1- الحجج الخاصة بالمجاز والرمز والإشارة
الباب الثالث
الحجج القائلة بحدوث الاستحالة أوالحلول
اتضح لنا مما سلف أن الآيات الواردة في (يوحنا 6)، عن وجوب التغذي بجسد المسيح ودمه، ليست خاصة بالعشاء الرباني بل بالإيمان بالمسيح. وبقي علينا أن نعرف إذا كانت الآيات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته، التي ذكرنا خلاصتها في الباب الأول، تدل على أن مادتي الخبز والخمر المستعملتين في هذا العشاء تتحولان إلى ذات لاهوت المسيح وناسوته (كما يقول المؤمنون بالاستحالة)، أو على حلول ذات جسده ودمه فيهما (كما يقول المؤمنون بالحلول)، أم لا تدل على هذا أو ذاك مطلقاً (كما يقول الذين لا يؤمنون بالاستحالة أو الحلول)، ولذلك نستعرض في هذا الباب حجج القائلين بالاستحالة والحلول من جهة هذا الموضوع لنعرف مكانتها من الصواب.
1 – إن المسيح عندما أسس العشاء الرباني، لم يقل عن الخبز "هذا هو صورة جسدي"، أو "هذا هو رمز جسدي". بل قال: "هذا هو جسدي". وهكذا الحال من جهة الخمر، فقد قال عنها "هذا هو دمي"، ولم يقل "هذا هو صورة دمي" أو "هذا هو رمز دمي". ولذلك يجب أن نؤمن أن الخبز هو ذات جسد المسيح، وأن الخمر هي ذات دمه. وإلا كان قول الآب عن المسيح (مثلا) "هذا هو ابني الحبيب"، ليس معناه أنه ذات ابنه بل صورة ابنه أو رمز ابنه، ولكان الشك قد تسرب إلينا أجمعين في معاني الكثير من أقوال الكتاب المقدس تبعاً لذلك (الافخارستيا ص 33).
الرد: (أ) عندما قال الآب عن المسيح "هذا هو ابني الحبيب"، كان المشار إليه هو المسيح نفسه. لكن عندما قال المسيح "هذا هو جسدي"، لم يكن المشار إليه هو جسده الذي كان يعيش فيه، بل كان المشار إليه هو الخبز الذي كان في يده. كما أنه عندما قال: "هذا هو دمي"، لم يكن المشار إليه هو الخمر التي كانت في الكاس الموضوعة أمامه. فضلا عن ذلك فإن الخبز والخمر لم يكونا متحولين عند هذين القولين إلى لحم ودم، بل كان خبزاً وخمراً عاديين، مثلما كانا من قبل.
(ب) كما أننا إذا رجعنا إلى اللغة اليونانية، التي هي اللغة الأصلية للإنجيل، نجد أن كلمة "هذا" في القول "هذا هو ابني الحبيب"، فالأولى هي "توتو" التي تستعمل للاشارة إلى الجماد، بينما الثانية هي "هوتوس" التي تستعمل للاشارة إلى العاقل. وغنى عن البان أنه لو كان العشاء الرباني يتحول إلى لاهوت المسيح وناسوته (كما يقول المؤمنون بالاستحالة)، أو يحل فيه ذات جسد المسيح ودمه (كما يقول المؤمنون بالحلول)، لكان المسيح قد أشار إليه تبعاً لذلك بكلمة " هذا " للعاقل، لأنه لا يكون في هذه الحالة جماداً بل كائنا عاقلا، وكل ما في الأمر لا يكون مدركا بواسطة الحواس الجسدية.
(ج) فضلا عن ذلك ليس من الضروري أن نقول عن رمز الشئ وشبهه إنه رمزه وشبهه بحصر اللفظ، طالما يبدو للجميع أنه ليس ذات الشئ، فنحن نقول (مثلا) عن شخص شجاع "هذا أسد"، وليس من الضروري أن نقول عنه "هذا يشبه الأسد" أو "هذا رمز للأسد"، إذ أن القرينة تدل بوضوح على أنه ليس أسداً بالمعنى الحرفي. ويعوزنا الوقت إذا حاولنا أن نحصي الآيات التي استعمل فيها المجاز، دون أن تذكر معه كلمات "يشبه" أو "يمثل" أو "يرمز إلى"، ولذلك نكتفي بما يأتي:
قال يوسف في تفسيره لحلم فرعون "البقرات الحسنة هي سبع سنين" (تكوين 41: 26 – 27). وقال الملاك لدانيال "القرون العشرة هي عشرة ملوك" (دانيال 9: 24). وقال داود النبي عن الماء الذي خاطر بعض رجاله بحياتهم في سبيل إحضاره له إنه "دم هؤلاء الرجال" (1 صموئيل23: 17). وقال المسيح عن الرياء إنه "خمير الفرنسيين" (لوقا 12:1). وقال عن يوحنا المعمدان إنه "إيليا" (يوحنا 1: 29). وقال بولس الرسول عن الصخرة التي كانت تجود بالماء إنها "كانت المسيح" (1 كورنثوس 10: 4). وقال عنا نحن المؤمنين: "إننا خبز واحد" (1 كورنثوس 10: 17).
