Skip to main content

الفصلُ الرَّابِع "دَينُونَةُ الله"

(رُومية 2: 1- 29)

عندَما وصَلَ بُولُس في النِّهايَةِ إلى رُوما خلالَ رحلاتِهِ الإرساليَّة، بعدَ رحلَةٍ بحريَّةٍ محفُوفَةٍ بالمخاطِر، كانَ سَجيناً، ولكن أحسنَ سُجَّانُهُ الرُّومانُ مُعامَلَتَهُ. فلقد سُمِحَ لهُ بأن يستَقبِلَ زُوَّاراً، وكانَ أوَّلُ الزُّوار الذين طلبَ مُقابَلَتَهُم هُم القادَة الدِّينيُّون اليَهُود في مَدينَةِ رُوما. ولقد تجادَلَ معَهُم منَ الكُتُبِ المُقدَّسَة عن أُمُورٍ مُختَصَّةٍ بيَسُوع، وبملكُوتِ الله (أعمال 28: 17- 31).

عندما كتبَ بُولُس الإصحاح الثَّانِي من هذه الرِّسالَة إلى أهلِ رُومية، وكأنَّهُ كانَ يُخاطِبُ اليهُودَ الذين زارُوهُ عند أوَّلِ وُصُولِهِ إلى مدينَةِ رُومية. سأُقدِّمُ في هذا الكُتَيب مُوجَزاً مُلَخَّصاً عن هذا الوصف لدَينُونَةِ اللهِ العَتيدة التي قدَّمَها بُولُس في هذا الإصحاح.

في الإصحاحِ الأوَّل وصفَ بُولُس دَينُونَةَ اللهِ الحاضِرَة، التي تأتي في شَكلِ تعبيرٍ راهِنٍ عن غَضَبِ الله تجاهَ طبيعَةِ الإنسان وأعمالِهِ الفاجِرَة والآثِمَة. في هذا الإصحاحِ الثَّانِي، يتنبَّأُ بُولُس بِدَينُونَةِ اللهِ المُستَقبَلِيَّة، التي ستُعلِنُ تعبيراً مُستَقبَلِيَّاً عن غَضَبِ اللهِ على طبيعَةِ الإنسان الفاجِرَة والآثِمَة.

إنَّ تجاوُبَ اللهِ معَ شَخصِيَّةِ الإنسان الآثمة ينبَغي أن يَقُودَ دائماً في النِّهايَةِ إلى الدَّينُونَة. هكذا كانت الحالُ دائماً. لاحِظُوا في كلمَةِ الله كيفَ يحكُمُ اللهُ في النَّهايَةِ على طبيعَةِ الإنسان الخاطِئة. نقرَأُ في سِفرِ التَّكوين عن دَينُونَةِ اللهِ على سَدُوم وعمُورة، وعن طُوفان نُوح الرَّهيب (تكوين 19: 24-0 29؛ 6- 9).

أعلَنَ كاتِبُ الرِّسالَة إلى العِبرانِيِّين قائِلاً: "وكما وُضِعَ للنَّاسِ أن يَمُوتُوا مرَّةً، ومن ثَمَّ بعدَ ذلكَ الدَّينُونة..." (عبرانِيِّين 9: 27) في هذا الإصحاحِ الثَّانِي يُعطِينا بُولُس مُلَخَّصاً واقِعيَّاً عن ذلكَ المَوعِدِ معَ المَوتِ والدَّينُونَة، الذي سيُواجِهُهُ كُلٌّ منَّا أمامَ الله. يُوافِقُ بُولُس معَ كاتِبِ الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين، بأنَّهُ ستَكُونُ هُناكَ دينُونَةٌ منَ اللهِ في المُستَقبَل بعدَ المَوت.

