3- أدلة عن عدم اعتقاد القديسين القدماء بالاستحالة أو الحلول الحرفي
1- كان القدماء الذين عاشوا في القرون الخمسة الأولى يشهدون أنه ليست هناك ذبيحة أو تقدمة غير التي قدمها المسيح مرة على الصليب. فقال أوريجانوس "إزاء الذبيحة التي قدمها المسيح مرة على الصليب من أجلنا, لا يسعنا إلا أن نقدم الذبائح الروحية لله في كل حين". وقال أوغسطينوس "إن المسيحيين بتقدمة جسد المسيح ودمه والاشتراك فيها, يداومون على تذكر الذبيحة الوحيدة التي قدمها المسيح مرة على الصليب". وقال فم الذهب "ألسنا نقدم كل يوم؟ نعم نقدم, لكن بوسيلة نتذكر بها موت المسيح لا غير. ودائماً نقدم تقدمة واحدة, ولكننا نضع ذكرى التقدمة الوحيدة التي قدمها مرة على الصليب" – ولذلك يكون قولهم عن العشاء الرباني إنه ذبيحة أو تقدمة هو من المجاز فحسب. ومما يثبت ذلك أنهم كثيراً ما كانوا يقولون عن العشاء الرباني إنه "ذبيحة حمد" و"ذبيحة روحية". فضلاً عما تقدم, فإننا إذا رجعنا إلى أقوال القدماء, نجد أنهم كانوا يطلقون كلمات "الذبيحة" و"القربان" و"التقدمة", ليس على العشاء الرباني وحده, بل وعلى الاستشهاد في سبيل الله, وعلى الأشياء التي تقدم لله, مثل الصدقة والعبادة والأعمال الصالحة والحياة المكرسة لخدمته. فمن المأثور عن اغناطيوس أنه قال لإخوته المؤمنين "استعدوا أن تكونوا كلكم حاضرين حول المذبح (أو بالأحرى ساحة الاستشهاد). لتشاهدوا ذبيحتي, لأن المسيح اجتذبني لأكون ضحية مذبوحة من أجله... فإني أريد أن أقدم نفسي ذبيحة... فتضرعوا إذاً عني لديه كي أصير قرباناً وذبيحة". وعن الشهداء أنهم كانوا يقولون للإمبراطور الروماني "اذبحنا تقدمة ليسوع" (الخريدة النفيسة ج1 ص 145- 152). ومن المأثور عن إيريناوس أنه قال: "الذبيحة هي باكورة التقدمات". وعن غيره أنه قال "باكورة التقدمات هي قربان وذبيحة"[45]. وعن يوسابيوس القيصري أنه قال "الصلاة ذبيحة وبخور" وأنها أيضاً "ذبيحة غير دموية". وعن أوغسطينوس أنه قال "الذبيحة الحقيقية تقوم بأن النفس وهي مضطرمة بنار المحبة السماوية, تكرس ذاتها لله تكريساً كاملاً", وأنه أيضاً قال "جميع القديسين هم الذبيحة العامة التي تقدم لله بواسطة المسيح رئيس الكهنة". كما كانوا يطلقون الاصطلاح "جسد المسيح ودمه", ليس على العشاء الرباني وحده كما نفعل نحن، بل وأيضاً على كل الأشياء التي تظهر المسيح وتعلنه. فكانوا يقولون "إن الإيمان هو جسد المسيح وإن المحبة هي دمه الكريم", الأمر الذي يدل على أنهم بقولهم عن العشاء الرباني إنه جسد المسيح ودمه, لم يقصدوا أنه ذات جسده ودمه, بل إنه المعلن لجسده ودمه, أو بالحري المعلن لموت المسيح مصلوباً.