أما السبب في عدم القول إن "البقرات السبع تمثل سبع سنين". وإن "القرون العشرة تمثل عشرة ملوك". وإن "الماء كان يمثل دم الرجال المذكورين أو يقابله". وإن "الرياء يشبه الخمير". وإن "يوحنا كان يشبه إيليا". وإن "المسيح كان بمثابة الحمل". وغن "الصخرة كانت تشير إلى المسيح أو تدل عليه". و"إننا نشبه الخبز الواحد او الرغيف الواحد" و... و... فيرجع إلى أن الاصطلاحات "يمثّل" و"يشير" و"يدل على" وما شاكلها، لم تكن مستعملة كثيراً (كما يقول العلماء) في اللغات القديمة التي كتب بها الكتاب المقدس. ولذلك كان يكتفي باستعمال فعل الكينونة ظاهراً أو مستتراً (26&Eucharisi, p.22: Mattew Adam Clark's) وهذا ما نعمله في اللغة العربية أحياناً، فنحن نقول عن شخص شجاع "إنه أسد" أو "إنه يكون أسد". دون أن نستعمل كلمة "يشبه"أو ما شاكلها فيما سلف.
(د) أما الاعتراض (بأن الشئ المشار إليه بكلمة "هذا"، يكون دائماً أبداً هو عين الشئ وليس رمزاً له أو دليلاً عليه، لأننا عندما نقول: "هذا هو الكتاب المقدس"، يكون المشار إليه هو الكتاب المقدس بعينه (الافخارستيا ص 78) فلا يجوز الأخذ به كقاعدة عامة. لأننا كثيراً ما نشير إلى الكتاب المقدس ونقول "هذا هو السبيل" أو "هذا هو النور" أو "هذا هو الغذاء"، مع أنه ليس في هيئته سبيلاً أو نوراً، أو غذاء. كما أننا كثيراً ما نشير إلى الله الذي نعتمد عليه كل الاعتماد في حياتنا ونقول عنه "هذا هو حصننا" أو "هذا هو كنـزنا"، مع أنه ليس في هيئته حصناً أو كنـزاً. فضلا عن ذلك فإننا إذا رجعنا إلى أقوال المسيح، نجد أنه كان يستعمل هذا الاسلوب بعينه بالمعنى المجازي، فقال لليهود عن هيرودس الملك "امضوا وقولوا لهذا الثعلب" (لوقا 13: 32)، مع انه لم يكن في ذاته ثعلباً. وقال لأمه العذراء عن يوحنا الحبيب، "هو ذا ابنك"، مع أنه لم يكن في ذاته ابنها. وقال ليوحنا هذا عن العذراء "هو ذا أمك"، مع أنه لم تكن أمه بعينها.
(ه) في ضوء ما تقدم يتضح لنا أنه لا حرج إذا كان قول المسيح عن الخبز "هذا هو جسدي"، وعن الخمر "هذا هو دمي"، لا يراد به انهما ذات جسده ودمه، بل إنهما رمز لهما. لا سيما وأن المسيح لم يقل إنهما ذات جسده ودمه، بل قال إنهما جسده ودمه،يدون كلمة ذات هذه، الأمر الذي يفتح المجال للمعنى المجازي. ولذلك نرى المترجمين الانجليز (مثلا) الذين يميلون إلى الترجمة المعنوية دون الحرفية،استعملوا عبارة "يدل على"، بدلا من فعل الكينونة المستتر في الآية" هذا (يكون) جسدي"، ولذلك قالوا ما ترجمته" هذا يدل على جسدي"، كما فعلوا تماماً في ترجمة الآية" والصخرة كانت المسيح" (1 كورنثوس 10: 4). فقد قالوا ما ترجمته "والصخرة كانت تدل على المسيح اقرأ مثلا ترجمة "Moffat".
(و) أخيراً نقول: إننا إذا وضعنا أمامنا أن المسيح بتجسده لم يتحول ناسوته إلى لاهوت، أو لاهوته إلى ناسوت، بل ظل اللاهوت هو اللاهوت بعينه، وظل الناسوت هو الناسوت بعينه، كما أن المسيح من الناحية الانسانية، لم يكن يوماً ما شيئاً غير الناسوت ثم حل فيه الناسوت، أدركنا أنه لا يمكن من الناحية الكتابية أو العقلية أو غيرهما من النواحي، أن يتحول العشاء الرباني إلى لاهوت المسيح وناسوته، أو يحل ذات جسده ودمه في هذا العشاء.