يُعلِّمُ الكِتابُ المُقدَّسُ بإستِمرار أنَّ دينُونَةً مُستَقبَلِيَّةً ينبَغي أن تأخُذَ مجراها. ولقد وجدَ سُليمانُ الحكيمُ طريقَهُ للإستِنتاجِ أنَّ الطريقة الوحيدة التي بها بإمكانِنا أن نجِدَ حَلاً للحَقيقَةِ الصَّعبَة المُتَعلِّقَة بالمظالِم التي نراها في حياتِنا، هي بأن نَصِلَ إلى الخُلاصَةِ التَّاليَة: "ينبَغي أن تَكُونَ هُناكَ دينُونَة." (جامِعَة 3: 16- 17؛ 12: 13- 14) بِحَسَبِ بُولُس وكُتَّاب آخرينَ للعَهدين القَديم والجديد، الدينُونَةُ العتيدة هي واقِعَة حتمِيَّةٌ مُطلَقَةٌ.

كتبَ بُولُس أنَّ دينُونَةَ اللهِ هذه ستَكُونُ بِحَسَبِ الحَقّ (رُومية 2: 2) في هذا الإصحاح، تَذَكَّرُوا أنَّ بُولُس يُخاطِبُ اليَهُودَ أوَّلاً، ثُمَّ اليُونانيِّينَ أو الأُمَم، وتطبيقيَّاً، يُخاطِبُنا نحنُ بالطَّبع. فنحنُ جميعاً لدينا مَيلٌ لإدانَةِ الآخرينَ، خاصَّةً المُؤمنينَ الآخرين. ولكنَّ بُولُس يختَصِرُ الطَّريقَ عبرَ هذا النَّمُوذج منَ الدينُونَةِ الأُفُقِيَّة ويُصَرِّحُ بِوُضُوحٍ أنَّ دينُونَةَ اللهِ الآتية ستَكُونُ مَبنِيَّةً على حقيقَةِ ما يعَرِفُهُ اللهُ عن كُلِّ واحِدٍ منَّا. بينَما يُوضِحُ هذه النُّقطَة، يُضيفُ أنَّ دينُونَةَ اللهِ لا مَفَرَّ منها لِكُلِّ كائِنٍ بَشَرِيّ (3).

ثُمَّ يُعَلِّمُ أنَّ دينُونَةَ اللهِ ستَكُونُ تراكُمِيَّةً. فبِحَسَبِ بُولُس، نحنُ نخزُنُ لأنفُسِنا دينُوناتٍ منَ اللهِ على خطايانا، التي سنُواجِهُها وسنُعطِي عنها حِساباً يومَ الدينونَة. في هذا الإطار، يُعلِّمُ بُولُس أنَّ اللهَ يتحمَّلُ خطايانا الكَثيرَة لأنَّهُ طويلُ الأناة، وخُطَّتُهُ هي أن يَقُودَنا لُطفُهُ وإمهالُهُ إلى التَّوبَة  (4، 5).

يُعَلِّمُ بُطرُس هذه الحقيقَةَ نفسَها في رِسالَتِهِ الثَّانِيَة، مُضيفاً فكرَةَ أنَّ اللهَ لا يُريدُ أن يهلِكَ  أُناسٌ بل أن يُقبِلَ الجميعُ إلى التَّوبَةِ والخلاص (2بُطرُس 3: 9). يتَّفِقُ هذانِ القائِدانِ في كنيسَةِ العهدِ الجديد أنَّ دَينُونَةَ اللهِ هي بِحَسَبِ الحَقّ، وهي تراكُمِيَّة ولا مَفَرَّ مِنها.

ثُمَّ كتبَ بُولس أنَّ دينُونَةَ اللهِ ستَكُونُ دينُونَةً عادِلَةً بارَّة (5). فعندما سنُدانُ، لن تَكُونَ القَضِيَّةُ ما إعتَرَفنا أنَّنا نُؤمِنُ بهِ، بل كيفَ عِشنا حياتَنا. دينَونَةُ اللهِ ستَكُونُ بِحَسَبِ ما عَمِلنا وما لن نعمَلْ لأجلِ المسيحِ والله (6). وهُوَ يُعَلِّمُ هذه الحقيقَة نفسَها عنِ الدَّينُونَة في رسائِلِهِ للكُورنثِيِّين (2كُورنثُوس 5: 10).

