4- التاريخ الحقيقي للاستحالة والحلول
1- إذا رجعنا إلى القرن الأول نجد أن معظم المسيحيين كانوا يعيشون وقتئذ تحت تأثير محبة المسيح الفائقة، التي تجلت في تقديم نفسه فدية على الصليب لأجلهم ولأجل غيرهم من البشر، ولذلك كانوا يتصرفون في كل أمورهم بمحبة صادقة وإيمان قلبي بسيط،ويظهرون المسيحية في أخلاقهم وأعمالهم، أكثر مما يظهرونها في شرح مبادئها وتعليلها بأسباب عقلية أو منطقية. ولذلك لو كان يقال لهم (مثلاً) وقتئذٍ "هل العشاء الرباني يستحيل فعلاً إلى لاهوت المسيح وناسوته؟", لكانوا يجيبون على الفور "كلا!". ولو كان يقال لهم "هل ذات جسد المسيح ودمه يحلان في العشاء الرباني؟", لكانوا يجيبون على الفور أيضاً "كلا!". ولو كان يقال لهم "هل هذا العشاء يمثل جسد المسيح ودمه؟", لكانوا يجيبون دون إبطاء أو تردد "نعم!". ولو كان يقال لهم "كيف تشتركون في جسد المسيح ودمه بواسطة التناول من خبز وخمر عاديين؟", لكانوا يجيبون بكل بساطة "لا ندري!". ذلك لأنه لم تكن قد حدثت بينهم وقتئذٍ أي مجادلة أو مباحثة بشأن العشاء الرباني, أو اتخذوا قراراً أو عقيدة تفصيلية بشأنه, إذ كانوا يقبلونه كرمز لجسد المسيح ودمه دون أن يجهدوا أنفسهم في تفهم حدود هذا الرمز, أو ما يدل عليه من معنى.
2- ولما انتشر الإنجيل شرقاً وغرباً في القرن الثاني والقرون التالية له, وقبله كثير من العلماء والفلاسفة, كان من الطبيعي أن يفكروا ويفكروا كثيراً في غرض المسيح من قوله عن الخبز والخمر إنهما جسده ودمه, لكي يضعوا عقيدة لهم ولغيرهم عن العشاء الرباني. والعلماء والفلاسفة كما نعلم, يختلف اتجاه بعضهم عن البعض الآخر في التفكير اختلافاً كبيراً. فمنهم المحافظون (أو المتزمتون) الذين وإن كانوا يتركون الحرية لأفكارهم لكي تبحث في بعض الموضوعات الدينية, غير أنهم يتقيدون بالنصوص التي يتعذر عليهم فهمها. ومنهم الأحرار الذين يعتقدون أن النصوص ليست إلا غلافاً للحقيقة, ولذلك يسعون وراء الجوهر دون العرض, ووراء الباطن دون الظاهر.
وقد أشار كتاب (ضحى المسيحية) إلى هذه الحقيقة فقال "وكان مفكرو المسيحية على العموم فئتين: فئة تتنكر للفلسفة اليونانية وتعتبرها شراً وبيلاً يجب تجنبه. وفئة لا ترى بأساً من دراستها والاستعانة بها في تأييد النظريات الدينية. ومن هذه الفئة أوريجانوس في الإسكندرية, وأوغسطينوس في شمال إفريقيا. وهذا الأخير كان يرى أن الفلسفة والدين هما شيء واحد, وأن الفلسفة إنما وجدت لتوضيح أحكام الدين الصحيح. كما كان هناك اختلاف بين مدرستي أنطاكية والإسكندرية. فالأولى كانت تتمسك بحرفية الكتاب المقدس وتعتنق الفلسفة الأرسطوطالية, أما الثانية فكانت في صوفيتها تفهم الكثير من نصوص الكتاب المقدس فهماً روحياً, وتعتنق الفلسفة الأفلاطونية, على النقيض من الأول (ص 114- 119).