2 – لا يوجد شبه ما بين الخبز وبين الجسد، أو بين الخمر وبين الدم، حتى كان من الجائز أن يعتبر حديث المسيح عن جسده ودمه رمزياً أو مجازياً. فضلا عن ذلك فإن المسيح قدم العشاء الرباني لتلاميذه قبل موته بيوم واحد، والمرء لا يتحدث قبل موته بالمجاز مع أحبائه لئلا يسيئوا فهم أقواله، ولا تكون هناك فرصة بعد لإرشادهم إلى الحقيقة. ولذلك لوفرضنا أن المسيح تحدث عن العشاء الرباني بالمجاز، لكان قد فسر هذا المجاز لتلاميذه في الحال، لئلا يسيئوا فهم أقواله (أسرار الكنيسة السبعة ص84، والرد على العشاء الرباني ص 56).
الرد (أ) هناك شبه واضح بين الخبز وبين جسد المسيح، وبين الخمر وبين دم المسيح، كما ذكرنا في الباب الأول، ولذلك لا مجال للاعتراض إذا قال المسيح بالمعنى المجازي عن الخبز إنه جسده وعن الخمر إنها دمه.
(ب) فضلا عن ذلك، فإن المجاز عندما يكون مفهوماً، لا يحتاج إلى شرح أو إيضاح، ولا يكون هناك حرج من استعماله في أي وقت من الأوقات. ومن العبارات المجازية المفهومة التي استعملها المسيح وهو على أبواب الصليب.، قوله لتلاميذه "ومن ليس له، فليبع ثوبه ويشتر سيفاً" (لوقا 22: 36)، قاصداً بالسيف الشجاعة والإقدام. وقوله للآب "إن أمكن، فلتعبر عني هذه الكأس" (متى 26: 26)، قاصداً بالكأس نصيبه المحتوم من الأوجاع والآلام. وقوله لبنات أورشليم "لأنه إن كانوا بالعود الرطب (أو الغصن الرطب) يفعلون هذا (الظلم والاضطهاد)، فماذا يكون باليابس؟" (لوقا 23: 31)، قاصداً بالعود الرطب، شخصه الكريم لأنه كان مثمراً ونافعاً في حياته، وبالعود اليابس الانسان الذي لا ثمر له أو نفع فيه، ولذلك لم يفسر لنا المجاز الوارد في هذه العبارات.
وهكذا الحال من جهة قوله عن الخبز "هذا هو جسدي"، وعن الخمر "هذا هو دمي"، فإن المجاز في هذا القول لا يحتاج إلى إيضاح أو تفسير، إذ فضلا عن أن المسيح ليس طعاماً مادياً يؤكل بالفم بأي شكل من الأشكال، فإن التلاميذ كانوا يرون الخبز والخمركما هما دون أن يطرأ عليهما تغيير ما. كما كانوا يرون المسيح جالساً بينهم كما هو، دون أن ينقص من جسده أو دمه شئ، عندما قال لهم عن الخبز والخمر إنهما جسده ودمه. ولذلك أكلوا الأول وشربوا الثاني دون تردد أو فحص،بل ودون نفور من مذاق أو طعم. وطبعاً ما كان من الممكن أن يكون هذا هو الحال معهم، لولا أنهم كانوا يعلمون تمام العلمأن المسيح قصد بالأكل من جسده والشرب من دمه المعنى المجازي دون سواه.
(ج) وبالإضافة إلى ما تقدم، فإننا إذا تأملنا العبارات التي أسندها المسيح إلى الخبز والخمر، أدركنا أنه لم يقصد مطلقاً أنهما ذات جسده ودمه. فقوله عن الخبز "هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم"، يدل على أن الخبز لم يكن ذات جسده، لأن الذي بذل عن التلاميذ، أو بالحري قدم فدية عنهم، هو الجسد الذي كان المسيح موجوداً فيه وقتئذ وهذا الجسد بذل عنهم ليس عند تقديم الخبز لهم، بل بذل في اليوم التالي لتقديم الخبز المذكور، وذلك عندما قدم المسيح نفسه على الصليب عوضاً عنهم وعنا. أما الخبز الذي أعطاه للتلاميذ، فلم يبذل أو يقدم فدية على الاطلاق، بل أكله التلاميذ بأفواههم ونـزل إلى جوفهم، الأمر الذي يدل على أن قول المسيح عن الخبز إنه جسده، لا يراد به إلا أن هذا الخبز مثال لجسده أو رمز له.
وقوله عن الخمر "هذا هو دمي الذي يسفك من أجل كثيرين"، يدل على أن الخمر ليست هي ذات دمه، لأن الذي سفك من أجل كثيرين هو دمه الذي كان يجري في جسمه وقتئذ، وهذا الدم سفك ليس عند تقديم الخمر لتلاميذه، بل سفك في اليوم التالي لتقديمها لهم. وذلك عندما قدم المسيح نفسه على الصليب عوضاً عنهم وعنا كما ذكرنا. أما الخمر التي أعطاها لهم، فلم تسفك أو تقدم فدية على الاطلاق، بل شربها التلاميذ ونـزلت إلى جوفهم، الأمر الذي يدل على أن قول المسيح عنها إنها دمه، لا يراد به إلا إنها مثال لدمه أو رمز له.
