

الأشخاصُ الذين يَعيشُونَ في دُوَلٍ ذات أنظِمَة ديمُوقراطِيَّة، لا يُحِبُّونَ فكرَةَ كونِ اللهِ ذَا سِيادَة مُطلَقة وسَيطرَةَ كامِلَة على خليقَتِهِ – خاصَّةً على حياتِهِم. فالدِّيمُوقراطِيَّة مَبنِيَّة على الإقتِناعِ أنَّهُ لا ينبَغي الوُثُوقَ بأيٍّ كائِنٍ بَشَرِيٍّ بإعطائِهِ سُطلَةً مُطلَقَةً على الآخرين. الحُكُومَةُ الدِّيمُوقراطِيَّة تُشارِكُ السُّلطَةَ والمَسؤوليَّة، وتجعَلُ حُكَّامَها يُؤدُّونَ حساباً عن أدائِهم أمَامَ الشَّعبِ الذي يحكمُونَهُ. بِغَضِّ النَّظرِ عنِ المكانِ الذي نَعيشُ فيهِ، فإنَّ مُشكِلَتَنا معَ هذا التَّعليم قد تَكُونُ أنَّنا نُقاوِمُ مفهُومَ سيادَةِ اللهِ المُطلَقَة، لأنَّنا لا نَثِقُ باللهِ ولا نمنَحُهُ سَيطَرَةً كامِلَةً على حياتِنا.

ولكنَّ مَفهُومَ مَلَكُوتِ اللهِ يعني أنَّ اللهَ مَلِكٌ لدَيهِ سُلطانٌ مُطلَقٌ، وسُلطَةٌ وسيطَرَةٌ على رَعاياهُ. فمَلَكُوتُ اللهِ ليسَ نظاماً دِيمُوقراطِيَّاً. فليسَت هُناكَ أيَّة دِيمُوقراطِيَّة في العلاقَةِ بينَ الرَّاعِي و الخِراف. اللهُ هُوَ الرَّاعي الصَّالِح والعَظيم لإسرائيل، ويسُوعُ هُوَ "راعي الخراف العَظيم." (يُوحَنَّا 10: 11، عبرانِيِّين 13: 20، 21) ذاتَ يَوم، سوفَ يأتي يسُوعُ ثانِيَةً كمَلِكِ المُلُوك ورَبِّ الأرباب. يُجيبُ بُولُس هُنا على مُتسائِلٍ إفتِراضِيّ، بتقديمِ التَّصريحِ المُوحَى بهِ أنَّ اللهَ هُوَ مَلِكُ المُلُوك ورَبُّ الأرباب، وأنَّ اللهَ يعمَلُ ما يَشَاء. (1تيمُوثاوُس 6: 15).

ثُمَّ يُقدِّمُ بُولُس المَوضُوعَ الحقيقيّ لهذه الإصحاحَاتِ الثَّلاثَة، عندما يُخبِرُنا عن نَوعَينِ منَ الآنِيَة: "فماذا إن كانَ اللهُ وهُوَ يُريدُ أن يُظهِرَ غَضَبَهُ ويُبَيِّنَ قُوَّتَهُ، إحتَمَلَ بِأَناةٍ كَثيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً للهَلاك. ولِكَي يُبَيِّنَ غِنَى مجدِهِ على آنِيَةِ رحمَةٍ قد سَبَقَ فأَعَدَّها لِلمَجد. التي أيضاً دَعانا نحنُ إيَّاها، ليسَ منَ اليَهُودِ فقط بَل منَ الأُمَمِ أيضاً؟" (22- 24)

هذه الإصحاحاتُ الثَّلاثَة تُصبِحُ من أهَمِّ المقاطِع النَّبَوِيَّة في الكتابِ المُقدَّس ومن أكثَرِها تعبيراً، عندما يبدَأُ بُولُس بِعَرضِ المَوضُوع، الذي سيَستَمِرُّ بِهِ وُصُولاً إلى نهايَةِ الإصحاحِ الحادِي عشَر. وسوفَ يُظهِرُ منَ العهدِ القَديم أنَّ خُطَّةَ اللهِ كانت دائماً أن يُوصِلَ الخلاصَ إلى الأُمَم، كما إلى اليَهُود. عندما فَوَّضَ اللهُ إبراهيم ليَكُونَ أباً لهذا الشَّعبِ الفَريد، كانَ وعدُهُ لإبراهيم أنَّ كُلَّ أُمَمِ الأرضِ سَتَتَبَارَكُ بإبراهيم (تكوين 12: 3).

