Skip to main content

الدرس الخامس عشر: المجامع المسكونية -2-

مجمع خلقدونية 451 م

أعطى الله جميع ما يلزم الوصول إلى معرفته في أسفار الكتاب المقدس، الكتاب المقدس هو الذي تعتمد عليه الكنيسة المسيحية للوصول إلى معرفة جميع ما يلزم الإيمان به، لكن الكتاب يفهم بصورة سريعة إذ أنه كمنجم لكنوز لا تعد ولا تحصى ولذلك يتوجب على الكنيسة أن تستمر في دراستها لكلمة الله وأن تذهب إليها في جميع المجادلات والمناقشات. لأن المهم هو الوقوف على تعليم كلمة الله لا على آراء بني البشر.

وفي تاريخ الكنيسة القديم نشاهد صحة ما ذكرناه بصورة خاصة عندما ندرس إيمان الكنيسة بخصوص الرب يسوع المسيح. رأينا مثلاً أن الأسقف آريوس الاسكندري أنكر أزلية المسيح وعلّم أنه مخلوق. انبرى للدفاع عن إلوهية المسيح وأزليته الأسقف أثناسيوس (الذي كان في بادئ الأمر شماساً ) ولما انعقد مجمع نيقية المسكوني كان الكتاب المقدس هو المرجع الأعلى والنهائي لحل قضية العقيدة الصحيحة عن المسيح يسوع. ذهب قادة الكنيسة إلى الكلمة الإلهية وهنا وجدوا بعد بحث ودرس عميق أن المسيح يسوع هو ابن الله العلي وأنه كان منذ الأزل. ألم يقل له المجد لليهود أثناء حياته على الأرض: قبل ابراهيم كان لأنا كائن؟.

مع أهمية مقررات مجمع نيقية المسكوني نلاحظ أن جميع الأمور التي يجب معرفتها عن يسوع لم تذكر مثلاً: العلاقة بين ناسوت المسيح ولاهوته. فقد حدث أن البعض من الذين بحثوا في هذا الموضوع حادوا عن الطريق المستقيم نظراً لإتباعهم طريق العقل غير المسّير من قبل كلمة الله التي هي المرجع الأعلى والنهائي لكل القضايا والمسائل العقائدية في الكنيسة. الكتاب المقدس الذي يعلمنا عن أزلية ابن الله يتكلم أيضاً عن تجسده. وكذلك يعلمنا الكتاب أن المسيح يسوع تجسد بشكل حقيقي وواقعي وأن كل من ينكر أن المسيح جاء في الجسد هو من ـباع ضد المسيح. لكن ما هي العلاقة بين الطبيعتين البشرية والإلهية في أقنوم السيد المسيح؟ وبعد مرور سنوات عديدة عقد مجمع مسكوني هام في مدينة خلقدونية المواجهة للقسطنطينية أي في القسم الأسيوي من البلاد وذلك في العام 451 م.

 جاء نحو 600 أسقف إلى هذا المجمع من مختلف أنحاء العالم وبحثوا في تعاليم الكتاب المتعلقة بطبيعتي المسيح يسوع. ومن مقررات هذا المجمع: الاستمرار في الطريق الذي أخطه مجمع نيقية ومجمع القسطنطينية أي الاعتراف بإلوهية السيد المسيح، الاعتراف أيضاً بناسوت المسيح التام. للمسيح إذن طبيعتين: إلهية وبشرية، لكن ذلك لا يعني أن المسيح هو أكثر من أقنوم واحد، بل أن الطبيعتين الإلهية والبشرية لم تكونا إلا مسيحاً واحداً وأقنوماً واحدا ً.

أسس المسيحية وضعت بشكل متين في تعاليم هذه المجامع المسكونية. ومع أن ذلك لا يعني أنه لم يعد أي مجال للاجتهاد بعد هذه المجالس إلا أنه يتوجب على كل من يقول عن نفسه أنه عضو حي في الكنيسة السيد المسيح - تلك الكنيسة التي تضم جميع المؤمنين منذ بدء العالم إلى نهايته – أن يقر بتعاليم مجامع نيقية والقسطنطينية وخلقدونية. فالعقيدة الصحيحة عن المسيح يسوع هي أساس كل شيء في المسيحية وكل ابتعاد عنها لا بد من أن يؤول إلى الابتعاد عن المسيحية الحقة.