كما أن قوله عن الكاس: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي"، هو قول مجازي، لأنه لا الكأس أو السائل الذي كان فيها هو العهد الجديد، إذ أن هذا العهد كما نعلم جميعاً ليس شيئاً مادياً مثل الكأس أو الخمر، بل هو معاملة الله للمؤمنين بالنعمة المجانية على أساس الدم الكريم الذي سفك مرة على الصليب، ولذلك فقول المسيح عن الكأس إنها العهد الجديد، لا يراد به إلا أن هذه الكأس هي إشارة إلى العهد المذكور، أو دليل عليه كما ذكرنا فيما سلف.
3 – إن عهد الرموز قد انتهى من زمن بعيد. فضلا عن ذلك فالرمز يسبق المرموز إليه ولا يتبعه، والعشاء الرباني وإن كان قد تأسس قبل موت المسيح، لكن كان من المفروض من أول الأمر أن يمارس بعد صعوده، ولذلك لا يكون رمزاً للمسيح بل يكون عين ذاته. لأنه لو كان رمزاً للمسيح، لا يكون المسيح قد أتى بعد، ونكون كاليهود لا نـزال ننتظر مجيئه إلى الآن (الافخارستيا ص 73 – 74).
الرد (أ) ليس من الضروري أن يكون الرمز سابقاً للمرموز إليه، فقد يوجد بعده للاشارة إليه أو الدلالة عليه. فنحن نقول عن تمثال (مثلا) إنه رمز للجهاد أو الاستقلال، مع أنه لا يكون قد أقيم قبل حدوث هذا أو ذاك، بل بعد حدوثهما وربما بعد حدوثهما بسنوات. ولذلك لا حرج إذا كان العشاء الرباني الذي يمارس بعد صعود المسيح، هو رمز للمسيح أو إشارة إليه، أو تذكار له كما قال الوحي.
(ب) كما أن قول المسيح عن خمر العشاء الرباني، بعد الإشارة إلى أنها دمه، "لا أشرب من نتاج الكرمة هذا"، دليل قاطع على أنها ظلت خمراً كما كانت من قبل، وأن التعبير عنها بأنها دمه هو من باب المجاز فحسب. لأنها لو كانت تحولت إلى دمه، لما كان المسيح قد قال عنها إنها "نتاج الكرمة"، وذلك كي لا يبعث الشك إلى التلاميذ وغير التلاميذ من جهة الاستحالة أو الحلول، إن كانت قد حدثت استحالة أو حلول.
أما الاعتراض، بأن المسيح قال هذه العبارة عن خمر الفصح اليهودي وليس عن خمر العشاء الرباني، كما يتضح من (لوقا 22:18) (الافخارستيا ص 97)، فلا يجوز الأخذ به، لأن العبارة المذكورة وإن كانت قيلت في هذا الموضع عن خمر الفصح اليهودي، غير أنها قيات في موضوعين عن خمر العشاء الرباني، وهذان الموضوعان هما (متى 26: 29، مرقس 14: 25)، الأمر الذي يدل على أن السائل الذي قال المسيح عنه "هذا هو دمي"، كان خمراً عادية مثل الخمر التي كانت في كأس الفصح اليهودي تماماً. ولذلك لا تكون خمر العشاء الرباني هي ذات دم المسيح بل رمزاً له، وبالتبعية لا يكون خبز هذا العشاء هو ذات جسد المسيح بل رمزاً له كما ذكرنا.
(ج) فضلا عن ذلك، فإن علاقتنا مع المسيح في عهد النعمة الذي نعيش فيه الآن، هي علاقة روحية لا جسدية. فقد قال الرسول "إن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد، لكن الآن لا نعرفه بعد" (2 كورنثوس 1605). وهذه الآية لا تعني فقط أن المسيح لا يمكن أن ينـزل بعد صعوده إلى السماء، ويسير في جسد بيننا على الأرض مثلما كان يفعل من قبل، بل تعني أيضاً أننا بعد صعوده إلى السماء لا يمكن أن نلمسه بأيدينا، وبالتبعية لا يمكن أن نتناوله بأفواهنا. ولذلك فالعشاء الرباني لا يمكن أن يكون ذات جسد ودمه، أو أن ذات جسده ودمه يحلان فيه، بل هو رمز لها فحسب.
(د) أخيراً نقول إن المسيح وإن كان من الممكن أن يوجد بلاهوته في كل مكان في وقت واحد، لأن اللاهوت لا يتحيز بحيز على الاطلاق (متى 18: 30). لكن لا يمكن أن يوجد بناسوته في أكثر من مكان واحد في وقت واحد، لأن الجسد الذي شاء المسيح أن يتخذه لنفسه لم يكن جسداً إثيرياً (كما قال بعض الفلاسفة) بل كان جسداً من لحم ودم وعظم مثل أجسادنا[18] (عبرانيين 2:14 ولوقا 24: 39 – 43).