في هذا الإطار، يُوافِقُ بُولُس معَ رَبِّهِ ومُخَلِّصِهِ أنَّ التَّطبيقَ هُوَ أكثَرُ أهمِّيَّةً جداً منَ الإعتِرافِ الشَّفَوِيّ. لقد أعلَنَ يسُوعُ بإستِمرار أنَّ ما لديهِ قيمَةٌ كُبرى بِنظَرِ اللهِ هُوَ الطريقة التي نتصرَّفُ بها، أكثر من الطريقة التي نعتَرِفُ بها بإيمانِنا. (متَّى 7: 24- 27؛ لُوقا 6: 46) عندما طهَّرَ يسُوعُ الهَيكَلَ بِشَكلٍ دراماتِيكيّ، تجاوَبَ معَ طَلَبِ رجالِ الدِّينِ الذين طَلَبُوا أن يَروا أوراقَ إعتِمادِهِ، تجاوَبَ بِمَثَلٍ أظهَرَ سُلطَتَهُ على هكذا عمَلٍ قاسٍ: "كانَ لإنسانٍ إبنان، فجاءَ إلى الأوَّلِ وقالَ يا إبنِي إذهَبِ اليَومَ إعمَلْ في كَرمِي. فأَجابَ وقالَ ما أُريدُ. ولكنَّهُ نَدِمَ أخيراً ومَضَى. وجاءَ إلى الثَّانِي وقالَ كذلكَ. فأجابَ وقالَ ها أنا يا سَيِّد. ولم يمضِ. فأيُّ الإثنَينِ عمِلَ إرادَةَ الآب؟ قالُوا لهُ الأوَّل. قالَ لهُم يسُوعُ الحقَّ أقُولُ لكُم إنَّ العَشَّارِينَ والزَّوانِي يسبِقُونَكُم إلى مَلَكُوتِ الله." (متَّى 21: 28- 31).

الحقيقَةُ الصَّعبَة التي يُعَلِّمُها هذا المَثَل هي أنَّ كُلاً من هَذَينِ الإبنَين إعتَرَفَ بِشَيءٍ، وكانَ عمَلُهُ مُناقِضاً لإعتِرافِهِ. لهذا لم يَكُنْ لإعتِرافِهِما إلا المعنى الزَّهيد. أداؤُهُما هُوَ الذي كانَ يَهُمُّ. كانَ يَسُوعُ يُعَلِّمُ بأنَّ سُلطَانَهُ الوحيد، منَ النَّاحِيَة البَشَريَّة، ينبَعُ منَ عجائِبِهِ، أو من أعمالِهِ. ولقد كانَ يُعَلِّمُ أيضاً أنَّ عملَهُ أو أداءَهُ صَرَّحَ أنَّهُ كانَ في كَرْمِ الآبِ، وأنَّ أداءَ أو عملَ أُولئكَ الذين كانَ يُكَلِّمُهُم لم يَكُن في كَرْمِ الآب، رُغمَ إعترافِهِم بكَونِهِ فيهِ.

رُغمَ أنَّ الرِّسالَةَ المَركَزِيَّة في هذه الرِّسالة إلى أهلِ رُومية هي أنَّنا لا نتبَرَّرُ بأعمالِنا الصَّالِحَة، بل بعمَلِ المسيحِ المُتَمَّم على الصَّليبِ لأجلِنا، في هذه الإصحاح يبدُو وكأنَّ رأي بُولُس يختَلِفُ عن قولِ يسُوع ويعقُوب: أنَّ الأعمالَ الصَّالِحَةَ تُصادِقُ على صِحَّةِ الإيمان الذي به يُعلِنُنا اللهُ أبراراً (يعقُوب 2: 21- 24).

