الفَصلُ الثَّالِث "الإنجيلُ بِحَسَبِ بُولُس"
(رومية 1: 17- 32)
الكَلِماتُ الأخيرَةُ من تحيَّةِ بُولُس تُمَهِّدُ لهُ الطَّريق ليَبدَأَ تُحفَتَهُ اللاهُوتيَّة. رُغمَ أنَّنا تأمَّلنا في برامِجِنا الإذاعيَّة بهذه الأعداد بالتَّفصيل، سوفَ أكتَفِي بتَلخيصِها في هذا الكُتَيِّب. عندما يُعلِنُ أنَّهُ لا يستَحِي بالإنجيل، يُتْبِعُ هذا الإدِّعاء بِتَصريحٍ يَقُولُُ فيهِ أنَّ الإنجيلَ يَكشِفُ حَقيقَتَينِ عظيمَتَين عنِ الله: يُعلِنُ الإنجيلُ بِرَّاً يُعطَى منَ اللهِ لكَ ولي، إذ نكتَسِبْهُ بالإيمان. ويُعلِنُ الإنجيلُ أيضاً غضبَ اللهِ على الذين ليسُوا أبراراً (16- 18).
كمُقَدِّمَةٍ لهذه التُّحفَة اللاهُوتيَّة لبُولُس، أوَدُّ أن أُقَدِّمَ لمحَةً مُوجَزَةً عنِ الإصحاحاتِ الأربَعَةِ الأُولى من رسالَةِ بُولُس إلى أهلِ رُومية، الأمرُ الذي تعلَّمْتُهُ من أحدِ اللاهُوتِيِّينَ ودارِسي الكتابِ المُقدَّس، الدُّكتُور David Stuart Briscoe:
"في الإصحاحاتِ الأربَعة الأُولى من رسالَةِ بُولُس هذه، يُخبِرُنا ما هُوَ الله: اللهُ بارٌّ. ثُمَّ يُخبِرُنا ماذا يُريدُ اللهُ منِّي ومنكَ أن نَكُون: يريدُنا اللهُ أن نَكُونَ أبراراً. ثُمَّ يُخبِرُنا عمَّن يدينُهُ الله: اللهُ يَدينُ كُلُّ من ليسَ بارَّاً. ثُمَّ يُخبِرُنا بُولُس عمَّا يعرِفُهُ الله: اللهُ يعرِفُ أنَّنا بِجُهُودِنا الشَّخصِيَّة لن نَستَطيعَ ولا بِمليُونِ سنَةٍ منَ المُحاوَلَةِ بأن نُصبِحَ أبراراً بشكلٍ كافٍ لنُخَلِّصَ نفُوسَنا بأعمالِنا الصَّالِحة. هذه الحقائِق عنِ اللهِ قد يَتِمُّ وصفُها بالأخبارِ السَّيِّئَة."
"هذا يَقودُ بُولُس للحَديثِ عنِ الأخبارِ السَّارَّة – والتي تُشَكِّلُ قَلبَ ورُوحَ هذه الرِّسالَة الرَّائعَة – عندما يُخبِرُنا عمَّا عِمَلَهُ الله. فلقد جاءَ اللهُ إلى هذا العالم بِشَخصِ إبنهِ وقدَّمَهُ كالذَّبيحَةِ الوحيدة التي تستطيعُ أن تُخَلِّصَنا من خطايانا وتُمَكِّنُنا من أن نُعلَنَ أبراراً من قِبَلِ الله. ثُمَّ يُخبِرُنا بُولُس عمَّا يُريدُنا اللهُ أن نعمَلَ: اللهُ يُريدُنا أن نُؤمِنَ بهِ عندما يُخبِرُنا في كَلِمَتِهِ عمَّا فعلَهُ لأجلِ خلاصِنا من خطايانا ومن أجلِ إعلانِنا أبراراً."
هذا الجزءُ الأوَّلُ من تفسيرِ بُولُس العميق والشامِل للإنجيل، نَجِدُهُ مُلَخَّصاً في العددِ الأَوَّل من الإصحاحِ الخامِس، عندما يكتُبُ قائِلاً: "فإذ قد تَبَرَّرنا بالإيمان، لنا سلامٌ معَ اللهِ بِرَبِّنا يسُوع المسيح."