وإذا علمنا أن للبيئة التي ينشأ فيها الإنسان أثراً كبيراً في اتجاه تفكيره, اتضح لنا أنه كان من البديهي أن يختلف علماء الإسكندرية وفلاسفتها عن علماء روما (مثلاً) وفلاسفتها في ذلك الحين اختلافاً كبيراً. فالإسكندرية التي كانت في القرن الثاني والقرنين التاليين له محط الثقافات والفلسفات الشرقية منها والغربية, والقديمة منها والحديثة, طبعت رجالها ورجال البلاد الواقعة في نطاقها بحصافة الفكر وسمو الإدراك وسعة الأفق, بينما روما (مثلاً) التي كانت في ذلك الوقت منطوية على نفسها, طبعت رجالها بالتحفظ والتزمت دون كبير داعٍ أو مبرر.
وقد أشار كتاب (ضحى المسيحية) أيضاً إلى هذه الحقيقة فقال: "وكان للمسيحية في القرنين الثاني والثالث عدة مراكز فكرية, أهمها الإسكندرية. وكانت هذه المدينة قبل العصر المسيحي مركزاً هاماً للعلوم والآداب اليونانية. فلما انتشرت فيها المسيحية تحولت إلى مركز للفلسفة واللاهوت, ومنها تخرج ونبغ نخبة من عظماء المفكرين. وهكذا خدمت التاريخ الإنساني كمركز للإشعاع الفكري في العصور القديمة. وقد كان علماؤها أكثر نشاطاً من مفكري العاصمة البيزنطية وأوسع أفقاً من علماء الغرب اللاتيني" (ص 144- 150), كما أشار موسهيم إلى هذه الحقيقة عينها في تاريخه (ص 136- 191).
لذلك لا غرابة إذا رأينا اكليمنضس الإسكندري وأوريجانوس وأثناسيوس الرسولي, ومعهم ترتليان القرطجني[48] ويوسابيوس القيصري وغيرهم من فلاسفة الشرق وعلمائه, يقولون إن العشاء الرباني هو رمز ومثال وإشارة إلى جسد المسيح ودمه, وإن التحول الذي يحدث فيه (إن جاز أن يسمى تحولاً) هو تحول اعتباري أو معنوي فحسب. ورأينا إيريناوس واغناطيوس ويوستينوس الذين تأثروا بالثقافة اللاتينية وحدها, قد بلغ بهم الأمر أحياناً إلى القول إن العشاء الرباني هو ذات جسد المسيح ودمه, أو إنه جسده ودمه الحقيقيان, مع أنهم كانوا جميعاً يعتقدون أن الخبز والخمر لا يستحيلان إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته, أو يحل ذات جسده ودمه فيهما, بل كانوا يعتقدون أن المسيح يحل في الخبز والخمر كما هما. وطبعاً يرجع السبب في قولهم هذا, إلى خوفهم من أن ينحرفوا (حسب اعتقادهم) عن قول المسيح عن الخبز والخمر إنهما جسده ودمه. لكن فاتهم أنهم بقولهم الذي ذهبوا إليه قد انحرفوا عما قاله المسيح, لأنه لم يقل عن العشاء الرباني إنه ذات جسده ودمه بدون كلمتي "ذات" و"الحقيقيان" المذكورتين, الأمر الذي يفتح المجال لفهم قوله بالمعنى المجازي أو الروحي, لا سيما وأن الأدلة على فهمه بهذا المعنى كثيرة كما ذكرنا فيما سلف.
3- وكان من نتائج قولهم إن المسيح يحل في العشاء الرباني, أن ذهب فريق من المسيحيين في القرن الثاني (كما يقول بعض المؤرخين) أو في القرن الثالث (كما يقول بعض آخر) إلى أن العشاء الرباني هو ذبيحة كفارية وإنه ضروري للخلاص, وإن الذين يقومون بعمله يكونون كهنة بالمعنى الحرفي (موسهيم ص 73, 75 والمبادئ الإلهية ص 40), مع أن المسيح لم يقل شيئاً من ذلك على الإطلاق, كما أنه لم يعين, هو أو رسله, كهنة بالمعنى الحرفي للقيام بهذا العشاء, كما اتضح لنا من الباب الثالث.
ثم تحولت أنظار خلفاء هذا الفريق بعد ذلك من توقير المعنى الروحي الذي يدل عليه العشاء الرباني, إلى توقير هذا العشاء نفسه, ولذلك أخذ الأساقفة لديهم في أوائل القرن الرابع يرفعونه فوق رؤوسهم أثناء الصلاة الخاصة به, للدلالة على أنه يستحق في ذاته الإكرام والتبجيل (موسهيم 160- 162) اللذين للمسيح نفسه.