إنسِجاماً معَ هذا التَّعليم، يكتُبُ بُولُس قائِلاً أنَّ دينُونَةَ اللهِ سَتَكُونُ بلا مُحاباة (رُومية 2: 11). آمنَ اليَهُودُ الذين كانَ بُولُس يُخاطِبُهُم في هذا الإصحاح أنَّه لم تَكُنْ لهُم حاجَةٌ للخلاص، لأنَّهُم وُلِدُوا يَهُوداً. وها هُوَ الآن يُضيفُ ويُعَلِّقُ على التَّعليمِ أعلاه، أنَّنا سنُدانُ بِحَسَبِ أعمالِنا وليسَ بِحَسَبِ إعتِرافنا الإيمانِيّ، وذلكَ بتصريحِهِ بِإسهابٍ أنَّ كَونَ الإنسان يَهُوديَّاً بالإنتِماءِ والإعتِرافِ الشَّفَوِيّ لا يكفي عندما سيلتَقي اللهَ كدَيَّان.

بالتطبيقِ الشَّخصِيّ، هذا التَّعليم ينبَغي أن تَكُونَ لهُ علاقَةٌ بأُولئكَ الذين يُؤمِنُونَ أنَّهُم مُخَلَّصُونَ، لأنَّهُم وُلِدُوا في عائِلةٍ مسيحيَّة، وبأنَّ لدَيهم والِدين أتقِياء وأنَّهُم إعتَمَدُوا وهُم لا يزالُونَ بعدُ أطفالاً. هذا لهُ علاقَةٌ بالأشخاصِ الطَّيِّبين، الذين يعيشُونَ حياةً مُهَذَّبَةً، ولدَيهِم منَ الصُّدقِ والإستِقامَةِ أكثَر مِمَّا لدى الكثير من تلاميذ يسُوع المسيح. إذا صادَفَ وكُنتَ أنتَ من هذا الصِّنف منَ النَّاس، بينما يُخاطِبُ بُولُس اليَهُود، لاحِظْ أنَّهُ يُخاطِبُكَ أنتَ كذلكَ، إن كُنتَ تَضَعُ ثِقَتَكَ بتُراثِكَ الدِّينيّ وبِإستِقامَتِكَ الأخلاقِيَّة أساساً لخلاصِكَ.

يتبَعُ هذا تعليمٌ عَظيمٌ يتحدَّى بُولُس من خلالِهِ أُولئكَ الذين كانُوا يَهُوداً بالوِلادَةِ، لِكَي يَكُونُوا بالعَمَلِ والأداء كُلَّ ما يُصَرِّحُ اليَهُودِيُّ أن يَكُونَهُ بالإعتِرافِ الإيمانِي. لقد كانَ اليَهُودُ فَخُورينَ بمُعجِزَةِ كونِ اللهِ قد أعطاهُمُ نامُوسَهُ، وبأنَّهُم كانُوا شعبَهُ المُختار ليُعَلِّمُوا نامُوسَهُ للآخرين. وكانُوا يعتَبِرُونَ الأُمَمَ "كلاباً" لأنَّهُم بالمُقارَنَة معَ اليَهُود، كانَ الأُمَميُّ مُنحَطَّاً رُوحيَّاً بِسُلُوكِهِ ولا يرتَقي عن مُستَوى الكَلب في هذا المجال. ولقد إعتَبَروا أنَّ الذين لم يَعرِفوا نامُوسَ اللهِ، بأنَّهُم "أطفال"، بينَما كانُوا يعتَبِرُونَ أنفُسَهُم "آباءَ" رُوحيَّاً. وكانَ الناسُ الآخرونَ يعيشُونَ في الظُّلمَةِ، بينما كانُوا هُم القادَةَ الرُّوحِيِّين للعُميان.

