الفَصلُ الأوَّل "لمحَة عامَّة عن رِسالَةِ بُولُس إلى أهلِ رُومية" - مَضغ رسالة بُولُس إلى أهلِ رُومية
مَضغ رسالة بُولُس إلى أهلِ رُومية
إذ نبدَأُ دراسَتَنا لهذه الرِّسالة الرَّائعة لبُولُس، أوَّلُ أمرٍ علينا أن نعمَلَهُ هُوَ أن نُقَسِّمَ إصحاحاتِها السِّتة عشَر إلى أربَعَةِ أقسام:
-في الإصحاحاتِ الأربَعة الأُولى، يربِطُ بُولُس بينَ التَّبريرِ والخاطِئ.
-في الإصحاحاتِ الأربَعة التَّالِيَة (5- 8)، يَربِطُ بُولُس التَّبريرَ بالشَّخصِ الذي تمَّ تَبريرُهُ. ولكن كيفَ يَعِيشُ شخصٌ تمَّ إعلانهُ بارَّاً من قِبَلِ اللهِ، بعدَ أن تمَّ تبريرُهُ؟ منَ الواضِحِ أنَّهُ ينبَغي أن يعيشَ حياةَ البِرّ. وكيفَ يَجِدُ الدِّيناميكيَّةَ الرُّوحِيَّةَ ليَحيا حياةَ البِرّ؟ هذا هُوَ مَوضُوعُ المجمُوعَةِ الثَّانِيَة المُؤلَّفَة منَ الإصحاحات الأربَعة منَ الرِّسالة (5- 8).
-القِسمُ الثَّالِثُ من هذه الرِّسالَة (9- 11)، هُوَ حيثُ يَربِطُ بُولُس التَّبريرَ بِشَعبِ إسرائيل. وتُعتَبَرُ هذه أعمق ثلاثَة إصحاحاتٍ في الكتابِ المُقدَّس حولَ مَوضُوع النُّبُوَّة الكِتابِيَّة. يستَخدِمُ بُولُس إسرائيل في هذه الإصحاحات كالمثالِ الكتابِيِّ الأعلى عمَّا يُسمِّيهِ "الإختِيار،" أو إختيار الله أُناساً للخَلاص.
في هذا المقطَع الثَّالِث من هذه الرِّسالَة، ندرُسُ ذلكَ التَّعليم الكِتابِيِّ الصَّعب الذي يُسَمَّى "التَّعيين المُسبَق للخَلاص." هُناكَ تناقَضٌ مُحَيِّرٌ في دراسَتِنا للكِتابِ المُقدَّس، الذي يبدو وكأنَّهُ تناقُضٌ، ولكن معَ دراسَةٍ وتمييزٍ رُوحِيَّين، ندرِكُ أنَّهُ لا يُوجَدُ تناقُضٌ. هُناكَ أوقاتٌ تُرغِمُنا فيها حُدُودُ إنسانِيَّتِنا على قُبُولِ الحقيقَةِ أنَّنا على الأقَلّ في هذه الحياة لن نستطيعَ أبداً إيجادَ حَلٍّ ظاهِرٍ لهذه التناقُضات التي نَجِدُها في الكتابِ المُقدَّس. وعلينا أن نُدرِكَ أنَّ طُرُقَ وأفكارَ الله تختَلِفُ عن أفكارِنا، كما تعلُو السماواتُ عنِ الأرض (إشعياء 55: 8، 9). التَّناقُضُ يُحَلُّ أحياناً عندما نُدرِكُ أنَّ القَضِيَّة ليسَت خياراً واحداً منَ الإثنين، بل الإثنَينِ معاً.