وهُوَ يقتَبِسُ من هُوشَع ليُظهِرَ أنَّ تخليصَ الأُمَم لم يَكُنْ مُجَرَّدَ نَوعٍ منَ الخُطِّةِ البَديلَة التي طبَّقها اللهُ عندما رَفَضَ اليَهُودُ المَسيَّا. "كما يَقُولُ في هُوشَع أيضاً سأَدعُو الذي ليسَ شَعبِي شَعبِي والتي ليسَت محبُوبَة محبُوبَة. ويكُونُ في المَوضِعِ الذي قِيلَ لهُم فيهِ لَستُم شَعبي أنَّهُ هُناكَ يُدعَونَ أبناءَ اللهِ الحَيّ." (رُومية 9: 25- 26)

ثُمَّ يقتَبِسُ مقاطِعَ من إشَعياء تُظهِرُ أنَّهُ عندما يُصبِحُ الأُمَمُ جُزءاً من الكنيسة، سيَكُونُ هُناكَ بَقِيَّةٌ منَ اليَهُودِ مثلَهُ الذينَ سيَخلُصُون (رُومية 9: 27- 28؛ إشعياء 10: 22، 23). بَعدَ الإقتِباسِ من إشعياء، يربِطُ بُولُس بينَ هذا المَوضُوع النَّبَوِيّ عن إسرائيل وبينَ الحجَّةِ التي ذُكِرَت في الإصحاحاتِ الأربَعة الأُولى من هذه الرِّسالَة، عندما يكتُبُ قائِلاً، "فماذا نَقُولُ. إنَّ الأُمَمَ الذين لم يسَعُوا في أَثَرِ البِرِّ أدرَكُوا البِرَّ. البِرَّ الذي بالإيمان. ولكنَّ إسرائيل وهُوَ يسعَى في أثَرِ نامُوسِ البِرِّ لم يُدرِكْ نامُوسَ البِرّ. لماذا؟ لأنَّهُ فعلَ ذلكَ ليسَ بالإيمانِ، بل كأنَّهُ بأعمالِ النَّامُوس. فإنَّهُم إصطَدَمُوا بِحَجَرِ الصَّدمَة. كما هُوَ مَكتُوبٌ ها أنا أضَعُ في صِهيَون حجرَ صَدمَةٍ وصَخرَةَ عثَرَةٍ وكُلُّ من يُؤمِن به لا يُخزَى." (رُومية 9: 30- 33).

هل بإمكانِكُم أن تتصوَّرُوا كم كانَ صعباً على هذا الرَّابِيِّ اليَهُودِيِّ المُحافِظ والمُتَعلِّم، الذي كانَ "عبرانِيَّاً منَ العِبرانِيِّين،" وفيما يتعلَّقُ بنامُوسِ الفَرِّيسيِّين، أن يستَوعِبَ ويتمثَّلَ الحقيقَةِ المُمَثَّلَةَ في هذا المقطَع؟ (فيلبِّي 3: 4- 6)

لقد كانَ الفَرِّيسيُّونَ مُنَظَّمِينَ ومُدَرَّبينَ ليُحافِظُوا على إستِقامَةِ الإيمانِ اليَهُودِيّ. وخلالَ كُلِّ حياتِهِ البالِغَة، كانَ هذا الإنسانُ مُلتَزِماً بتَعَصُّبٍ بالمُحافَظَةِ على إستِقامَةِ العقيدَةِ القائِلَةِ بأنَّ البِرَّ والخلاصَ يُمكِنُ أن يُكتَسَبا بحفظِ نامُوسِ الله. ولكن من خلالِ لِقائِهِ الخارِق للطَّبيعَة معَ المسيحِ القائِم منَ المَوت على طَريقِ دِمَشق، ومن خلالِ وقتِهِ الذي قضاهُ معَ الرَّبِّ يسُوع في صحراءِ العَرَبِيَّة، إكتَشَفَ بُولُس إنجيلَ الخلاصِ، والبِرَّ الذي منَ الإيمان، وعَطِيَّةَ اللهِ بنعمَةِ اللهِ لأُولئكَ الذين سيُؤمِنُونَ بيسُوع المسيح. لا بُدَّ أنَّ هذا كانَ بِمثابَةِ هَزَّةٍ لاهُوتيَّةٍ وفلسَفِيَّة في قَلبِ وعقلِ هذا الرَّجُلِ الفَرِّيسيّ بُولُس.

إن كُنتُم تَذكُرُون، كانَ هذا جَوهَرُ ما كتبَهُ بُولُس في الإصحاحاتِ الأربَعة الأُولى من هذه التُّحفَة اللاهُوتيَّة. إنَّهُ يُعلِنُ هُنا في هذه الأعداد جوهَرَ ما كرزَ بهِ وكتبَهُ للكُورنثِيِّين: أنَّ القَضِيَّةَ هي يسُوع المسيح وإيَّاهُ مَصلُوباً، الأمرُ الذي كانَ ولا يزالُ حجرَ عثَرَةٍ لِليَهُودِ (1كُورنثُوس 1: 23).

لم يَفهَمْ أحدٌ أكثَرَ من بُولُس لماذا تعثَّرَ اليَهُودُ بهذه القَضيَّة البَسيطة من الإنجيل، أي قضيَّة البِرّ الذي هُوَ عَطِيَّة مَجَّانِيَّة منَ اللهِ بنعمَةِ الله، والمُعلَن بالإيمانِ بِيَسُوع المسيح. لِهذا إضطَّهَدَ كنيسَةَ يسُوع المسيح بِقَسوَةٍ، قبلَ أن يختَبِرَ التَّجديدَ العجائِبيّ على طريقِ دِمشق، عندما إستَوقَفَهُ المسيحُ الحَيُّ المُقامُ وجعلَ منهُ "رَسُولَ الأُمَم" العَظيم (رُومية 11: 13).

الصفحة
  • عدد الزيارات: 8549