ولكن بُولُس تحدَّاهُم بِلا هَوادَة، بأن يُمارِسُوا ما يعتَرِفُونَ بهِ. وكَونُهُم مُعَلِّمينَ للنَّامُوس، هل يُطيعُونَ بأنفُسِهِم هذا النَّامُوس؟ يذكُرُ بُولُس لهُم بعضاً منَ الوصايا العَشر. فبينما يُعَلِّمُونَ الآخرينَ أن لا يَسرِقُوا، هل يسرُقُونَ هُم أنفُسُهم؟ ولقد سألَهُم بالتَّحديد إن كانُوا يسرِقُونَ الهَياكِل؟

وبما أنَّهُم كانُوا شَديدِي التَّعصُّب ضِدَّ عبادَةِ الأوثانِ بعدَ السَّبِي، لم يَشعُرُوا بأيِّ ذَنبٍ خلالَ مُمارَسَتِهِم لِسَرِقَةِ التَّماثيل منَ الهَياكِل الوَثَنِيَّة. وبما أنَّ هذه الأصنام كانت مصنُوعَةً منَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والحِجارَةِ الكريمة، غالِباً ما كانُوا يبيعُونَها بمبالِغَ طائِلَة منَ المال. لقد دافَعُوا عن تصرُّفِاتِهِم هذه بإدِّعائِهِم أنَّ اللهَ يكرَهُ الأوثانَ وهذا لم يُعتَبَر سَرِقَة.

إنَّ قُدرَةَ الكائنِ البَشَريّ – خاصَّة المُتَدَيِّن – على تبريرِ سُلُوكِهِ الخاطِئ، لا حُدُودَ لها. يختُمُ بُولُس هذه الإدانَة أو الحُكم على اليَهُود، بالتَّصريحِ أنَّ إسمَ اللهِ يُجدَّفُ عليهِ بينَ الأُمَم بِسَبَبِ طريقَةِ تصرُّفِ اليَهُود التي كانَت تُشَوِّهُ إعترافَهُم الإيمانِيّ. لنُطَبِّقَ هذا على حَياتنا، إذا وضعَنا ثِقَتنا بتُراثِنا الدِّينِيّ، الذي قد يكُونُ إعترافَ أهلِنا الإيمانِيّ، علينا أن نسأَلَ أنفُسَنا: هل أداؤُنا أو عملُنا هُو تشويهٌ أو إنحرافٌ لإعترافِنا الإيمانِيّ؟

علَّمَ بُولُس أنَّ دَينُونَةَ اللهِ ستَكُونُ بِحَسَبِ النَّامُوس على أُولئكَ الذي أخذُوا نامُوسَ الله (رُومية 2: 12- 15). ولقد وافَقَ معَ الأنبِياء أمثال عامُوس، الذي علَّمَ أنَّ الإمتيازاتِ الرُّوحيَّة العُظمى تعني مسؤوليَّةً رُوحيَّةً أعظم، ومُحاسَبةً رُوحيَّةً أكثر دِقَّةً أمامَ الله (عامُوس 5: 21- 27). كَونَهُم يَهُود، كانُوا فَخُورينَ بمُعجِزَةِ كَونِهِم نالُوا نامُوسَ الله. ولقد أوضَحَ بُولُس نقطَتَهُ بإطنابٍ أنَّ دَينُونَةَ اللهِ ستَكُونُ بِحَسَبِ نامُوسِ اللهِ لأُولئكَ الذين أُعطُوا نامُوسَ الله.