عندما يكتُبُ بُولُس أنَّ بِرَّ اللهِ مُعلَنٌ في الإنجيل، يُضِيفُ على هذا القَول جوهَرَ رسالَةِ النَّبِي حبقُّوق، عندما كتب قائِلاً: "لأنَّ فيهِ مُعلَنٌ بِرُّ اللهِ بإيمانٍ لإيمان كما هُوَ مكتُوبٌ أمَّا البَارّ فبالإيمانِ يحيا." (رومية 1: 17؛ حبقُّوق 2: 4) هذا هُوَ العدد الذي إستَخدَمَهُ اللهُ ليُحَرِّكَ قَلبَ مارتن لُوثر، والذي أصبحَ القُوَّة الدَّافِعة للإصلاحِ الإنجيليّ. فبِمعنىً ما، كُلُّ طائِفَةٍ إنجيليَّة تَدينُ بِوُجُودِها لهذا العددِ الفَريد منَ الكتابِ المُقَدَّس.
فعندما قرأَ مارتن لُوثر هذا العدد، كانَ المُؤمِنُونَ يتعلَّمُونَ أنَّ الخلاصَ كانَ مُؤَسَّساً على أعمالِ البِرّ الصَّالِحة. وكانَ لُوثر يسعَى نحوَ هذا النَّوع منَ الخلاص، وذلكَ بِرحلَةٍ ماراتُونيَّةٍ طويلة من أعمالِ الإماتَةِ والبِرِّ الذَّاتِيّ، التي كانت تتضمَّنُ جَلدَ النَّفسِ بالسَّوط، وإماتاتٍ مثل صُعُود الأدراج على رُكَبِهِ، ظانَّاً أنَّهُ بذلكَ يكسَبُ خلاصَهُ. هل بإمكانِكَ أن تتصوَّر كيفَ قفَزَت هذه الكلماتُ من على صفحَةِ الكتابِ المُقدَّس إلى أمامِ وجهِ لُوثَر في ذلكَ الصَّباح: "...لأنَّ فيهِ مُعلَنٌ بِرُّ اللهِ بإيمانٍ لإيمان كما هُوَ مكتُوبٌ أمَّا البَارّ فبالإيمانِ يحيا." كتبَ لُوثَر قُربَ العَدَد 17 من رُومية 1، على هامِشِ النَّسخَةِ اللاتِينيَّة للكتابِ المُقدَّس، الكلمة اللاتِينيَّة “Sola”، أي "وحدَهُ." لقد بدأَ لُوثَر يفهَمُ أنَّهُ بالإيمانِ وحدَهُ، وليسَ بالأعمالِ، يتبرَّرُ الإنسان.
وصلَ بُولُس هُنا إلى تقديمِهِ العميق والشَّامِل للإنجيل. بعدَ أن كانَ قد بدأَ الحديث عنِ الأخبارِ السَّارَّة النَّاتِجَة عنِ البِرِّ الذي بالإيمان، يتكلَّمُ بعدَها عن الحقيقَةِ الثَّانِيَة، عن اللهِ المُعلَن عنهُ في الإنجيل: الطريقَةُ التي ينطَبِقُ بها غَضَبُ اللهِ على كُلِّ الأثَمَة، حيثُ يكتُبُ قائِلاً: "لأنَّ غَضَبَ اللهِ مُعلَنٌ منَ السَّماءِ على جَميعِ فجُورِ النَّاسِ وإثمِهِم، الذين يحجُزُونَ الحَقَّ بالإثم."
ثُمَّ ينتَقِلُ بُولُس إلى دِراسَتِهِ المُوحَى بها عن طبيعَةِ اللهِ وطبيعَةِ الإنسان، كما كانت في ذلكَ الزَّمان، وكما هي عليهِ الآن. في سفرِ التَّكوِين، نجدُ دراسَةً مُشابِهَةً عنِ اللهِ والإنسان، عندما ظهَرا على حَقيقَتِهِما. (كلمة "إنسان" تُستَخدَمٌ بالمعنَى الشَّامِل في الكتابِ المُقدَّس، ولا يُقصَدُ منها الرِّجالُ بإستِثناءِ النِّساء.)