و في دراستنا لهذه الحقبة القديمة من تاريخ الكنيسة المسيحية لاحظنا الدور الهام الذي لعبه قادة الكنيسة ومفكرّوها. وسنأتي على ذكر مختصر لحياته لنرى بوضوح لا مجال فيه للشك أن الإيمان المسيحي متى استولى على عقول وألباب الناس يجعل منهم أبطالاً روحيين يتركون مآثر ضخمة ليس فقط للناس الذين كانوا يعاصرونه بل للكنيسة المسيحية في شتى عصور التاريخ المتعاقبة.

أمبروز يدافع عن الحق ويعمل على تشجيع الحياة المسيحية:

يعد الأسقف أمبروز من أهم قادة الكنيسة في القرون الأولى. ولد في مدينة ترير في القسم الغربي من بلاد ألمانيا وكان والده يعمل في الحكومة الرومانية ويتمتع بنفوذ كبير نظراً لمنصبه العالي. وعندما كان أمبروز في مقتبل عمره عينته السلطات الرومانية حاكماً على القسم الشمالي من بلباد ايطاليا وكلن مركزه في مدينة ميلانو حيث أصدر القرار الهام بطلاق الحرية للمسيحيين في أيام قسطنطين الكبير.

كان في أيام أمبروز العديدين من أتباع آريوس وحدث أنه لما توفي أسقف المدينة أن حاول كل من أبتاع آريوس والمؤمنون بتعاليم الكتاب ومقررات المجمع المسكوني النيقوي أن ينتخبوا أسقفاً حسب ميلهم الديني. وحدث شغب أثناء الاجتماع الذي كان سيبت في قضية أسقف ميلانو الجديد مما دفع بحاكم المدينة أمبروز أن يأتي إلى بناية الكنيسة لإرجاع النظام والسلام. وجدث فجأة أن صرخ أحد الأولاد: أمبروز أسقف، أمبروز أسقف ! ولم يكن أمبروز مسيحياً ولكنه مع ذلك انتخب أسقفاً. فقد رأى في تلك الحادثة وفي نتائجها أن الله كان يدعوه إلى دخول الكنيسة المسيحية وإلى ترك منصبه الحكومي العالي. باع أمبروز كل ما كان له وأعطى أمواله للفقراء واعتمد وسيم أسقفاً في السنة 374 ميلادية.

كان أمبروز من المدافعين عن التعاليم التي صيغت في مجمع نيقية المسكوني وقد كتب العديد من الكتب الدينية وهو يعد من أساتذة أو معلمي الكنيسة المسيحية. وقد ساهم مساهمة كبيرة في إنشاء ترانيم مسيحية مبنية على حقائق الديانة الرئيسية وكان لا يخاف إنسان وهو يعمل على خدمة الكنيسة وسيدها. فقد حدث مرة أن أثار سكان مدينة سالونيك اليونانية على حاكمهم الروماني فانتقم الإمبراطور ثيودوسيوس منهم بقتل الآلاف من سكانها. لكن أمبروز لم يوافق مطلقاً على ذلك الانتقام الوحشي بل منع الإمبراطور من القدوم إلى مائدة العشاء الرباني وطلب منه أن يترف علناً بخطيئته الكبرى! ومع سطوة الإمبراطور وبطشه إلا أنه رضخ لنظام الكنيسة ولطلب أمبروز واعترف علناً بخطيئته الكبيرة في إعدام الآلاف من الأبرياء في سالونيك. وهكذا أظهر أمبروز سمو الشريعة الأدبية وضرورة التقيد بها حتى من قبل الأباطرة والملوك! مات هذا القائد المسيحي في العام 397 م. لكنه ترك وراءه مآثر عديدة كانت لخير الكنيسة ونجاحها.

  • عدد الزيارات: 5440