ويُضيفُ بُولُس الملاحَظَةَ أنَّ دَينُونَةَ اللهِ ستَكُونُ بيسُوع المسيح. يتَّفِقُ هذا القولُ معَ تصريحِ يسُوع بأنَّ الآبَ أعطَى مسؤوليَّةَ الدَّينُونَةِ لإبنِهِ (يُوحَنَّا 5: 22). بينما يُحاوِلُ البَعضُ أن يُخالِفُوا بُولُس رأيَهُ مُقَلِّلينَ من أهمِّيَّتِهِ، مُدَّعِينَ أنَّهُ يخالِفُ تعاليمَ يسُوع، الحقيقَةُ هي أنَّ بُولُس يُوازِي بإستِمرار تعليمَهُ معَ تعليمِ يسُوع، مُؤكِداً على مِصداقِيِّةِ الأخيرِ. تُوجدُ أوقاتٌ يُزَوِّدُ فيها تعليمَ رَبِّهِ، خلالَ نَوالِهِ الإعلان، مثلَ ذلكَ التَّعليم عنِ الزَّواج وعمَّا نُسَمِّيهِ إختطاف الكنيسة، الذي سيَكُونُ جُزءاً منَ رُجُوعِ يسُوع (1كُورنثُوس 7؛ 1تسالُونيكي 4: 13- 18).

ولكن عندما يُعالِجُ بُولُس مَوضُوعاً علَّمَ عنهُ يسُوع، يتوازَى تعليمُهُ دائماً وينسَجِمُ معَ تعليمِ يسُوع. أفضَلُ مِثالٍ على ذلكَ هُوَ الإصحاح الذي وجَّهَهُ للكُورنثِيِّين، جواباً على أسئِلَتِهِ حيالَ الزَّواج (1كُورنثُوس 7).

ثُمَّ يكتُبُ عن اليَهُودِيِّ في الدَّاخل واليَهُوديّ في الخارِج. بما أنَّ الخِتانَ كانَ العلامَةَ الخارِجيَّة لحقيقَةٍ داخِليَّة لكَونِ الإنسان يهُودِيَّاً، عالَجَ بُولُس مُشكِلَةَ كَونِ الكثير منَ اليَهُود كانُوا يُمارِسُونَ طقسَ الخِتان، بِدُونِ الحقيقَةِ الدَّاخِليَّةِ الكامِنَةِ وراءَ مُمارَسَةِ الختان. عندها ينصَحُ بما أسماهُ "خِتان القَلب."

لقد كانَ الخِتانُ بالحقيقَةِ إعتِرافَ تقديس، أو كون الإنسان مُنفَصِلاً عنِ الشَِّر ومفرُوزاً للهِ ولعيشِ حياةِ القداسَة. عندما حَضَّ بُولُس هؤُلاء اليَهُود على ختانِ قُلُوبِهِم، كانَ يَحُضُّهُم على أن ينفَرِزُوا لأجلِ اللهِ ولأجلِ حياةِ قداسَةٍ في قُلُوبِهِم، حيثُ تُوجَدُ إرادَاتُهُم، قراراتُهُم، ودوافِعُهم التي تَقُودُهم لإتِّخاذِ القَرارات.

ثُمَّ يأتي بهذا المعنى من تعليمِهِ عنِ الدَّينُونَة إلى نهايَتِهِ، وذلكَ بالتَّركيز على ما يعنيهِ أن يُفَعِّلَ الإنسانُ إعترافَهُ بكونِهِ يَهُودِيَّاً، بمُمَارَسَةٍ حقيقيَّةٍ تُبَرهِنُ أمامَ اللهِ والإنسان ما يعنيهِ حقَّاً كون الإنسان يَهُودِيَّاً.

في هذا الإطار، يُعَبِّرُ بُولُس عن مبدَأٍ لا بُدَّ أنَّهُ تعلَّمَهُ من المسيحِ المُقام. لا شَكَّ أنَّهُ لم يتعلَّمْ هذا المبدأ كفَرِّيسيٍّ منَ الفَرِّيسيِّين. ولقد عبَّرَ أيضاً عن هذا المبدأ في رسالَتِهِ الثَّانِيَة إلى أهلِ كُورنثُوس، والتي فيها دعا هذا المبدأ "رُوحَ النَّامُوس" مُقارَنَةً معَ "حرفِ النَّامُوس." (2كُورنثُوس 3: 6) يُمكِنُنا القَول أنَّهُ في هذا الإصحاح، يَصِفُ بُولُس رُوحَ ما يعني كون الإنسان يَهُودِيَّاً حقيقيَّاً، أي في الدَّاخِل والقَلب، لا في الخارِجِ والمَظهَر.