والجسد المادي المكون من لحم ودم وعظم، يتحيز كما نعلم بالحيز الذي يوجد فيه دون سواه. ولذلك عندما كان المسيح موجوداً بالجسد مع يوحنا المعمدان على نهر الأردن، لم يكن موجوداً بالجسد في نفس هذا الوقت في مكان آخر مثل أريحا أو كفر ناحوم. وعندما كان معلقاً بالجسد على الصليب، لم يكن موجوداً بالجسد في هذا الوقت في مكان آخر مثل بيت صيدا أو بيت عنيا.. وإذا كان الأمر كذلك فإن العشاء الرباني الذي يصنع على الأرض، لا يمكن أن يكون هو ذات جسد المسيح الذي في السماء الآن بل رمزاً له، لأن المسيح لم يكن له أكثر من جسد واحد من لحم ودم وعظم.
والفرق الوحيد بين جسد المسيح وبين أجسادنا، أن جسد المسيح لم تكن فيه طبيعة خاطئة مثل التي فينا، لأن هذه الطبيعة لا تنتقل إلا بالتناسل الطبيعي، وهو تبارك اسمه لم يولد بهذه الطريقة، بل ولد كما نعلم بواسطة الروح القدس (لوقا 1: 35). غير أن هذه الولادة لا تقلل من فضله الذاتي في حياة الكمال التي عاشها على الأرض. لأن آدم (مثلا) خلق دون أي أثر للخطية في نفسه، ومع ذلك سقط فيها عندما جربه الشيطان. أما المسيح فمع أنه جرب بتجارب أقسى من تجربة آدم بدرجة لا حد لها، لكنه انتصر وانتصر إلى التمام فيها جميعاً.
4 – إن جسد المسيح باتحاده باللاهوت صارت له بعض خصائصه، ونظراً لأن المسيح يمكن أن يوجد بلاهوته في كل مكان في وقت واحد، فلا يصعب عليه إذاً أن يكون هكذا بالجسد أيضاً. ولذلك ليس هناك مجال للإعتراض إذا كان العشاء الرباني الذي يصنع على الأرض في أماكن متعددة، هو ذات جسد المسيح الذي في السماء (الافخارستيا ص 107).
الرد: هذه الحجة لا يجوز الأخذ بها لسببين:
(الأول) بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن ناسوت المسيح لم يتأثر بلاهوته على الاطلاق، بل ظل كما هو الناسوت الذي يتعب وينام ويجوع ويعطش[19] (يوحنا 4:6، 7 و متى 3:2)، ولا يوجد إلا في مكان واحد في وقت واحد كما ذكرنا فيما سلف.
وقد عرف هذه الحقيقة جميع القديسين القدماء، وفي مقدمتهم القائلون بالإستحالة أنفسهم، ولذلك قالوا "إن اتحاد اللاهوت بالناسوت هو بغير اختلاط أو امتزاج أو تغيير" (إقرأ صلاة الاعتراف بالقداس).
وعلى هذا القياس يمكن أن نقول أن الكمال الأدبي الذي تجلى في المسيح عندما كان على الأرض، لم يكن راجعاً إلى اتحاد اللاهوت بالناسوت فيه، بل كان راجعاً إلى توافقه الشخصي (حتى بوصفه ابن الانسان) مع الله كل التوافق. ولذلك كان كمالا ذاتياً إرادياً، وليس كمالا احتسابياً حتمياً بسبب اتحاد اللاهوت به فقط. وهذا ما جعل للمسيح مركزاً لا يدانى، سواء أفي حياته الشخصية أم في كفارته عن البشرية.
الثاني: إن هذه الحجة تؤدي إلى ضلالتين شنيعتين، إذ لو كان اللاهوت قد غيّرخصائص الناسوت، لكان الناسوت أيضاً (والعياذ بالله) قد غير خصائص اللاهوت. كما أنه لو كان المسيح يوجد بالجسد في أكثر من مكان واحد فب وقت واحد، لتضاربت الآراء من جهة ما فعله المسيح وما حدث له في هذا العالم، ولقال فريق من الناس (مثلا) إن المسيح صلب، ولقال فريق آخر إنه لم يصلب، ولكان الفريقان على حق!! فهل يرضى صاحب الحجة التي نفحصها بالضلالتين اللتين تترتبان على حجته هذه؟!