4- وفي القرن الخامس, الذي هو بدء العصور المعروفة في التاريخ بالعصور المظلمة, أخذ الجهل يخيم على العالم بسبب الحروب الطاحنة التي انتشرت فيه وقتئذٍ, وكان من الطبيعي أن ينشغل الناس بهذه الحروب, وبالاضطرابات والمجاعات التي كانت تترتب عليها, ويقل إقبالهم على البحوث العلمية والدينية التي ساعدت على سوء الحالة الدينية في ذلك الوقت, تحريم دراسة الكتاب المقدس بواسطة كنيسة روما, وتوقيع أقصى العقوبات على من يقرؤونه – في جو مثل هذا, كان من السهل لدى الجهلاء من رجال الدين وغيرهم أن يفهموا التحول أو الحلول اللذين كان يقول بهما بعض القدماء, على أنهما تحول أو حلول بالمعنى الحرفي. ومن هذا الوقت بدأ الخلاف يدب بين المسيحيين من جهة ماهية العشاء الرباني.
5- وكان أول من نادى في الشرق بحدوث تغيير جوهري في العشاء الرباني شخص يدعى أوتيخوس, عاش في أواخر القرن الخامس للميلاد. ومع أنه لم يقصد بهذا التغيير أن الخبز والخمر يتحولان إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته, بل إلى ذات جسده ودمه فحسب, غير أن ثاؤدوريتوس قاومه بكل شدة قائلاً: "إن شرف الرمزين المنظورين المعروفين باسم الجسد والدم غير محولة طبيعتهما, بل النعمة مضافة إليهما. لأن هذين الرمزين السريين لا يتحولان بعد التقديس بل يلبثان كما هما خبزاً عاديين", ثم كتب كتاباً ذكر فيه آراء الكنيسة الأرثوذكسية عن لسان شخص يدعى أرثوذكسوس كان في مركز نائب للكنيسة في عصره, (ولعل المقصود من ذلك أنه كان شخصاً موهوباً يتكلم بلسان الكنيسة وينوب عنها في الدفاع عن عقائدها), وكان أرثوذكسوس هذا يقول بأن "الأفخارستيا" لا تتحول بعد التقديس عن طبيعتها, بل تظل باقية على جوهرها وشكلها الأصليين. ثم انضم إلى ثاؤدوريتوس كثير من رجال الدين المشهورين, وفي مقدمتهم جلاسيوس بابا رومة وقتئذٍ.
6- وفي القرن السادس قاوم أفرام (أسقف أنطاكية) أتباع أوتيخوس المذكور قائلاً لهم "ليس هناك شخص عاقل يقول إن الأشياء المحسوسة وغير المحسوسة سواء, وإن المنظورة وغير المنظورة لا فرق بينهما, ولذلك فإن العشاء الرباني وإن كان بواسطة التقديس يقرن بنعمة خاصة, غير أنه يظل كما هو, لأنه كما نرى, لا يطرأ على مادتيه تغيير ما".
وفي سنة 754م قرر المجمع المسكوني السابع في القسطنطينية أن "الخبز والخمر اللذين يقدسان بالشكر, هما رمز للمسيح", غير أن المجمع النيقاوي الثاني الذي عقد سنة 787م, وحكم بإكرام الصور والتماثيل, نقض قرار مجمع القسطنطينية المذكور وحكم "بأن الخبز والخمر هما ذات جسد المسيح ودمه", لكن حكمه هذا لم يصادف قبولاً لدى كثير من المسيحيين, ولذلك لم يضم إلى موضوعات الإيمان الكنسية وقتئذٍ.