لقد أظهَرَ لنا يسُوعُ كيفَ نُفَسِّرُ مقاطِعَ مثل تلكَ التي كتبَها بُولُس ومُوسَى. فعندما طُرِحَ على يسُوع سُؤالٌ عنِ الزَّواج، قالَ بِكَلِمَةٍ أَو بأُخرى، "إذا أردتَ أن تفهَمَ الزَّواجَ كما هُوَ الآن، عليكَ أن ترجِعَ إلى البِدايَةِ وأن تفهَمَ الزَّواجَ كما خطَّطَ اللهُ لهُ أن يكَونَ في ذلكَ الزَّمان." (متَّى 19: 3- 12) يُخبِرُنا بُولُس عن سُقُوطِ العائِلَة البَشَريَّة كما كانَ، لأنَّهُ يُريدُنا أن نفهَمَ طبيعَةَ العائِلَةِ البَشَريَّة ومشاكِلَها كما هي عليهِ الآن.
لاحِظُوا أنَّهُ إبتداءً منَ العدد 18، يكتُبُ بُولُس مقطَعاً لا يُعتَبَرُ مُحَبَّباً بينَ مقاطِعِ الكتابِ المُقدَّس للدراسَة، أو على الأقل هذا المقطع ليسَ المَقطَعَ المُفضَّلَ عندي في الكتابِ. كُلُّ الكِتابِ هُوَ مُوحَىً بهِ منَ اللهِ، ولكنَ ليسَ بالضَّرُورَةِ كُلُّ الكتابِ مُوحٍ أو مُمتِعٍ في قراءَتِه. ولكن رُغمَ عدم كَونِ هذا المقطع منَ المقاطِعِ المُنيرَة في الكتابِ المُقدَّس، إلا أنَّهُ من المقاطعِ الواقِعيَّةِ العميقة. وهُوَ يبدَأُ بقَولِهِ لنا، "لأنَّ غَضَبَ اللهِ مُعلَنٌ منَ السَّماء على جَميعِ فُجُورِ النَّاسِ وإثمِهِم، الذين يحجُزُونَ الحَقَّ بالإثم." (رُومية 1: 18)
لاحِظُوا أنَّ غَضَبَ اللهِ مُوجَّهٌ لأمرَين: فُجُور النَّاس وإثمِ النَّاس. يُخبِرُنا المُفسِّرُونَ البارِعُونَ للكتابِ المُقدَّس بأنَّ هذا لهُ علاقَةٌ بكَونِ الوصايا العَشَر قد أُعطِيَت على لَوحَين. اللوحَةُ الأُولى أُدرِجَت عليها الوصايا التي نظَّمَت علاقَةَ الإنسانِ بالله. كانت تُوجَدُ سِتَّةُ وصايا على اللَّوحَةِ الثَّانِيَة، التي كانت تُنَظِّمُ علاقَةَ الإنسانِ معَ أخيهِ الإنسان.
