الفَصلُ السَّادِس "التَّعريفُ الحَيُّ للإيمان"
عندَما يُريدُ اللهُ أن يُوصِلَ فِكرَةً عظيمَةً، يُغَلِّفُ تلكَ الفِكرَة في حياةِ شَخص. وكما أشرتُ سابِقاً، في أوَّلِ سفرٍ من أسفارِ الكتابِ المقدَّس، يُريدُنا اللهُ أن نستَوعِبَ مفهُومَ الإيمان. لِهذا، يُعَرِّفُنا على هذا الرَّجُل إبراهيم. عندما نَلتَقِي بهِ، نجدُ إسمَهُ أبرام، الذي يعني، "أب أبناء كَثيرين." ولكنَّهُ كانَ في الخامِسَةِ والسَّبعينَ من عُمرِهِ، ولم يَكُنْ لدَيهِ أيُّ إبن. تصوَّرْ هذا الرَّجُلِ العجُوز يُعَرِّفُ عن نفسِهِ بأنَّهُ "أبُو أبناءٍ كثيرين." لَرُبَّما سألَهُ النَّاسُ، "كم إبناً لدَيكَ أيُّها الشَّيخ العَجُوز؟"
ثُمَّ تصَوَّرُوهُ يَشرَحُ قائِلاً أنَّهُ لم يَكُنْ لدَيهِ أيُّ ولَد بتاتاً، ولكن إن كانَ بإمكانِكُم أن تَعُدُّوا نُجومَ السَّماء، أو الرَّمل الذي على شواطِئِ بحارِ هذا العالم، عندَها ستُكَوِّنُونَ فِكرَةً عمَّا سيَكُونُ عددُ نسلِهِ يوماً ما. وإذا سألُوهُ كيفَ عرفَ أنَّ هذا الأمر سيَتَحَقَّقُ، لَرُبَّما كانَ يُجيبُ سائِليه، "اللهُ أخبَرَني بِذلكَ!"
وإذا إستَفَضْتُم في إستِخدامِ خيالِكُم إلى ما هُوَ أبعد من ذلكَ، وتفكَّرتُم بأُولئِكَ النَّاس الذين رأوه بعدَ بِضعِ سنواتٍ وسألُوهُ، "يا أبرام، هل صارَ عندَكَ بَنين؟" لَرُبَّما كانَ يُجيبُ، "منذُ أن رأيتُكُم للمَرَّةِ الأخيرة، غَيَّرَ اللهُ إسمِي من "أبرام" إلى "إبراهيم"، الذي يَعني، أبو أُمَمٍ منَ البَنين!" وإذا أجابُوهُ بالقَول، "حسناً، ينبَغي أن يَكُونَ لدَيكَ إبنٌ واحِدٌ على الأقلّ." لَرُبَّما كانَ يُجيبُ، "كلا، بالحقيقَةِ ليسَ لي إبنٌ. ولكن..." ثُمَّ َيُكَرِّرُ مواعِيدَ اللهِ عن أنَّ نسلَهُ سيَكُونُ كنُجُومِ السماءِ في الكثرة وكالرَّملِ الذي على شاطِئِ البَحر.
المُعجِزَةُ هي أنَّ كُلَّ يَهُودِيٍّ، وكُلَّ عَرَبِيٍّ مُسلِم، وكُلَّ مَسيحيٍّ في هذا العالم، يعتَبِرُ أنَّ إبراهيمَ أباهُ. هل تَرونَ لماذا يَذكُرُ كُتَّابُ الأسفارِ المُقدَّسة إسمَ إبراهيم عندما يُحاوِلُونَ أن يُعَلِّمُونَا عنِ الإيمان؟
في دِراسَتِي لِسِفرِ التَّكوين، قُلتُ أنَّهُ في الإصحاحاتِ الأحد عشَر الأُولى من هذا السِّفر، يُسَجِّلُ اللهُ لنا بدايَة الكَون، الأرض، الرجُل، المرأة، الزَّواج، العائِلة، الخَطيَّة، النِّزاع، الحُكم أو الدَّينُونة، اللُّغات، والأُمَم القَديمة التي يعتَبِرُها اللهُ جديرَةً بالذِّكر. والإصحاحاتُ الثَّمانِية والثَّلاثُون الباقِيَة تُسَجِّلُ دراسَةَ ثلاثَةِ شَخصِيَّاتٍ، لأنَّ اللهَ يعرِفُ أنَّ النَّاسَ مُهتَمِّينَ بالأشخاصٍ، ونحنُ نتعلَّمُ مفاهِيمَ هامَّة عندما يُغَلِّفُ اللهُ هذه المفاهيم في غلافِ شخصِيَّاتٍ بَشَريَّةٍ.
