الدرس السادس عشر: مشاهير الكنيسة في القرون الأولى -1-
وصلنا في دراستنا لتاريخ الكنيسة المسيحية إلى مطلع القرن الرابع الميلادي وقد لاحظنا كيفية انتصار الإيمان المسيحي على الوثنية ضمن الإمبراطورية الرومانية وعلى البدع والهرطقات التي هددت الكنيسة من الداخل. وأتينا أيضاً على ذكر بعض المجامع المسكونية التي انعقدت للبحث في الأمور الهامة التي تتعلق بحياة الكنيسة العقائدية. وأخيراً ألمحنا إلى حياة أحد مشاهير رجالات الكنيسة في تلك الأيام وهو الأسقف أمبروز الذي لعب دوراً هاماً في الكنيسة في البلاد الأوروبية. وسنتناول في هذه الدروس التاريخية دراستنا لحياة ومآثر بعض رجالات الكنيسة لنقف على سيرة هؤلاء المشاهير ولنعمل على التقيد بأمثلتهم الصالحة التي تركوها لنا وكذلك لنقدر حق التقدير التراث الضخم الذي ورثناه من تلك العصور القديمة.
يوحنا فم الذهب:
ولد يوحنا فم الذهب في العام 347 م. بمدينة أنطاكية السورية. كان والده من رجال الجيش الروماني العظماء ولكنه توفي أثناء طفولة ابنه يوحنا. أخذت والدة يوحنا المدعوة أنثوزا تعمل على تربية ابنها تربية مسيحية حقيقية. وهكذا عندما سمع بها الأستاذ الوثني الشهير ليبانيوس قال: آه ما أحسن النساء بين هؤلاء المسيحيين " وقد وهبت ابنها ثقافة رائعة وغرست في قلبه منذ نعومة أظفاره بذور التقوى والصلاح. ونظراً لتأديبها لأبنها يوحنا وللتعاليم الكتابية التي لقنته إياها أصبحت مناعته قوية للغاية ولم يقع في حبائل الوثنية المغرية.
درس يوحنا في مدرسة ليبانيوس الذي عده من أحسن تلاميذه. وعندما قيل لهذا المعلم الشهير قبيل موته من سيخلفك أجاب قائلاً: كان يوحنا سيخلفني لو لم يأخذه عني هؤلاء المسيحيين! وندما انتهى يوحنا من دراسته الرسمية صار من أساتذة أو علماء البلاغة ولكنه لم يلبث أن أصبح مهتماً بصورة تامة بالأمور الدينية وقرر دراسة العلوم اللاهوتية والتفرغ لنشر المسيحية والدفاع عنها.
ونظراً لكثرة الشرور والمعاصي في تلك الأيام في المحيط الوثني الذي خلفته الإمبراطورية الرومانية مال الكثيرون من المسيحيين إلى الابتعاد التام عن الحياة الاجتماعية وأخذوا يعيشون كنساك، والكتاب المقدس لا يتطلب التنسك أو الهرب من العالم بهذا الشكل ولا يحرم الزواج لمن وهبوا أنفسهم لخدمة المسيح والإنجيل ولكن كما يجرى في كثير من الأحيان يذهب البعض إلى النقيض عندما يحاولون محاربة الخطايا والشرور. وهكذا فإننا عندما لا نؤيد مبدئياً نظام الرهبنة والتنسك إلا أنه علينا أن نفهم الدافع القوي الذي حدى بالكثيرين إلى الهرب من الحياة الاجتماعية المتفسخة وتكريس حياتهم لعبادة الله ولخدمة بني البشر بواسطة نشر الإنجيل وتفسير الكتاب المقدس. وهكذا حدث أن أو شيء رغب يوحنا القيام به بعد تكريس حياته للإنجيل هو أن يدخل في سلك الرهبنة ويعيش حياة التقشّف والحرمان. لكن أمه منعته عن القيام بذلك فاكتفى بمنصب قارئ في كنيسة أنطاكية. لكن ما أن توفيت والدته حتى ترك يوحنا الحياة في مدينة أنطاكية وذهب إلى صومعة في أحد الجبال بالقرب من تلك المدينة وصار يعيش في صحبة مشاهير الرهبان. ونظراً لصعوبة الأحوال ولشدة تقشّف الراهب الشاب رجع بعد تأخر صحته إلى مدينة أنطاكية حيث سمي شماساً من قبل أسقف المدينة ثم صار شيخاً أو راعياً في الكنيسة بعد مرور مدة قصيرة. وقد ذاع صيته كواعظ شهير وصارت الكنيسة في كل مكان معجبة به وشغوفة ببلاغته في الدفاع عن الحق وفي تفسير الأسفار المقدسة. ولم يطلق عليه اسم يوحنا فم الذهب إلا في القرن السابع الميلادي ومع ذلك فإننا عندما نتكلم عنه وعن موقف معاصريه منه لا يسعنا إلا أن نشير إليه كفم الذهب!.
