الخاتمة
من هذا الكتاب يتضح لنا (أولاً) أن العشاء الرباني لا يتحول إلى لاهوت المسيح وناسوته، أو إلى جسده ودمه فحسب، كما أن المسيح لا يحل في هذا العشاء بالروح أو الجسد. بل إن العشاء المذكور يظل كما هو دون تغيير أو تبديل، وكل ما في الأمر انه نظراً لكونه تذكاراً لموت المسيح، يجب أن يمارس بالقداسة اللائقة بالمسيح نفسه. كما أن الغرض من ممارسة العشاء الرباني ليس الحصول على الغفران أو الحياة الأبدية، بل تذكر موت المسيح وما يترتب على تذكره من تجديد الشكر لله، والتفاني في حبه وخدمته، ومواصلة السير في طريقه.
و(ثانيا) أن القائلين بالاستحالة والحلول لا يتمسكون بحرفية ما سجله الكتاب المقدس عن العشاء الرباني إلا خوفاً من الانحراف (حسب وجهة نظرهم) عن الحق الإلهي. فغرضهم سام ونبيل ولكن تفسيرهم ليس بصواب، إذ أنه أبعدهم دون أن يدروا عن الحق الإلهي الذي يعتزون به بعداً عظيما، بينما لو درسوا الكتاب المقدس بتدقيق وحصروا تفكيرهم في أقواله وحدها، لأدركوا أن الآيات الخاصة بالعشاء الرباني لا يراد بها إلا المعنى الروحي.
والحق إن السبيل الذي اتجه إليه القائلون بالاستحالة والحلول، هو ما اتجه إليه كثيرون في الأديان المتعددة، فإن نظرة إلى تاريخ هذه الأديان ترينا أن كثيرين من المتمسكين بها قد تركوا جوهر عقائدها،وسمعوا وراء حرفية هذه العقائد- والإنسان هو الإنسان في كل العصور إذا كان يتعصب لرأيه الخاص ويرفض دراسة الآراء المخالفة لرأيه بوداعة وإخلاص.
لكن من التجني على الحقيقة أن يقال أن جميع الكاثوليك والأرثوذكس يؤمنون بالاستحالة التي ذكرناها، فإن بينهم أشخاصاً درسوا الكتاب المقدس دراسة دقيقة وعرفوا أن الحياة الأبدية لا تعطى بواسطة التناول من العشاء الرباني، بل أنها هبة مجانية يمنحها الله لكل الذين يؤمنون به يماناً حقيقياً، وهؤلاء الأشخاص انقسموا إزاء العشاء الرباني إلى فريقين: فريق حذا حذو اللاأدريين، فقال إنه لا يستطيع أن يجزم برأي من جهة الاستحالة، وأن العلم بها عند الله دون سواه. وفريق حدد موقفه بوضوح وقال إن الاستحالة التي تحدث في العشاء الرباني هي استحالة معنوية أو اعتبارية فحسب. لكن معظم المنتمين إلى هذا الفريق لا يجاهرون بآرائهم لئلا يتهمون بأنهم إنجيليون، ولذلك يخفون الحقيقة التي يؤمنون بها في أنفسهم لكي يواصلوا الوعظ والتعليم اللذين يقومون بهما- غير أن الغاية لا تبرر الواسطة، وكل مؤمن يجب أن يكون صريحاً في الإيمان (1 تيموثاوس 1: 2)، والطاعة لله أفضل من تقديم الذبائح (1 صموئيل 15:22)، ومن يرضي الناس على حساب الله، لا يستطيع أن يكون عبداً للمسيح (غلاطية1:10).
والكاتب لا يدعوا بهذا الكتاب إلى طائفة جديدة، أو إلى طائفة من الطوائف الموجودة، لأنه فضلاً عن كونه ليس قسيساً أو واعظاً، أو شخصاً ينتظر من وراء الكتابة أجراً أو ربحاً، فإنه ينظر إلى الطوائف بنظرة الحسرة والألم لأنها أكبر إساءة للمسيحية، كما يؤمن أنه ليست طائفة من هذه الطوائف هي الكنيسة الحقيقية، لأن الكنيسة المذكورة تتكون من المؤمنين الحقيقيين فحسب، وهؤلاء موجودون في كل الطوائف دون استثناء، ولذلك لا تهمه إذا زاد أفراد طائفة أو قل أفراد أخرى.
ولكنه يدعوا بكتابه هذا إلى دراسة الكتاب المقدس وتفهمه والتمسك به، إذ فضلاً عن أنه يحوي أقوال الله نفسه. وأنه الأساس الوحيد الذي يجب أن نبني عليه إيماننا، فإنه يزيل ما بيننا من انقسام واختلاف. ويقودنا إلى أن نعمل بنفس واحدة لأجل تمجيد الله دون سواه، وبذلك تتحقق رغبة المسيح الغالية المعلنة في قوله الكريم: "أيها الأب القدوس ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا" (يوحنا 17: 11-21). ليت هذه الرغبة الغالية يكون لها تأثيرها في نفوس المؤمنين الحقيقيين جميعاً-آمين.
- عدد الزيارات: 3401