الإيمانُ هُوَ المفهُومُ الهامُّ الذي يُغَلِّفُهُ اللهُ في حياةِ إبراهيم. خلالَ قِراءَتِنا لِرسالَةِ رُومية، هذه التُّحفة اللاهُوتيَّة لبُولُس الرَّسُول، والتي تتكلَّمُ بِمُجمَلِها عن التَّبرير بالإيمان، بإمكانِنا أن نرى لماذا يُعطي اللهُ هذا المقدار منَ الأولويَّة في المساحَة الكِتابِيَّة ليُخبِرَنا عن شَخصٍ يُرينا ما هُوَ الإيمان. فالإيمانُ هُوَ إيجادُ الإنسانِ للهِ وثِقَتُهُ بهِ، وإيجادُ اللهِ للإنسان. إذا راجعتُم دِراسَتي لسفرِ التَّكوين، ستَجِدُونَ أنَّني أتعقَّبُ أثَرَ ما تعلَّمناهُ عنِ الإيمان، خلالَ قراءَتِنا عن كيفَ وجدَ اللهُ إبراهيم وكيفَ وجدَ إبراهِيمُ اللهَ الذي سبقَ وفتِّشَ عنهُ ووجدَهُ.
إذ يَجِدُ بُولُس الرَّسُول تعريفَهُ الحَيُّ للإيمان في شَخصِ إبراهيم، يُرَكِّزُ على واحِدَةٍ من أكثَرِ ظُهُورِاتِ الله الدّراماتيكيَّة لهذا الإنسان، عندما كانَ يُقارِبُ المئة سنة منَ العُمر. وكانَ اللهُ قد غَيَّرَ إسمَهُ للتَّوِّ، وكرَّرَ وعدَهُ عن نسلِ إبراهيم الذي سيَكُونُ مثلَ نُجومِ السَّماءِ ورملِ البَحرِ في الكَثرة. في مُناسَبَةِ ظُهُورِ اللهِ لإبراهيم، أظهَرَ اللهُ لإبراهيم، بطَريقَةٍ حرفِيَّةٍ وديناميكيَّة، أنَّ إلهَهُ كانَ في عهدٍ وثيقٍ معَهُ.
لم تَكُن القَوانين المُلزِمَة مَوجُودَةً في تلكَ الأيام التي سارَ فيها إبراهيم رحلَةَ إيمانِهِ. ففي تلكَ الأيَّام، إرتَبَطَ بقاءُ رَجُلٍ ثَرِيٍّ مثل إبراهيم على كَونِهِ في عَهدٍ، أو على المُعاهداتِ التي أقامَها معَ رجالٍ آخرينَ أغنياء وأقوياء مثلَهُ. فالحمايَةُ الوحيدَةُ التي تمتَّعَ بها رَجُلٌ مثل إبراهيم من مخاطِرِ اللُّصُوصِ والأعداء كانَ علاقَةَ العهدِ معَ رَجُلٍ آخر، بإمكانِهِ أن يَهُبَّ لِنَجدَةِ إبراهيم عندَ الحاجَة، مُجنِّداً لذلكَ الهَدَف الذين يستَخدِمُهُم ضدَّ العدوّ المُشتَرك.
وعندما كانُوا يدخُلُونَ في هكذا عهد، كانَ لدَيهم طَقسٌ معقَّد، كانَ يُصبِحُ رَسمِيَّاً وسارِيَ المفعُول عندَ مَسيرَةِ العهدِ وختمِ العهد الذي كانَ يقطَعهُ الطَّرفانِ لبَعضِهِما البَعض. كانَ إحتِفالُ قطعِ العهدِ يبدَأُ بِوُقُوفِ الطَّرَفَينِ مُقابِلَ بَعضِهِما البَعض، تتوسَّطُهُما ذَبيحَةٌ حيوانِيَّة. وكانت مسيرَةُ العهدِ تجري بعدَ أن يمشِيَ كُلٌّ منهُما وسطَ قِطعِ الذَّبيحة المفصُولَة إلى شِقَّين، ثمَّ يستَديرُ في دائِرَةٍ كامِلة، ثُمَّ يجتازُ عبرَ شِقَّي الذَّبيحَةِ ثانِيَةً ويدُورُ دورَةً ثانِيَة بالإتِّجاهِ المُعاكِس. فكانَ شَكلُ مَسيرَةِ العَهدِ يُشبِهُ عدد ثمانِيَة بالأجنَبِيَّة: 8.