2- جاء في (تفسير قداس الكنيسة الأرثوذكسية ص 73) "إن العشاء الرباني كان يسمى تقدمة, لأنه كان من عادة المسيحيين القديمة جداً أن يحضروا من بيوتهم خبزاً وخمراً, ليقدموهما إلى الهيكل لأجل الشكر (أو بالحري لأجل العشاء الرباني)". وإن كان هذا التعليل معقولاً, وينفي الاعتقاد بأن العشاء الرباني هو تقدمة مرفوعة لله لأجل الحصول على الغفران منه (كما يقول المؤمنون بالاستحالة), غير أني أعتقد أن هذا العشاء كان يسمى "تقدمة" مثلما كان يسمى "ذبيحة", لأنه كان يعتبر تذكاراً لتقدمة المسيح أو ذبيحته التي قدمها على الصليب, إذ أن هذا هو ما يستنتج من أقوال يوستينوس وأوغسطينوس التي ذكرها الذين لا يؤمنون بالاستحالة.
وبهذه المناسبة نقول إن العشاء الرباني ليس نحن الذين قدمناه للرب, بل الرب هو الذي قدمه لنا. وقد قدمه لنا, لا لكي نقدمه بدورنا إليه كذبيحة بل لكي نأكله ونذكر محبته الشديدة لنا. ولذلك لا يكون في ذاته تقدمة لله, إنما تكون التقدمة هي صلاة الشكر التي نرفعها إليه أثناء ممارسة العشاء المذكور, والتي كانت تسمى قديماً (افخارستيا).
3- إن إيريناوس وغريغوريوس النـزيزي وكيرلس الأورشليمي الذين يعتمد القائلون بالاستحالة على آرائهم, كانوا يقولون "التغيير الذي يحدث في العشاء الرباني يشبه التغيير الذي يحدث لزيت الميرون الذي يمسح به الذين ينالون المعمودية, أو الذي يحدث للأشخاص الذين يعينون في الوظائف الدينية, أو الذي يحدث للمباني التي تدشن أو تخصص لكي تكون بيوتاً للعبادة"- وجوهر هذا الزيت, وهؤلاء الأشخاص, وهذه المباني, لا يتغير إطلاقاً, إنما الذي يتغير هو الاستعمال الخاص بالزيت والمباني والعمل الخاص بالأشخاص المذكورين.
كما أن ترتليان, مع اختلافه عن القديسين السابق ذكرهم من جهة العشاء الرباني, ذهب إلى ما ذهبوا إليه تماماً, فقد قال "التغيير الذي يحدث في العشاء الرباني يشبه التغيير الذي يحدث في ماء المعمودية" – وماء المعمودية يظل بعد الصلاة والعماد ماء عادياً مثلما كان قبلهما, ولذلك فالتحول الذي كان يقال قديماً بحدوثه في العشاء الرباني (إن جاز أن يسمى تحولاً), هو تحول معنوي لا فعلي.
4- إن صلاة الشكر التي كان يرفعها المؤمنون قديماً عند ممارسة العشاء الرباني, كانت "يارب: بارك لنا هذه التقدمة, التي هي مثال لجسد المسيح ودمه". كما أن يوحنا فم الذهب الذي كان يصف العشاء الرباني بصفات مرعبة مخيفة, لا يستعمل في قداسه أو عظاته[46] عبارة واحدة تدل على اعتقاده بالاستحالة, أو على وجوب تقديم السجود لهذا العشاء – نعم إنه كثيراً ما كان يقول "العشاء الرباني هو سر إلهي", لكن هذه العبارة لا تدل على اعتقاده أن هذا العشاء هو ذات المسيح, لأن الشيء الإلهي ليس هو ذات الله. فالكتاب المقدس مثلاً هو كتاب إلهي, ومع ذلك ليس هناك من يقول إنه ذات الله, ولذلك لا يكون فم الذهب قد قصد بقوله عن العشاء الرباني إنه جسد المسيح ودمه إلا المعنى المجازي, مثل معاصريه السابق ذكرهم.