أما القول، بأن العشاء الرباني لا يصبح بالاستحالة جسداً آخر للمسيح، بل يصبح ذات جسد المسيح الذي ولد من العذراء، والذي صعد به إلى السماء ولا يزال موجوداً به هناك، وأنه لذلك لا يكون هناك مع الاستحالة أكثر من جسد واحد للمسيح "(الافخارستيا ص 97)، فلا يجوز الأخذ به، إذ فضلا عن أنه ليست هناك آية واحدة في الكتاب المقدس تؤيده أو تنص عليه، فلا يمكن أن يكون المسيح موجوداً الآن بالجسد في السماء (كما يقول الكتاب المقدس) ويكون في الوقت نفسه موجوداً بهذا الجسد تحت شكلي الخبز والخمر في أماكن كثيرة على وجه الأرض (كما يقول المؤمنون بالاستحالة والحلول، بناء على عقيدتهم من جهة العشاء الرباني) ولا تكون هناك أجساد متعددة للمسيح. ولذلك لا يمكن أن يكون العشاء الرباني هو ذات جسد المسيح بالاستحالة أو الحلول على الاطلاق.
5 – إن المسيح بقيامته من بين الأموات، اكتسب في جسده خاصية لم تكن موجودة فيه من قبل، والدليل على ذلك أن مريم المجدلية لم تستطع أن تعرفه في أول الأمر، كما أنه استطاع أن يدخل الغرفة التي كان التلاميذ مجتمعين فيها وأبوابها مغلقة. وإذا كان الأمر كذلك، فليس هناك مجال للاعتراض على وجوده بالجسد في أكثر من مكان واحد في وقت واحد، وبالتبعية ليس هناك مجال للإعتراض على أن العشاء الرباني الذي يصنع في أكثر من مكان واحد في وقت واحد، هو بعينه ذات جسد المسيح الذي في السماء (إيضاح التعليم المسيحي ص 20).
الرد: وهذه الحجة لا يجوز الأخذ أيضاً بها للأسباب الآتية:
الأول: إن المسيح عندما ظهر لمريم المجدلية بعد قيامته، كان الظلام لا يزال باقياً (يوحنا 29: 1). كما كانت عيناها مغرورقتين بالدموع (يوحنا 20: 11). فضلا عن ذلك فإنها لم تتوقع أن ترى المسيح حياً بالجسد بعد موته على الاطلاق (يوحنا 20: 13)، وهذه الأمور كانت كافية لكي تحول بينها وبين معرفته لأول وهلة، ولذلك ليس من العدالة في شئ أن يقال أنها لم تستطع معرفته من أول الأمر بسبب حدوث تغيير في طبيعته الانسانية.
الثاني: إن دخول المسيح إلى الغرفة التي كان التلاميذ مجتمعين فيها وأبوابها مغلقة، لا يفرق في شئ عن سيره على الماء قبل قيامته (أو بالحري قبل موته) دون أن يغرق (متى14: 30)، لأنه إن كان بالعمل الأول أصبحت المواد الصلبة المصنوعة منها الغرفة المذكورة، كأنها سائلة أو غازية يمكن اختراقها والسير خلالها، فبالعمل الثاني أصبحت المادة السائلة وهي الماء كأنها صلبة يمكن وطؤها والمشي عليها. ولذلك لا مجال للقول إن المسيح بالقيامة من بين الأموات اكتسب في جسده خاصية لم تكن موجودة فيه من قبل.
الثالث: إن المسي قال لتلاميذه بعد القيامة "جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي"، ثم أخذ بعد ذلك طعاماً وأكل أمامهم كما كان يفعل قبل موته (لوقا 24:39 – 43)، الأمر الذي يدل على أنه بقيامته من بين الأموات، لم يحدث تغيير في طبيعته الانسانية كما ذكرنا.
(الرابع) أخيراً نقول: إن المسيح لم يعمل العشاء الرباني بعد قيامته بل قبل قيامته، أو بالحري قبل موته. ولذلك لو افترضنا جدلا انه اكتسب بالقيامة من الأموات خاصية الوجود بالجسد في أكثر من مكان واحد في وقت واحد (كما يقولون)، لا يكون قد اكتسب هذه الخاصية عندما عمل العشاء الرباني. وإذا كان الأمر كذلك، لا يمكن أن يكون العشاء الرباني الذي عمله المسيح، ونعمله نحن من بعده، هو ذات جسده ودمه، بل رمزاً لهما كما ذكرنا.
6 – إن الشمس وهي واحدة، توجد في أماكن كثيرة في وقت واحد. والمرآة إذا كسرناها إلى أجزاء صغيرة، يستطيع كل منا أن يرى وجهه كاملاً في كل جزء منها. والمثلث إذا قسمناه إلى مثلثات صغيرة، يكون كل واحد من هذه المثلثات مثلثاً كاملا. ولذلك لا اعتراض إذا كان العشاء الرباني الذي يعمل في أماكن متعددة في وقت واحد، هو ذات المسيح، وإذا كان أيضاً كل جزء من هذا العشاء يتناوله شخص ما، هو ذات المسيح بكامله (الافخارستيا ص 21 و 29 و105 و106 و108).