بَينَما كانَ هَؤُلاء يَسيرُونَ مَسيرَةَ العهد، كانُوا يَضَعُونَ سَيفاً ويُحَمُّونَهُ بالنَّارِ جانِباً. ثُمَّ كانُوا يختُمُونَ العهدَ بوضعِ السَّيفِ المُحمَّى بالنَّارِ على ساعِدِ كُلٍّ منَ الطَّرفَينِ المُتعاهِدَين. وكانَ هذا بالطَّبعِ يحرُقُ ويترُكُ سِمَةً تبقى على جِلدِ حامِلِها مدى الحياة. فعندما كانَ الأعداءُ المُحتَمَلُونَ يَرَونَ علامَةَ عهدٍ، كانُوا يَعرِفُونَ أنَّ هكذا شَخص كانَ في عَهدٍ معَ قُوى أُخرى إمَّا مُساوِيَة لهُ أو أقوَى منهُ. فإذا هاجَمُوهُ، كانَ عليهِم أن يُحارِبُوا أيضاً الطَّرفَ الآخر الذي تعاهَدَ معَهُ الذي يُحارِبُونَهُ.
جميعُ ظُهُوراتِ اللهِ لإبراهيم، حيثُ وعدَ اللهُ إبراهيم بأنَّ نسلَهُ سيَكُونُ كثيرَ العدد، كانت بمثابَةِ عهدٍ قطَعَهُ اللهُ معَ إبراهيم. في الإصحاحِ الخامِس عشَر من سفرِ التَّكوين، كَرَّرَ اللهُ عهدَهُ لإبراهيم، وأمرَهُ بأن يُعِدَّ ذَبيحَةً. ثُمَّ أوقعَ على إبراهيم سُباتاً عميقاً.
عندَما أيقَظَ اللهُ إبراهيم من سُباتِهِ، رأى إبراهِيمُ شُعلَةً منَ النَّارِ تتجوَّلُ فوقَ الذَّبيحَةِ التي أعدَّها، والتي تتبَعُ بمَسيرَتِها شكلِ ثمانِيَة بالأجنَبِيَّة، إشارَةً إلى العهد. عبرَ هذه الصُّورَة المجازِيَّة المَهُوبَة، كانَ اللهُ يَقُولُ لإبراهيم، "أنا في عهدٍ معكَ." بعدَ ذلكَ نقرَأُ العَدَدَ الذي يقتَبِسُهُ بُولُس من تفاصِيلِ هذا الإختِبار: "آمنَ إبراهِيمُ باللهِ، فحَسِبَهُ لهُ بِرَّاً." (تكوين 15: 6، 22؛ رُومية 4: 3).
قِصَّةُ هذا الرَّجُل كما هِيَ مُدَوَّنَةٌ في سفرِ التَّكوين، تُغَطِّي حوالَي خمسةً وعشرينَ سنَةً من حياتِهِ. نحتاجُ أن نتذكَّرَ أنَّ اللهَ يُريدُنا أن نقرَأَ هذه القصَّة بكامِلِها، ومن ثَمَّ أن نُدرِكَ أنَّ القِصَّةَ بكامِلِها مُدَوَّنَةٌ لتُظهِرَ لنا ولتُخبِرَنا بِتَعريفِ كلِمَةٍ واحِدَة: إيمان.
يُرَكِّزُ بُولُس فَقَط على عددٍ واحِدٍ من هذه القِصَّة الرَّائِعة، الذي يُعلِنُ أنَّهُ عندما رأى إبراهيمُ الشُّعلَةَ الخارِقَةَ للطبيعة تتحرَّكُ فوقَ قِطَعِ الذَّبيحة، صدَّقَ اللهَ. فهُوَ لم يُؤمِن فقط بِوُجُودِ اللهِ، بل آمنَ بعهدِ اللهِ معَهُ. كانَ إلهُهُ يَقُولُ لهُ شَيئاً، فآمنَ بما قالَهُ لهُ الله. عندما رأى اللهُ أنَّ إبراهيمَ آمنَ بهِ وصدَّقَهُ، قدَّمَ التَّصريحَ أنَّهُ حَسِبَ إيمانَ إبراهيمَ لهُ بِرَّاً.
- عدد الزيارات: 8468