يُوجَدُ تطبيقٌ شَخصِيٌّ مُحَدَّدٌ للمُؤمنينَ الذين في رُومية، والذين لم يَكُونُوا يَهُوداً، ولي ولكَ في هذه الأيَّام. المعمُوديَّةُ هي الإعتِراف الخارِجيّ بحقيقَةٍ داخِليَّة أنَّنا نُؤمِنُ بالإنجيل، وأنَّنا مُتَّحِدينَ معَ يسُوع المسيح في مَوتِهِ وقيامَتِهِ. فالمعمُوديَّةُ كما يُوصِي بها يسُوعُ في مأمُوريَّتِهِ العُظمَى، هي إعترافٌ علَنِيٌّ بقرارٍ داخِليٍّ شَخصِيّ.

عندما يُقَرِّرُ شابٌّ وشابَّةٌ بينَهُما في السِّرِّ أن يتزوَّجا، يَكُونُ إحتِفالُ زواجِهِما تصريحاً علَنِيَّاً بذلكَ القَرارِ السِّرِّيّ الذي سبقا وإتَّخذاهُ. عندما نُؤمِنُ بيسُوع المسيح مُخَلِّصاً ونُقَرِّرُ أن نُسَلِّمَهُ قَلبَنا ونقبَلَهُ رَبَّاً على حياتِنا، يكونُ هذا قراراً داخِليَّاً. ولكنَّ معمُودِيَّتنا تأتي لتَكُونَ التَّصريحَ العَلَنِيّ لذلكَ القَرار الشَّخصِيّ الدَّاخِليّ. ولكن تماماً كما مارسَ أُولئكَ اليَهُودُ طقسَ الخِتان، بِدُونِ الحقيقَةِ التي كانَ يُشيرُ إليها رَمزُ الإعترافِ ذاك، هكذا أيضاً يُمكِنُ أن نُمارِسَ فريضَةَ المعمُوديَّةِ اليَوم، بِدُونِ الحقيقة الدَّاخِليَّة التي تُشيرُ إليها.

يُشَدِّدُ بُولُس على الحقيقَةِ القاسِيَة أنَّ دَينُونَةَ اللهِ سوفَ تُطالِبُنا بحقيقَةِ القَلب الدَّاخِليَّة عمَّا إعتَرَفَنا بهِ خارِجيَّاً وعَلَنِيَّاً. وهُوَ يبدَأُ موضُوعَ كونِ الإنسان يَهُودِيَّاً حقيقيَّاً، بالتَّعليمِ أنَّ دينُونَةَ اللهِ ستُعالِجُ أسرارَ (أو دوافِعَ) قُلوبِ الذين يَقِفُونَ أمامَ اللهِ للدَّينُونَة (رُومية 2: 16). كتبَ هذا الرَّسُولُ للكُورنثِيِّين يَقولُ أنَّهُ فقط عندما يكشِفُ اللهُ الدَّوافِعَ السِّريَّة الكامِنَة وراءَ أعمالِنا، فقط عندَها سنَنالُ مَدْحاً أو دينُونَةً (1كورنثُوس 4: 3- 5).

يتَّفِقُ داوُد وإرميا على إخبارِنا وحَضِّنا تجاهَ تفحُّص دوافِع قُلُوبِنا. يُعلِنُ إرميا أنَّ قُلُوبَنا هي شِرِّيرَة ومُخادِعَة. فهُوَ يَقُولُ، "القَلبُ أخدَعُ من كُلِّ شَيءٍ وهُوَ نَجيسٌ.." ثُمَّ يُضِيفُ مُتسائِلاً، "من يعرِفهُ؟" أي من يعرِف دوافِعَهُ السِّرِّيَّة؟ ويُجيبُ على هذا السُّؤال بإخبارِنا أنَّ اللهَ وحدَهُ كاشِف القُلُوب. (إرميا 17: 9، 10).