الرد (أ) إن جرم الشمس لا يكون متحيزاً في جهة من الجو في وقت ما، ويكون في الوقت نفسه متحيزاً في جهة غيرها، بل كل ما في الأمر أنه يظهر عن بعد قي أكثر من مكان واحد في وقت واحد (مثله في ذلك مثل كثير من الأجرام المضيئة)، لأن جرم الشمس كبير في حجمه، وموجود في ذات الكون الذي نعيش فيه، لكن المؤمنين بالاستحالة والحلول لا يقولون إنهم يرون جسد المسيح المادي عن بعد في أماكن متعددة في وقت واحد، كما نرى جرم الشمس وغيره من الأجرام، بل يقولون إنه في الوقت الذي يكون هذا الجسد موجوداً أو متحيزاً بين أيديهم في مكان، يكون أيضاً موجوداً أو متحيزاً في أماكن كثيرة بين أيدي غيرهم من الناس، ولذلك فمثل الشمس الذي أتوا به، لا يؤيد قولهم بإمكانية وجود جسد المسيح المادي في أكثر من مكان واحد في الوقت الواحد.
(ب) كما أن أي جزء من المرآة بعد كسرها، ليس هو ذات المرآة قبل كسرها. وهكذا الحال من جهة المثلثات، فإن أي مثلث معمول من المثلث الأصلي، ليس هو عين هذا المثلث قبل تقسيمه. ولذلك فمثلا المرآة والمثلث لا يؤيدان أيضاً قولهم بأن أصغر جزء من الخبز والخمر هو ذات المسيح بكامله. تكون حجتهم هذه لا سند لها، ليس من الكتاب المقدس فحسب، بل ولا من طبائع الأشياء أيضاً.
(ج) فضلا عما تقدم فإن هذه الحجة تتعارض مع الأساس الذي بنيت عليه عقيدة الاستحالة التي يؤمنون بها (والتي تنص على أن الله يحّول العشاء الرباني إلى المسيح أثناء القداس لا بعده)، لأنه إذا كان الله يحول أثناء القداس كل جزء من العشاء الرباني (يعلم أن شخصاً ما سيتناوله) إلى المسيح، يكون قد حول العشاء الرباني ليس إلى المسيح بل إلى مسحاء (بعكس ما يعتقدون). وإن كان يحول العشاء الرباني أثناء القداس إلى المسيح، وعند التوزيع يحول إلى المسيح كل جزء من هذا العشاء بتناوله شخص ما، يكون كل جزء من المسيح تحول إلى المسيح بعد القداس، وهذا أيضاً بعكس ما يعتقدون... الأمر الذي يدل على أن القائلين بالاستحالة يريدون البرهنة على صدقها، حتى إن تعارضت براهينهم مع الأسس التي قامت عليها هذه الاستحالة لديهم...
7 – إن المسيح قال لتلاميذه عن الخبز الذي استعمله في العشاء الرباني "هذا هو جسدي المكسور لأجلكم" (1 كورنثوس 11: 24). وبما أن جسد المسيح لم يكسر على الصليب، كما هو مكتوب "عظم لا يكسر منه"، يكون الخبز الذي أعطاه المسيح لتلاميذه هو عين جسده وليس رمزاً له، لأن هذا الخبز هو الذي كسر بواسطة المسيح (الرد على العشاء الرباني ص 71).
الرد (أ) فضلا عن أن جسد المسيح الواحد لا يكون مكسوراً وغير مكسور، الأمر الذي يدل بداهة على أن العشاء الرباني ليس هو ذات جسد المسيح نقول: إن كلمة "المكسور" مستعملة هنا ليس بالمعنى الحرفي، بل بالمعنى المجازي. والمعنى المجازي لها هنا هو "المبذول". لأن لوقا البشير نقل هذه الآية هكذا "هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم" (لوقا 22: 19)، والذي بذل عن التلاميذ لم يكن الخبز الذي أعطاه المسيح لتلاميذه (لأن هذا الخبز أكلوه بأفواههم ونـزل إلى جوفهم)، بل الذي بذل عنهم هو جسده الذي كان يعيش فيه وقتئذ، ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن الخبز الذي استعمله المسيح في العشاء الرباني كان هو ذات جسده هذا – وقد استعمل الوحي كلمة " الكسر" بالمعنى المجازي في آيات كثيرة، نذكر منها قوله "كسر الرب قوام الخبز" (مزمور 105: 6) و"تكسر الفراء ظمأها" (مزمور 104: 11)، و"كسر الرب ذراع فرعون" (حزقيال 30: 21)، للتعبير عن القضاء على الخبز والظمأ وفرعون.
(ب) ومما يثبت أيضاً أن "الكسر" الوارد ذكره في العشاء الرباني معناه "البذل"، أن الوحي سجل عن المسيح أنه "مسحوق لأجل آثامنا" (اشعيا 53: 5)، وأنه "انسكب كالماء وانفصلت كل عظامه" و"أن قلبه انكسر وذاب كالشمع في وسط أمعائه" (مزمور 22: 14، 69: 20)، مع أن جسد المسيح لم ينسحق ويصبح ناعماً كالدقيق، أو انسكب على الأرض كما انسكب الماء، أو انفصلت عظامه بعضها عن البعض الآخر، أو انكسر قلبه كما ينكسر الإناء، ثم انصهر وتحول إلى سائل في وسط أمعائه – بل إن هذه كلها تعبيرات مجازية للدلالة على أن المسيح يبذل ذاته على الصليب كفارة عنا، تألم آلاماً مبرحة أثرت في نفسه، وفي كل جزء من أجزاء جسده تأثيراً بالغاً.