5- إن الدسقولية التي يقول المؤمنون بالاستحالة إنها تتضمن تعليم الرسل, وإن كانت تطلق على العشاء الرباني "ذبيحة" و"تقدمة", لكنها لا تذكر مطلقاً شيئاً عن حدوث استحالة فيه, أو عن وجوب تقديم السجود له. فضلاً عن ذلك فإنها تعلن أن ذبائح العهد الجديد هي فقط "الصلاة والابتهال والشكر، وتقديم المال اللازم لرجال الدين والفقراء".فعندما قارنت بين ذبائح العهد القديم وبين ذبائح العهد الجديد قالت "ضحايا ذلك الزمان (أي العهد القديم) كانت ذبائح يأتون إلى المذبح، وأما الآن فصلاة وابتهال وشكر" (ص 65). كما قالت "إن الله لم يدعنا نذبح الحيوانات غير الناطقة لأجل التكفير عن الخطيئة, لكن لم يدعكم تعتقون من القرابين أو بالحري من العطايا التي تقدم لرجال الدين (دسقولية ص 67, 116, 119), التي يجب عليكم أن تأتوا بها إلى الكنيسة, أو من الصدقات على المحتاجين" (ص 64). كما أنها عندما تعرضت للكلام عن المذبح والقربان الوارد ذكرهما في (متى 5: 23), قالت "قربان الله هو الشكر... فلا يقبل شكرك لأجل الغضب الذي بينك وبين أخيك". (ص 94)- وغنى عن البيان أنه لو كان العشاء الرباني يتحول فعلاً إلى جسد المسيح ودمه, أو أنه ذبيحة لمغفرة الخطايا في العهد الجديد, أو أن من الواجب على المسيحيين أن يسجدوا له سجودهم لله, لكانت الدسقولية قد نصت على كل ذلك عند تعرضها للموضوعات المذكورة. ولذلك لا سبيل للظن بأن الاستحالة كانت معروفة عند القدماء الذين عاشوا لغاية القرن الرابع, الذي تمت فيه كتابة الدسقولية كما ذكرنا في الباب الثالث.
6- كما أننا إذا رجعنا إلى التاريخ وجدنا: (أ) أن علماء الوثنيين الذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية في القرون الأولى, ثم ارتدوا عنها بعد ذلك, مثل الملك يوليانوس الملقب بالكافر, وإن كانوا قد انتقدوا المسيحيين أمرّ الانتقاد بسبب اعتقادهم أن الله ثلاثة أقانيم وأن المسيح هو الله متجسداً, لكنهم لم يوجهوا أي انتقاد إليهم بشأن ما يسمى استحالة أو حلول في العشاء الرباني. وغني عن البيان أنه لو كان لهاتين العقيدتين وجود في تلك القرون, لكان قد أصابهما الانتقاد أيضاً, لأنهما لا تكونان أقل غرابة من عقيدتي الثالوث والتجسد, لدى هؤلاء الوثنيين.
(ب) إن المسيحيين لم يتركوا عقيدة من عقائدهم حتى بحثوها بحثاً دقيقاً في القرون الخمسة الأولى, وقد عقدوا لذلك عدة مجامع, منها مجمع الاسكندرية سنة 321م, ومجمع نيقية الأول سنة 325م, ومجمع أفسس سنة 341م, ومجمع خلقيدونية سنة 451م, وبالرجوع إلى العقائد التي بحثوها في هذه المجامع, نرى أنها كانت تنحصر فيما يلي:
هل الله أقنوم واحد أم ثلاثة أقانيم؟ وإن كان ثلاثة أقانيم, فهل المسيح هو حقاً أحد هؤلاء الأقانيم, وإنه لذلك يكون هو الله متجسداً, أم أن المسيح كان إنساناً عادياً حل فيه روح الله كما كان يحل في الأنبياء قديماً؟ وإن كان هو الله متجسداً, فهل كانت له طبيعة واحدة أم طبيعتان؟ وإن كانت له طبيعتان, فهل كانتا متحدتين أم منفصلتين؟ وإن كانتا متحدتين, فهل ظلت كل منهما كما هي, أم أن الناسوت تلاشى في اللاهوت؟
ثم, هل الروح القدس منبثق من الآب, أم من الآب والابن معاً؟ وهل خطية آدم أثرت فيه وحده, أم فيه وفي أبنائه معاً؟ وإن كانت أثرت في أبنائه, فهل يؤاخذون بسبب خطية آدم أم لا يؤاخذون؟ وإن كانوا يؤاخذون بسببها وبسبب خطاياهم الشخصية معاً, فهل يكون الخلاص من الخطية الأصلية بكفارة المسيح, والخلاص من الخطايا الفعلية بالأعمال الصالحة, أم يكون الخلاص من الأولى والثانية معاً هو بنعمة الله؟ وإن كان بنعمة الله, فهل يفيد منه كل الناس, أم أشخاص معلومون اختارهم الله؟ وإن كان لا يفيد منه إلا الأشخاص المذكورون, فهل يكونون أحراراً من جهة قبول الخلاص مثل غيرهم من الناس, أم أن الله يجبرهم على قبوله رغماً عن إرادتهم؟
وغنى عن البيان أنه لو كان هناك اعتقاد بأن العشاء الرباني يتحول إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته لغاية منتصف القرن الخامس, الذي عقد فيه مجمع خلقيدونية السابق ذكره, لكان المسيحيون القدماء قد بحثوا هذا الاعتقاد في أحد المجامع المذكورة, لأنه لا يكون أقل مثاراً للبحث والمناقشة من العقائد التي بحثوها في هذه المجامع.