7- أما أول من نادى في الغرب بحدوث تغيير في العشاء الرباني, فهو شخص يدعى باسكاسيوس رادبورت, وذلك في القرن التاسع للميلاد ورادبورت هذا هو أول من نادى بعقيدة الحبل بلا دنس, وهي كما يقال "إن العذراء مريم حبل بها بطريقة عجيبة وإنها ولدت هي بذاتها على خلاف مجرى الطبيعة, حتى لا تكون مشتركة في الخطيئة الأصلية" (اللاهوت النظري ج3 ص 154), وبمجرد مناداة رادبورت برأيه المذكور, أقام الملك كيرللوس رجلين مشهورين بالتقوى والمعرفة الكتابية, هما راتومنس الراهب ويوحنا سكوتس, لكي يوضحا حقيقة العشاء الرباني. فكتب كل منهما كتاباً على حدة أثبت فيه أن الخبز والخمر المستعملين في هذا العشاء, هما فقط رمزان لجسد المسيح ودمه, ولذلك فإن المؤمنين يتناولون من جسد المسيح ودمه عقلياً بالذهن وليس جسدياً بالأسنان". وانضم إلى رأيهما رابانس مورس أشهر رؤساء الأساقفة وقتئذٍ, وكثير من علماء الدين البارزين مثل هاربيلد وألفرد استرابون وكريستيان ودوثمار وفلاروس.
لكن وإن كانت عقيدة تحول العشاء الرباني إلى ذات جسد المسيح ودمه قد قوبلت بالمقاومة في أول الأمر, غير أنها أخذت في الانتشار شيئاً فشيئاً في إيطاليا وفرنسا تحت التأثير بأنها "معجزة العهد الجديد", واستمرت الحال على هذا المنوال حتى نهاية القرن التاسع... أما في القرن العاشر فقد ظهر من بين رجال الدين مقاومون كثيرون لعقيدة التحول هذه, ولذلك استقر رأيهم جميعاً في ذلك الوقت على ألا يلزموا أحداً من المسيحيين بالإيمان بعقيدة ما بشأن العشاء الرباني, بل أن يتركوا لهم الحرية لكي يعتقدوا بشأنه كما يريدون.
8- وفي القرن الحادي عشر قاوم برنغاريوس (أحد علماء الإكليروس بفرنسا) عقيدة تحول العشاء الرباني إلى ذات جسد المسيح ودمه، فرد عليه معظم الأساقفة بأن التحول الذي يحدث في العشاء الرباني يفوق العقل والإدراك، ولذلك عليه أن يقبله بالأيمان لأن"البار بالإيمان يحيا"[49]، ولكن برنغاريوس لم يوافقهم على رأيهم. وحينئذ حمى وطيس الجدال بشأن ماهية العشاء الرباني بين الاكليروس جميعاً، وتشعب الجدال بينهم إلى كيفية وجود ذات جسد المسيح ودمه في هذا العشاء...وأخيراً استقر رأي الأغلبية بينهم على (أن العشاء الرباني يتحول إلى ذات جسد المسيح ودمه، ليس سرياً فقط بل وحسياً أيضاً، ولذلك فإن جسد المسيح ودمه يلمسان حقاً في العشاء المذكور، كما يمضغ الأول ويشرب الثاني فعلا بواسطة المتناولين منهما)ثم حرموا برنغاريوس من رتبته وأقصوه من جماعتهم، فكان لذلك أثر كبير في نفسه. وبعد فترة من التردد بين الاعتقاد بالتحول وعدم التحول، عاد برنغاريوس إلى عقيدته الأولى، وعضده في ذلك كثير من رفقائه القدامى.
9-وفي القرن الثاني عشر، كان لا يزال هناك اختلاف في الآراء من جهة كيفية حضور ذات جسد المسيح ودمه في العشاء الرباني، ولذلك حدث نـزاع كبير بشأن هذا الموضوع في بلاد اليونان واللاتين معاً، تارة بين العلماء ورجال الدين، وتارة بين الملوك وأفراد الشعب. ومن الذين ظهروا في هذا القرن وكان لهم تأثير على الرأي العام شخص يدعى هلدبرت، وهذا الشخص كان ينادي بين الجماهير سنة 1134م بأن العشاء الرباني لا يظل بعد التقديس كما هو، بل يتحول تحولا جوهريا ًإلى ذات جسد المسيح، بما في هذا الجسد من لحم ودم وعظم وعروق. واستعمل للتعبير عن هذا التحول كلمة "transubstantiation"، فكان بذلك أول من استعمل الكلمة المذكورة- وبعد ذلك أ خذ يتسرب إلى أتباعه الفكر بأن العشاء الرباني لا يتحول فقط إلى ذات جسد المسيح ودمه، بل وإلى ذات لاهوته أيضاً، مستندين في ذلك إلى الاعتقاد المسيحي العام بأن "لاهوت المسيح لم يفارق ناسوته لحظة واحدة أو طرفة عين". ثم أخذ هذا الفكر يتمكن من نفوسهم حتى أصبح عقيدة لديهم يذيعونها وينادون بها بكل جرأة ونشاط، حتى وصلت إلى مسامع البابا والكرادلة واستحوذت على عقولهم ومشاعرهم.