8 – ان المسيح لم يقل لتلاميذه عن الخبز: "هذا هو جسدي الذي سيكسر لأجلكم"، بل قال: "هذا هو جسدي المكسور لأجلكم"، لذلك لا بد أن هذا الخبز كما هو جسد المسيح بعينه، لأنه هو الذي كان قد كسر وقتئذ (الرد على العشاء الرباني ص 72).
الرد: (أ) ان "كسر جسد المسيح" كما ذكرنا فيما سلف، يقصد به بذله، وهذا البذل وإن كان لم يحدث إلا في اليوم التالي لتأسيس العشاء الرباني، غير أنه كان أمراً مقرراً حدوثه منذ الأزل كحقيقة من الحقائق الأزلية الثابتة. فمكتوب "عالمين أنكم افتديتم.. بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس. دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم" (1 بطرس 1:18 -20)- فجسد المسيح إذاً كان في حكم المبذول أو "المكسور"، ليس فقط عند تأسيس العشاء الرباني وتقديمه للتلاميذ، بل وأيضاً من قبل خلق العالم الذي نعيش فيه بأزمنة لا حصر لها، ولذلك لا مجال للظن بأن الخبز الذي كسره المسيح هو عين جسده.
(ب) أخيراً نقول إن الاصطلاح "جسد المسيح"، لم يطلق فقط على الخبز المستعمل في العشاء الرباني، حتى كان يجوز القول إنه ذات جسد المسيح، بل أطلق أيضاً على الكنيسة (أو بالحري على المؤمنين الحقيقيين كما ذكرنا). فقد قال الرسول عن الكنيسة إنها "جسد المسيح" (أفسس 1: 23)، كما قال عن المؤمنين انهم "أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه" (أفسس 5: 30). وإذا كنا نثق جميعاً أن هؤلاء المؤمنين مع قول الوحي عنهم انهم جسد المسيح، وانهم أيضاً أعضاء جسمه من لحمه وعظامه، لا يتحولون إلى جسد المسيح المادي، أو يحل هذا الجسد فيهم، بل يظلون كما هم بأجسادهم عينها، لأن قوا الوحي عنهم إنهم جسد المسيح قول مجازي.
لذلك ليس هناك ما يبرر الإعتقاد بأن قول المسيح عن الخبز إنه جسده، يدل على أن هذا الخبز يتحول إلى ذات جسده، أو أن ذات جسده يحل في هذا الخبز، إذ أن حديث المسيح عن هذا الموضوع هو أيضاً حديث مجازي، كما اتضح لنا مما سلف. وكل ما في الأمر ان الاصطلاح "جسد المسيح" يطلق على الخبز لأنه رمز للمسيح من ناحية كونه علة حياة البشرية. ويطلق على المؤمنين الحقيقيين من ناحية محبة المسيح لهم وارتباطه بهم ارتباط الرأس بالجسد (أفسسس 5: 29، كولوسي 1:18).
[18]والفرق الوحيد بين جسد المسيح وبين أجسادنا, أن جسد المسيح لم تكن فيه طبيعة خاطئة مثل التي فينا, لأن هذه الطبيعة لا تنتقل إلا بالتناسل الطبيعي, وهو تبارك اسمه لم يولد بهذه الطريقة, بل ولد كما نعلم بواسطة الروح القدس (لوقا 1: 35). غير أن هذه الولادة لا تقلل من فضله الذاتي في حياة الكمال التي عاشها على الأرض. لأن آدم (مثلاً) خلق دون أي أثر للخطية في نفسه, ومع ذلك سقط فيها عندما جربه الشيطان. أما المسيح فمع أنه جرب بتجارب أقسى من تجربة آدم بدرجة لا حد لها, لكنه انتصر وانتصر إلى التمام فيها جميعاً.
[19]وعلى هذا القياس يمكن أن نقول إن الكمال الأدبي الذي تجلى في المسيح عندما كان على الأرض, لم يكن راجعاً إلى اتحاد اللاهوت بالناسوت فيه, بل كان راجعاً إلى توافقه الشخصي (حتى بوصفه ابن الإنسان) مع الله كل التوافق. ولذلك كان كمالاً ذاتياً إرادياً, وليس كمالاً اكتسابياً حتمياً بسبب اتحاد اللاهوت به فقط. وهذا ما جعل للمسيح مركزاً لا يدانى, سواء أفي حياته الشخصية أم في كفارته عن البشرية.
- عدد الزيارات: 4022