يعتقِدُ هؤُلاء المُفسِّرُون أنَّهُ بما أنَّ هذه الوصايا الأربَعة الأُولى تُظهِرُ لشَعبِ اللهِ كيفَ يَكُونُون أتقِياء، فعندما يُشيرُ بُولُس إلى "فُجُورِ النَّاس،" يقصِدُ بذلكَ خرقَ أوَّل أَربَع وصايا منَ النَّامُوس. بِكَلِماتٍ أُخرى، عندما ينتَهِكُ الإنسانُ الوَصَايا الأربَع الأُولى، يُعتَبَرُ فاجِراً، أي مُخطِئاً ضِدَّ الله، "لا يَكُنْ لكَ آلِهَة أُخرى أمامِي. لا تَصنَعْ لكَ تِمثالاً منحُوتاً ولا صُورَةً ما مِمَّا في السَّماءِ من فَوق، وما في الأرضِ من تحتُ، وما في الماءِ من تحتِ الأرض. لا تَسجُدْ لهُنَّ ولا تَعبُدُهُنَّ. لأنِّي أنا الرَّبُّ إلهَكَ إلهٌ غَيُورٌ أفتَقِدُ ذُنبَ الآباءِ في الأبناءِ في الجيلِ الثَّالِث والرَّابِع من مُبغِضِيَّ. وأصنَعُ إحساناً إلى أُلُوفٍ من مُحِبِّيَّ وحافِظي وصاياي. لا تَنطِقْ بإسمِ الرَّبِّ إلهكَ باطلاً. لأنَّ الربَّ لا يُبرِئُ من نطَقَ بإسمِهِ باطِلاً. أُذكُرْ يومَ السَّبتِ لِتُقَدِّسَهُ. ستَّةَ أيَّامٍ تعمَلُ وتصنَعُ جَميعَ عمَلِكَ. وأمَّا اليَومُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبتٌ لِلرَّبِّ إلهِكَ. لا تَصنَعْ عملاً ما أنتَ وإبنُكَ وإبنَتُكَ وعَبدُكَ وأَمَتُكَ وبَهِيمَتُكَ ونَزِيلُكَ الذي داخِل أبوابِكَ. لأنْ في سِتَّةِ أيَّامٍ صَنعَ الرَّبُّ السَّماءَ والأرض والبَحرَ وكُلَّ ما فيها. وإستَراحَ في اليَومِ السَّابِع. لذلكَ بارَكَ الرَّبُّ يومَ السَّبتِ وقدَّسَهُ." (خُرُوج 20: 3- 11)
وبما أنَّ الوَصايا السِّتّ الباقِيَة على اللَّوحَةِ الثَّانِيَة تَرعَى علاقاتِ شَعبِ اللهِ معَ بعضِهِم، فإذ يُشيرُ بُولُس إلى "الإثم"، يقصُدُ خرقَ الوصايا السِّتّ المَوجُودة على اللَّوحَةِ الثَّانِيَة. عندما فَشِلَ شعبُ اللهِ بأن يعمَلَ الصَّوابَ في علاقاتِهِم، وقعُوا في الإثم: "أكرِمْ أباكَ وأُمَّكَ لِكَي تَطُولَ أيَّامُكَ على الأرض التي يُعطيكَ إيَّاها الرَّبُّ إلهُكَ. لا تَقتُلْ. لا تَزنِ. لا تَسرِقْ. لا تَشهَدْ على قَريبِكَ شَهادَةَ زُورٍ. لا تَشتَهِ بَيتَ قَريبِكَ. لا تَشتَهِ إمرأَةَ قَريبِكَ ولا عَبدَهُ ولا أمَتَهُ ولا ثَورَهُ ولا حِمارَهُ ولا شَيئاً مِمَّا لِقَريبِكَ." (خُرُوج 20: 12- 17).
عندَما يكتُبُ بُولُس أنَّ جوابَ اللهِ على الفُجُورِ والإثم هُوَ غَضَبُ الله، علينا أن نسألَ أنفُسَنا: "ماذا يقصُدُ بُولُس، مُوسَى، الأنبِياء، وباقي كُتَّابِ الأسفارِ الإلهيَّةِ المُقدَّسة، عندما يُشيرُونَ إلى غََضَبِ الله؟ يعتَقِدُ الكَثيرُونَ أنَّ مَفهُومَ غَضبِ اللهِ يُوجَدُ فقط في العهدِ القَديم، وأنَّهُ سابِقٌ للتَّارِيخ، بِدائِيٌّ، وهُوَ مفهُومٌ للهِ أنارَ الأتقياءَ ليُؤمِنُوا بهِ. ولكن كم منَ الوَقتِ مضى منذُ أن سَمِعتَ لآخِرِ مرَّةٍ عظَةً عن غَضَبِ الله؟ أو قد نسأَلُ، "هل سمعتَ في حياتِكَ، ولو لِمَرَّةٍ واحدَةٍ، عِظَةً عن غَضَبِ الله؟"
- عدد الزيارات: 8157