وفي سنة 1218م عقد المجمع اللاتراني الرابع، فأقر عقيدة الاستحالة كعقيدة من العقائد الكنسية الأساسية، وذلك بتأثير البابا أنوسنت الثالث. وفي هذه السنة قرر البابا هنوريوس تحت تأثير الكاردينال ويدو أن العشاء الرباني لايستحيل فقط إلى ناسوت المسيح بل وإلى لاهوته أيضاً، وبذلك أصبح الكاهن، كما قال البابا إربان، هو الذي يعمل المسيح ويقدمه لله ذبيحة كفارية عن الناس. ومن ثم أخذ معظم القائلين بالاستحالة يقدمون السجود للعشاء الرباني"1"، ويدعون الأماكن الخاصة بحفظه "مساكن اللاهوت"، كما أخذوا يحتفلون بهذا العشاء بصفة خاصة في يوم معين أطلقوا عليه "عيد جسد المسيح" (موسهيم ص466).
وبعد ذلك نادت جماعة اليسوعيين بأن في العشاء الرباني قوة ذاتية تفيد كل من يتناول منه، بغض النظر عن حالته الروحية، ولذلك قالوا "إن الله لا يتطلب من الراغبين في التناول من هذا العشاء القلوب الطاهرة أو النفوس المملوءة بالمحبة السماوية"، ويعرف رأيهم هذا "بكفاية مجرد الاشتراك الخارجي في السر" (موسهيم ص556).
(1) ولكن الحقيقة التي يعرفها الجميع أن المسيح لم يأمر تلاميذه بالسجود للعشاء الرباني، ولا التلاميذ سجدوا له، أو أوصوا أحداً بهذا السجود. بل إن وصية الله لنا تنهي عن هذا السجود نهياً باتاً، فمكتوب: "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (متى4:10). ومكتوب: "لا تصنع لك تمثالا منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق ومما على الأرض من تحت، لا تسجد لهن ولا تعبدهن" (خروج20:4،5).
أما قول المؤمنين بالاستحالة "إن السجود للعشاء الرباني "يتم بناء على نظرة صوفية روحية، تسمو فوق ما يبدو أنه يتعارض مع العقل أو المنطق" فقول باطل، لأن الصوفية التي يقولون عنها هي صوفية وهمية نسجوها بأنفسهم لأنفسهم بسبب اعتقادهم بالاستحالة، إذ أنه ليس هناك أساس لهذا السجود في الكتاب المقدس على الإطلاق كما ذكرنا.
وفي سنة 1350 م أرسل البابا بندكت الثالث بعض الرسائل إلى أساقفة الأرمن عن الإستحالة، إذ كانوا لم يسمعوا حتى هذا التاريخ بشئ عنها. كما ذهب دون الكسيس بعد ذلك إلى السريان ونادى بينهم بها، فقبلها بعضهم ورفضها البعض الآخر.
10-ولما أقبل عصر النهضة في القرن الخامس عشر، وخرج الكتاب المقدس من معقله أخذ العلماء ينظرون إلى العقائد الدينية في ضوئه.فقال دانتي إن بعض الباباوات لا يستحقون إلا جهنم، لأن سلوكهم يتعارض مع تعليم الإنجيل. وأثبت لاونتينوس أن الكتاب المسمى "الدسقولية"لم يكتب بواسطة الرسل، لأنه يحتوي على أقوال تتعارض مع تعليمهم (تاريخ الاصلاح لدوبنيه ص49-62، وأصول العالم الحديث ص48-60).