ثُمَّ يُرينا داوُد تمييزاً وحِكمَةً فوقَ العادَةِ عندَما يطلُبُ منَ اللهِ أن يرِيَهُ الأفكار التي لا ينبَغي أن تَكُونَ في ذهنِهِ، والدَّوافِع التي لا ينبَغي أن تَكُونَ في قَلبِهِ، لكَي يتسنَّى لهُ أن يتُوبَ عنها ويترُكَها، لأنَّهُ يُريدُ أن يمشِيَ في الطَّريقِ الأبديَّة (مَزمُور 139: 23، 24).

في هذا الإصحاح، يكتُبُ بُولُس عن دَّينُونَةِ اللهِ المُستَقبَلِيَّة التي سوفَ نُواجِهُها عندما ستُعلَنُ أسرارُ ودوافِعُ قُلُوبِنا، بينما نُواجِهُ دَينُونَةَ الله. التَّطبيقُ الشَّخصِيُّ لهذه النَّاحِيَة منَ الدَّينُونَة العتيدة، هُوَ أنَّهُ علينا أن نتعلَّمَ من بُولُس، من إرميا، ومن داوُد أن نتفحَّصَ دوافِعَ قُلُوبِنا الآن، لا أن ننتَظِرَ حتَّى تُكشَفَ لنا في الدَّينُونَة. وكما فعلَ داوُد، علينا أن نعتَرِفَ، نتُوبَ ونرجِعَ عن هذه الأفكار والدَّوافِع التي لا ينبَغي أن تَكُونَ في قُلُوبِنا، لأنَّنا نُريدُ أن نسلُكَ في الطَّريقِ الأبديّ.

التَّطبيقاتُ العمليَّةُ التَّعبُّدِيَّةُ في هذا الإصحاح ترتَبِطُ أيضاً بمَوضُوعِ الإعتِرافِ الشَّفهِي والأداءِ العمليّ. وإذ نتأمَّلُ بحقيقَةِ كونِنا سنَمُوتُ وبعدَ ذلكَ سنُدان، هل نَضَعُ ثِقَتَنا بكَونِنا أعضاءَ كنيسَةٍ أو طائِفةٍ مُعَيَّنَة؟ وهل نضَعُ ثِقتَنا أو إيمانَنا بإستِقامَتِنا الأخلاقِيَّة، أو بِأعمالِ بِرِّنا الذَّاتِيّ؟ الملايينُ يُؤمِنُونَ أنَّهُ إن كانَ هُناكَ دَينُونَة، فسوفَ يَكُونُونَ بأمانٍ، لأنَّهُم كانُوا صالِحِينَ ولم يُؤذُوا أحداً في حَياتِهِم. هل أنتَ واحِدٌ من هؤُلاء النَّاس؟ وهل نحنُ نعمَلُ الشَّيءَ ذاتَهُ الذي عمِلَهُ اليَهُودُ الذين وجَّهَ لهُم بُولُس هذا الإصحاحِ الثَّانِي؟

لقد أخبَرَنا بُولُس في هذا الإصحاح ما لا ينبَغي علينا أن نضَعَ ثِقَتنا بهِ لأجلِ خلاصِنا. وإذ يُتابِعُ بتقديمِ هذه التُّحفة اللاهُوتيَّة، علينا أن نتعلَّمَ بالتَّحديد ما ينبَغي علينا أن نضَعَ ثِقَتنا وإيمانَنا بهِ لأجلِ خلاصِنا، إذ نقتَرِبُ تدريجيَّاً منَ المَوتِ والدَّينُونَةِ الحَتمِيَّة.

  • عدد الزيارات: 3347