7- فضلاً عن ذلك فإن من يفحص أقوال القديسين, الذين عاشوا لغاية القرن الخامس, عن العشاء الرباني يستنتج أنهم لم يجمعوا على رأي واحد بشأنه, وأنهم مع اختلاف آرائهم لم يقل واحد منهم إطلاقاً أن العشاء الرباني يتحول إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته, أو أن ذات جسده ودمه يحلان فيه, (فأولاً) إيريناوس واغناطيوس ويوستينوس كانوا يؤمنون أن العشاء الرباني هو جسد المسيح ودمه, بمعنى أن المسيح يحل فيه حلولاً روحياً مع بقاء الخبز والخمر كما هما, فحلوله في هذا العشاء, حسب اعتقادهم يشبه حلوله في المؤمنين الحقيقيين (أفسس 3: 17) الذي لا يغير من أجسادهم أو دمائهم شيئاً (ثانياً) وأغسطينوس وفم الذهب وغريغوريوس كانوا يؤمنون أن العشاء الرباني هو جسد المسيح ودمه, بمعنى أن المسيح يرافقه إلى نفوس المشتركين فيه, ولذلك كان يوحنا فم الذهب يشبه العشاء الرباني بثياب المسيح (كما سبق القول), والثياب ترافق صاحبها وتلازمه, لكنها ليست شخصه, ولا جزءاً من شخصه. (ثالثاً) وأكليمنضس وأوريجانوس وترتليان وأثناسيوس ويوسابيوس كانوا يؤمنون أن العشاء الرباني هو جسد المسيح ودمه, بمعنى أنه رمز ومثال لهما.
فإذا كان القديسون الذين عاشوا في القرون الخمسة الأولى, مع تعدد آرائهم من جهة العشاء الرباني, لم يقل واحد منهم إنه يتحول إلى لاهوت المسيح وناسوته, أو إن ذات جسد المسيح ودمه يحلان فيه, فضلاً عن ذلك فإن كثيرين منهم قالوا بصراحة تامة إن التحول الذي يحدث في العشاء الرباني (إن جاز أن يسمى تحولاً) هو تحول اعتباري أو معنوي فحسب, وإنه ليس هناك ذبيحة غير الذبيحة التي قدمها الرب يسوع المسيح مرة على الصليب, إذاً لم يعد لأي جماعة منا مبرّر يدعوها للقول بالاستحالة أوالحلول بالمعنى الحرفي, أو حتى للقول بالحلول بالمعنى الروحي, لأن المسيح لا يحل بالروح في المادة, لكي ينتقل بواسطتها إلى نفوس الذين يتناولون منها بأفواههم, بل يحل مباشرة بالروح في قلوب الذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً, ويكرسون أنفسهم له تكريساً كاملاً. كما ذكرنا فيما سلف.
[44]عن المراجع المذكورة في الفصلين السابقين.
[45]وهذا ما يتجلى بكثرة على صفحات الوحي، فقد قال النبي لله "فلك أذبح ذبيحة حمد" (مزمور 116: 17) كما قال له "لكي يكون رفع يدي كذبيحة مسائية" (مزمور 141: 2). وقال الرسول للمؤمنين "فلنقدم به (أي بالمسيح) في كل حين لله, ذبيحة التسبيح" (عبرانيين 13: 15).
- عدد الزيارات: 4692