أما من جهة العشاء الرباني، فقد اختلفت آراؤهم بشأنه تبعاً لدرجة استيعابهم لكلمة الله وتحررهم من سلطان التقاليد أو العقائد البشرية:-(أ) فلوثر الذي كان متأثراً منذ حداثته بالعقيدة الكاثوليكية من جهة العشاء الرباني، حاول التوفيق بين الكتاب المقدس وبين هذه العقيدة، ولذلك قال"إن العشاء الرباني لا يستحيل إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته، لأنه لو حدث ذلك، لكان هذا العشاء هو ذات الله الخالق للعالمين، الأمر الذي لا يتفق مع الوحي أو العقل على الاطلاق، ولذلك فان ما يحدث في العشاء الرباني من تغيير، هو أن جسد المسيح ودمه فحسب يحلان بطريقة سرية في هذا العشاء، مع بقاء مادتيه كما هما".
(ب)وزونجلي وويكلف اللذان تحررا من التقاليد البشرية تحرراً تاماً قالا " العشاء الرباني لا يتحول إلى لاهوت المسيح وناسوته، ولايحل جسد المسيح ودمه فيه، بل إنه يظل كما هو خبزاً وخمراً عاديين، لأن هذا العشاء هو رمز فقط لجسد المسيح ودمه"، مستندين في ذلك إلى الكثير من الأدلة الدينية والعقلية.. التي ذكرنا طرفاً منها في الفصول السابقة.
ولما عقد مؤتمر لتوحيد آراء رجال الإصلاح من جهة العشاء الرباني، كانت الحجة الوحيدة التي يرددها لوثر لتأييد عقيدته، هي قول المسيح عن الخبز "هذا هو جسدي". وكان يفسر هذا القول تارة بالمعنى الروحي وتارة أخرى بالمعنى الحرفي، الأمر الذي جعل أقواله متناقضة. ولما ذكر له زونجلي "أن قول المسيح هذا لا يراد به إلا المعنى المجازي،لأن الجسد الذي اتخذه لنفسه كان جسداً مادياً مثل أجسادنا، وهذا الجسد لا يوجد إلا في مكان واحد في وقت واحد. ونظراً لأن المسيح موجود بهذا الجسد في السماء في الوقت الحاضر، لذلك لا يمكن أن يكون موجوداً الآن به على الأرض بأي شكل من الأشكال"، أجاب لوثر:بأنه لا يعبأ بالرياضيات (والصواب أنه لا يعبأ بالبديهيات)، وأنه لا يتزحزح عن الاعتقاد بأنه حالما تقال كلمات التقديس يتكوّن في العشاء الرباني ذات جسد المسيح ودمه، حتى لو كان القائم بالتقديس شريراً... وأضاف إلى ذلك أنه لا يقبل المناقشة في كيفية حضور ذات جسد المسيح ودمه في العشاء الرباني، لأن هذه المناقشة (كما يقول) معناها الارتداد عن الإيمان (مختصر تاريخ الكنيسة للأستاذ أندرو مولر ص1054-1079).
(ج) وكرلستاد الذي كان يتفق مع زونجلي وويكلف في الرأي قال: "الاعتقاد بأن التناول من العشاء الرباني كاف للخلاص، يجعل الديانة المسيحية أعمالاً مادية لا روحية، كما يجعل المسيح طعاماً جسديا ًلا روحياً". كما قال إن الآية "خذوا كلوا، هذا هو جسدي"، تنقسم إلى فقرتين (الأولى)"خذوا كلوا" و(الثانية) "هذا هو جسدي". والمراد بالأكل في الفقرة الأولى،الأكل من الخبز الذي أعطاه المسيح لتلاميذه، بينما المراد بالجسد في الفقرة الثانية ليس الخبز الذي أعطاه لهم، بل الجسد الذي كان يعيش فيه وقتئذ، والذي لم يكن الخبز المذكور إلا رمزاً له". وقد ذهب كرلستاد في تأييد رأيه هذا، إلى أن قول المسيح لتلاميذه "خذوا كلوا، هذا هو جسدي" يشبه كل الشبه قوله لبطرس من قبل "أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي"، فإن القول الأخير ينقسم إلى فقرتين (الأولى) "أنت بطرس" و(الثانية) "وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي". والمراد ببطرس في الفقرة الأولى، بطرس ذاته، بينما المراد بالصخرة في الفقرة الثانية ليس بطرس، بل المسيح، لأنه هو المرموز إليه في الكتاب المقدس بالصخرة التي يقابلها في اللغة الأصلية "بطرس" (أفسس 2:20)، ولأن المسيح أيضاً، وليس بطرس الرسول، هو الذي بنيت عليه كنيسة الله (1 كورنثوس3:11،10:4). ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأن بطرس لم يكن إلا بشراً مثلنا، فضلا عن ذلك فانه كان كثير الخطأ والزلل (متى 16:23،26:69 -75) ولذلك لا يكون أهلا لأن تبنى عليه كنيسة الله.