عمل فم الذهب في الكنيسة الأنطاكية مدة سبعة عشر عاماً وكانت الجموع تفد من كل مكان للإصغاء إلى عظاته الشهيرة. وكانت عادته بخلاف الكثيرين من معاصريه ألا يكتفي بتفسير آية معينة من الكتاب بل أن يبدأ بتفسير فصول عديدة من كلمة الله وبصورة منتظمة. ولم يكن يخاف أي إنسان لأنه كان قد ملأ قلبه من مخافة الرب. ويعد فم الذهب من مشاهير علماء التفسير لأنه كان ينتمي إلى المدرسة الأنطاكية التي كانت تفسر كلمة الله حسب الطريقة المعروفة بالطريقة اللغوية – التاريخية أي أن معاني أجزاء الكتاب المقدس كانت تفسر حسب الأصول اللغوية للغات الأصلية التي كتبت بها أسفار الكلمة وكذلك حسب الأحوال التاريخية التي كانت سائدة أثناء كتابة تلك الأسفار. وهذه الطريقة كانت مغايرة لتعاليم المدرسة الإسكندرية التي كانت تتبع الطريقة المجازية تلك الطريقة التي كانت ترى وراء كل آية كتابية تعليماً مجازياً لا يقف عليه إلا القلائل من بني البشر!.
وحدث في سنة 397 م. أن انتخب يوحنا فم الذهب بطرّيركاً لمدينة القسطنطينية بدون رغبته في الوصول إلى ذلك المنصب الديني العالي. وقد عمل بجد ونشاط لمدة ما وتكللت جهوده بالنجاح إلا أنه اصطدم في النهاية بالسلطات الحاكمة نظراً لوقوفه على مبادئ الكتاب ولعدم تغاضيه عن الشرور والخطايا التي كانت ترتكب في البلاط الإمبراطوري الروماني. وقد اكتسب عداوة الإمبراطورة يود وكسيا التي لم تلبث أن تواطأت مع بعض أعدائه فخُلع من منصبه ونفي إلى بلاد أرمينيا حيث توفي في السنة 407 م وهو في عامه الستين.
من أهم مآثر هذا البطل الروحي أعماله في حقل التفسير الكتابي وبلاغته في المنبر وأتعابه الرعوية. ولم يوجد في تلك الأيام رجل يضاهيه في مقدرته على تفسير الكتاب المقدس وهو يُستشهد به إلى أيامنا هذه في الكتب التفسيرية. وهذا يرينا أن العلم والبلاغة والمهارة عندما توضع تحت تأثير تصرف الرب يسوع المسيح وروحه القدوس تصبح من أهم المواد التي يستعملها الرب لنمو الكنيسة في الإيمان والحياة. كان فم الذهب يتهيأ بصورة تامة للوعظ بدون أن يهمل الدرس أو الصلاة أو التأمل. وكثيراً ما كان هذا الواعظ البليغ يترك نص العظة المكتوب للكلام بحرارة ولجاجة تحت تأثير إلهام الظروف. وكانت آراءه مستقاة إما من الاختبارات المسيحية أو من ينبوع الكتاب المقدس الذي لا ينضب. وكان يطلب من الجميع أن كانوا من رجال الدين أو من العلمانيين أن يكبوا على دراسة الكتب المقدسة للنمو في حياة الإيمان القويم. ومع أنه كان يتقاضى أموالاً كثيرة نظراً لمنصبه العالي في القسطنطينية إلا أنه كان يهب جميع أمواله إلى الفقراء والمحتاجين والغرباء. ولذلك لا نتعجب إن دعي من قبل المسيحيين في العصور المتعاقبة بفم الذهب وإن ذهب الكثيرون من الوعاظ إلى التقيد بطرقه في الوعظ وتفسير كلمة الله الحية.
- عدد الزيارات: 4933