في واحدٍ من أكثَرِ التَّعاليم التي تبدُو مُتناقِضَة في كلمةِ الله، في هذه الإصحاحاتِ الثَّلاثَة، يستَخدِمُ بُولُس أيضاً إسرائيل كالمِثال الكِتابِيِّ الأعلى للإشارَةِ إلى شَيءٍ بالِغِ الأهمِّيَّة بالنِّسبَةِ لله: إرادة الكائناتِ البَشَريَّة الحُرَّة. فلقد منحَنا خالِقُنا الحُرِّيَّةَ والمَسؤُوليَّةَ لإتِّخاذِ الخَيارات. أمَّا اليَهُود فلقد إتَّخَذُوا الخَياراتِ الخاطِئة عندما رفَضُوا المَسِيَّا، وإختارُوا بأن لا يَعُودُوا بعدَ الآن شعبَ اللهِ المُختار للخلاص، وأن لا يكُونُوا أداةً لخلاصِ هذا العالم. لهذا يستخدِمُ بُولُس إسرائيل في هذه الإصحاحاتِ الثَّلاثَة كالمِثالِ الكِتابِيِّ الرَّائِع عن الحُرِّيَّة والمَسؤوليَّة التي زَوَّدَنا بها اللهُ لإتِّخاذِ الخيارات، سواءٌ أكانَت خياراتٍ صائِبَة أم خاطِئة.
الإصحاحاتُ الأربَعة الأخيرة من هذه الرِّسالَة هي عمليَّةٌ لِلغَايَة. في كُلِّ رسائِلِ بُولُس، نَجِدُ فصلاً مُحدَّداً بِدِقَّة بينَ التَّعليمِ والتَّطبيق. إحدى رسائِلِهِ تنقَسِمُ بالتَّساوي تقريباً بينَ ثلاثَةِ إصحاحاتٍ منَ التَّعليم، وثلاثة إصحاحات أُخرى منَ التطبيق. في هذه الرِّسالة، تقريباً ثلاثَة أرباع هذه الإصحاحات تُشَكِّلُ تعليمَ رسالَة رُومية (1- 11)، ورُبعُ هذه الإصحاحات يُشَكِّلُ التَّطبيق (12- 16).
تُشَكِّلُ هذه الرِّسالَةُ التُّحفَةَ اللاهُوتيَّةَ لهذا الرَّسُولِ العَظيم، وهذه الإصحاحاتِ التطبيقيَّة الأربَعة هي عمليَّةٌ لِلغايَة. يُظهِرُ بُولُس ويشرَحُ ويُطَبِّقُ كيفَ يستطيعُ الأشخاصُ المُبَرَّرُونَ أن يُطَبِّقُوا إنجيلَ التَّبريرِ على أنفُسِهم وإلتِزامَهُم بالله وبمشيئَتِهِ لحياتِهم، لحُكُومَتِهِم، ولبِعضِهِم البَعض، ولعالَمٍ ساقِطٍ يحتاجُ أن يسمَعَ الأخبارَ السَّارَّةَ التي أعلَنَها يسُوع.
عندما يَقُومُ بُولُس بِتَطبيقاتِهِ في هذهِ الرِّسالَة، يُواجِهُ ويُعالِجُ المشاكِلَ المحليَّة التي تمَّ إختِبارُها بينَ تلاميذ يسُوع في رُوما. فعندما كتبَ هذه الرِّسالة، لم يَكُنْ قد ذهبَ البَتَّةَ إلى رُوما. ولكن كانَ يُوجَدٌ قَولٌ بأنَّ كُلَّ الطُّرُق تُؤَدِّي إلى رُوما. وفي أسفارِهِ الكَثيرَة، إلتَقَى بالكثيرِ منَ المُؤمنينَ الذين كانوا قد سافَرُوا إلى رُوما وأصبحُوا جُزءاً من كنائِسِ المَنزِل في رُوما. ولقد إلتَقى أيضاً بمُؤمنينَ كانُوا جُزءاً من هذه المُجتَمَعاتِ الرُّوحيَّة. بهذه الطريقة، كانَ بُولُس مُطَّلِعاً تماماً على المشاكِل التي واجَهها في تطبيقِ إصحاحاتِ هذه الرِّسالَة.
- عدد الزيارات: 16962