الدرس التاسع عشر: مشاهير الكنيسة في العصور الأولى -4-
سيرة أوغسطين بعد اهتدائه إلى المسيحية:
كنا قد اطلعنا في درسنا السابق على سيرة أوغسطين إلى أن اهتدى إلى المسيحية الكتابية ولم يتسع لنا المجال للكلام عن مآثره كقائد شهير للكنيسة المسيحية في العصور الأولى. ونظراً لكثرة أعماله ولخصب تفكيره يعد أوغسطين من أعظم أدمغة العالم القديم ومن الذين منحوا الكنيسة بمعونة الله تراثاً جباراً لا يمكن وصفه كما يجب في هذه الدقائق القليلة التي نتكلم بها عن الكنيسة في التاريخ وسنسعى الآن للكلام عن أعمال أوغسطين كقائد للكنيسة في بلاده أي في أفريقيا الشمالية.
تركن أوغسطين في درسنا السابق وهو في مدينة رومية وقد توفيت والدته التقية قبيل سفرتهم إلى بلاد الوطن. وقد بقي أوغسطين مدة سنة في رومية ثم لم يلبث أن عاد إلى مسقط رأسه في مدينة تغاست حيث بقي مدة ثلاث سنوات بصحبة رفيقين له ممضياً أكثر أوقاته بالمطالعة والتأمل.
و في العام 391 م سمي أسقفاً وذلك بدون إرادته في مدينة بونه على شاطئ البحر المتوسط وبعد مرور أربع سنوات انتخب أسقفاً لتلك المدينة. وقد أقام في مدينة بونه مدة ثماني وثلاثين عاماً وجعل منها مركزاً هاماً للمسيحية وللعلم في العالم. وكانت حياة هذا الأسقف حياة بسيطة إذ أنه رفض التمتع بأطايب الحياة وكرس كل أمواله لخدمة الله ولإعانة الفقراء. وأثناء تناول طعامه البسيط كان يطلب من الحاضرين أن لا يتكلموا عن شخص غائب لئلا يُنتقد إنسان في مدار الحديث ولا يعطى الفرصة للمدافعة عن نفسه. وكان أوغسطين يعظ على الأقل خمس مرات في الأسبوع وأحياناً مرتين في اليوم الواحد وقد وضع نصب عينيه أن يساعد الجميع أن يعيشوا للمسيح يسوع. وحيثما كان يذهب في تلك البلاد كان الناس يطلبون منه بإلحاح أن ينادي بكلمة الخلاص.
و مع أن أعمال أوغسطين كانت كثيرة للغاية في رعاية شؤون الكنيسة إلا أنه كان يرغب في التأمل والمطالعة أكثر من أي شخص آخر. وكان يهتم بالفقراء إلى درجة أنه لم يحجم أحياناً عن إذابة أواني الكنيسة الذهبية وبيعها لمساعدة المحتاجين. ولم ينحصر اهتمامه بأحوال الكنيسة في إفريقيا الشمالية بل أنه كان ملماً بشؤون الكنيسة في جميع أنحاء العالم وقد صار من المدافعين عن العقائد الصحيحة الكتابية ومن أشد أعداء أصحاب البدع والهراقطة في أيامه.
و قد كثرت متاعب حياة أوغسطين عندما تقدم في عمره وخاصة في سنيه الأخيرة. وكان البرابرة المسمون بالفندال قد وفدوا من أوروبا وغزوا بلاده وأخذوا ينهبون ويسلبون ويقتلون ويدمرون تاركين وراءهم مدناً مهدمة وبيوتا خاوية. وحدث في العام 430 م أن حاصر هؤلاء الغزاة مدينة بونه ولكنهم لم يتمكنوا من الاستيلاء عليها بسهولة. وقد توفي أوغسطين في الشهر الثالث من الحصار في الثامن والعشرين من شهر آب – أغسطس وكان يتمتع بجميع قواه العقلية عندما ترك هذه الديار الفانية وذهب ليكون مع ربه ومخلصة يسوع المسيح. وكانت كلماته الأخيرة مستقاة من سفر المزامير ومن أقوال الرب يسوع المسيح الواردة في الفصل السابع عشر من إنجيل يوحنا "أيها الآب: أريد أن أقول أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم!"
ولم تمض أيام كثيرة إلا وأن سقطت مدينة بونة في أيدي البرابرة الفاتحين الذين دمروها تدميراً. لكن أعمال الأسقف لم تندثر باندثار تلك المدينة لأنها حفظت وصارت ملكاً للكنيسة المسيحية في سائر العصور وفي شتى الأقاليم.
يمكن النظر إلى أوغسطين كرجل كان قد تغير تغييراً شاملاً بعد اهتدائه إلى المسيحية إذ أنه حسب مقدرته لم يترك أية ناحية من حياته إلا وأخضعها لتعاليم كلمة الله. ولم يكن مهتماً بالأمور التي يستفيد منها الإنسان لدى اعتدائه إلى نور الإنجيل بطريقة أنانية بل أنه أراد أن يكرس كل أيامه لخدمة الرب يسوع المسيح الذي افتداه من وهدة الشر والظلام. ولم تحظ الكنيسة المسيحية في تلك العصور بعقلية أخصب وأعمق من عقلية أوغسطين ونظراً لاستسلامه لتعاليم الوحي الإلهي في ولنبذه جميع التعاليم البشرية المغايرة لها، نراه قد ترك لنا ميراثاً عظيماً لا تقدر قيمته. ومن مبادئه الأساسية: الإيمان يسبق الفهم وبعبارة أخرى كل شيء آمن فتهم بينما كان الكثيرون من الفلاسفة في أيامه يعلمون أن الإنسان لا بد من أن يبدأ بفهم كل شيء قبل أن يؤمن به، أي أنهم كانوا يضعون العقل البشري على منصة عالية وينصبون حكماً حتى على الأمور الموحى بها من الله قي كتابه المقدس.
وكذلك قال هذا القائد الإفريقي الشهير للكنيسة المسيحية في كتابه: الاعترافات: يا الله لقد خلقتنا لنفسك وأنفسنا لا تعرف الراحة أو السلام إلا برجوعها إليك! أما موقفه من قسمي الكتاب المقدس فإنه قد لخص في قوله: يكمن العهد الجديد في العهد القديم، وبعلن أو يظهر العهد القديم في العهد الجديد. وقال أيضاً أوغسطين: "الحرية الحقيقية في خدمة الله".
- عدد الزيارات: 3704