(د) وأما كلفن فقد أمسك العصا من منتصفها فقال "العشاء الرباني ليس مجرد رمز للمسيح، لأن المسيح لم يقل عنه إنه رمز لجسده ودمه، بل قال عنه إنه جسده ودمه، ولذلك لا بد أن جسد المسيح ودمه يكونان فيه أو ينطبعان عليه بأي شكل من الأشكال، ولا بد أنه بالتناول من هذا العشاء يحل المسيح في نفوسنا على نحو ما"- ورأي كلفن (كما أجمع المؤرخون) ليس شرحاً لأقوال الوحي بل تأويل لها، لأن كلفن كان يرمي إلى التوفيق بين الرأي اللوثري والرأي الزونجلى، والتوفيق بينهما محال، لأن العشاء الرباني لا يكون إلا أحد أمرين: فإما أن يكون هو ذات جسد المسيح ودمه بالاستحالة أو الحلول، وفي هذه الحالة يكون السجود للعشاء الرباني أمراً لازماً، كما لا يكون المسيح طعاماً روحياً بل طعاماً مادياً يعطى لغفران الخطايا. وإما أن يكون رمزاً وإشارة للمسيح، وتكون الفائدة التي نحصل عليها من ممارسته، هي التغذي بذكرى موت المسيح وما يترتب على ذلك من بركات روحية، وفي هذه الحالة يكون السجود للعشاء الرباني عملاً لا يليق.
مما تقدم يتضح لنا أن رجال الإصلاح لم يأتوا في الواقع بجديد، لأن رأي لوثر هو رأي اغناطيوس ويوستينوس وايريناوس مفهوماً بمعنى حرفي أو مادي، وذلك لتأثر لوثر بالكثلكة منذ حداثته، ورأي زونجلي وويكلف هو رأي اكليمنضس الإسكندري واريجانوس وأثناسيوس وترتليان، ورأي كلفن هو رأي أوغسطينوس ويوحنا فم الذهب وغريغوريوس.
هذا هو تاريخ الاستحالة والحلول، وإزاءه لا يجد المؤمنون بهما سوى هذا الاعتراض وهو: هل يعقل أن المؤمنين الحقيقيين الذين يعتقدون بالاستحالة أو الحلول (وهؤلاء كثيرون في كل عصر من العصور) ليس لهم قبول أمام الله، وأن مصيرهم تبعاً لذلك هو الهلاك الأبدي؟! وللرد على ذلك نقول:
إن القبول أمام الله والتمتع بالحياة الأبدية معه لا يتوقفان على المعرفة الدقيقة لكل أقواله، بل على الإيمان القلبي بالمسيح كما ذكرنا في الباب الثاني. ولذلك فهناك أشخاص كثيرون يعرفون أقوال الله كلها معرفة دقيقة ولكن لأنهم لا يؤمنون بالمسيح إيماناً حقيقياً، سوف يحرمون من التمتع به إلى الأبد (متى7:21 -22)، ومن الناحية الأخرى هنالك أشخاص عاميون لا يعرفون من أقوال الله الشيء الكثير، ومع ذلك سوف يتمتعون بالمسيح إلى الأبد لأنهم يؤمنون به إيماناً حقيقياً (لوقا 16:22) - غير أن هذه الحقيقة لا تقلل طبعاً من أهمية المعرفة الدقيقة بأقوال الله، لأن هذه المعرفة إذا اجتمعت مع الإيمان الحقيقي تجعل صاحبها أكثر إدراكا لمقاصد الله، وأكثر قدرة على إرضائه وعمل مشيئته في الحياة.
[47]عن المراجع السابق ذكرها, والمراجع التي سيشار إليها فيما بعد.
[48]مما تجدر الإشارة إليه أن ترتليان وإن كان قد تلقى شطراً من دراسته في روما, غير أنه لم يتأثر بفلسفتها, ولذلك كانت آراؤه مشابهة كل الشبه لآراء فلاسفة الإسكندرية وعلمائها.
- عدد الزيارات: 5282