5- الحجج الخاصة بوجود آيات في العهد القديم تدل على الاستحالة
بما أن العهد الجدبد ليس به دليل واحد على حدوث استحالة في العشاء الرباني، فطبعاً لا يمكن أن يكون هناك دليل على حدوثها في العهد القديم. ولكن استيفاء للبحث، نرد فيما يلي على الحجج القائلة بوجود أدلة على الاستحالة في هذا العهد:
1- قال أشعيا النبي "في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود عند تخمها" (أشعياء 19: 19)- هذه نبوة صريحة تدل على أنه سيكون في مصر مذبح، وأن المصريين سيقدمون عليه ذبيحة للرب. وهذه الذبيحة لا يمكن أن تكون شيئاً سوى العشاء الرباني، وهذا دليل على أنه ذات جسد المسيح ودمه [الإفخارستيا ص 205].
الرد: إن المذبح المذكور هنا لا يراد به مذبح مادي، لأننا إذا تأملنا كلمة "مذبح" هذه مع كلمة "عمود" التالية لها، وعرفنا أنه ليس هناك عمود للرب بالمعنى الحرفي عند تخم مصر أو حدودها، لأن المراد بهذا العمود هو الشهادة الواضحة للرب كما يتضح من (أشعيا 19: 20) ، أدركنا أن المذبح المذكور لا يراد به أيضاً مذبح مادي بل مذبح روحي، لاسيما وأن الآية لا تنص على مذابح كثيرة (كما هي الحال عند القائلين بالاستحالة) بل على مذبح واحد، وهذا المذبح موجود بالتحديد على أرض مصر، الأمر الذي يفتح المجال لفهمه بالمعنى الروحي، كما ذكرنا.
والمذبح بالمعنى الروحي يراد به موضع سكب القلب أمام الله، أو بتعبير آخر موضع التعبد والسجود له. ولذلك كان يطلق على موضع رفع البخور (الذي كان رمزاً للصلاة المقبولة لدى الله في العهد القديم[36])، اسم "مذبح البخور" مع أن هذا المذبح لم تكن تُرفع عليه ذبائح مادية على الإطلاق. هذا وقد أشار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد إلى أن العبادة ذبيحة، فقال داود النبي لله "ولك أذبح ذبيحة حمد" (مزمور 116: 10) . وقال بولس الرسول للمؤمنين: "فلنتقدم به (أي بالمسيح) في كل حين ذبيحة التسبيح" (عبرانيين 13: 15) .
2- قال ملاخي النبي لبني إسرائيل عن لسان الله: "ليست لي مسرة بكم قال رب الجنود، و(سوف) لا أقبل تقدمة من يديكم لأن من مشرق الشمس إلى مغربها (سيكون) اسمي عظيماً بين الأمم. وفي كل مكان (سوف) يقرب لإسمي بخور وتقدمة طاهرة" (ملاخي1: 11) - هذه الآية تعلن لنا رفض الله لتقدمات اليهود، وتتنبأ عن تقدمة مستقبلة. تكون مقبولة أمامه. وهذه التقدمة لا يمكن أن تكون شيئاً سوى العشاء الرباني. ومما يثبت ذلك، أن الترجمة الحرفية لهذه الآية هي "في كل مكان تقتر وتقرب لأسمى تقدمة طاهرة"، و"القتر" يقتضي حدوث ذبح [الرد على العشاء الرّباني ص79].
الرد: إن "القتر" سواء أكان في العبرية أم العربية لا يقتضي حدوث ذبح، لأنه يُستعمل للتعبير عن إيقاد البخور كما يُستعمل للتعبير عن حرق الذبائح سواء بسواء. فقد جاء في (قاموس المحيط ج2ص113) "يقتر" أي "يتصاعد منه الدخان، كما في حالة البخور أو الشواء". وقد استعمل الخوري ص177 اسطفانوس الدويهى الكاثوليكي هذه الكلمة بالمعنى الأول، فقال في كتاب (أنوار الأقداس ص70) عبارة جاء بها "تقتر الأطياب" بمعنى تحرق وتتصاعد منها الرائحة الذكية، ولذلك فان الترجمة العربية هي ترجمة دقيقة كل الدقة. ولكن مع ذلك فان هذه الآية لا يجوز اتخاذها نبوة عن أن العشاء الرباني هو ذات جسد المسيح ودمه، إذ فضلاً عن أن هذا العشاء ليس ذبيحة كفارية كما ثبت لنا مما سلف، فانه لا يذبح، أو يحرق ويتصاعد منه دخان.
3- قال أرميا النبي "لأنه هكذا قال الرب: لا ينقطع لداود إنسان يجلس على كرسي بيت إسرائيل، ولا ينقطع للكهنة اللاويين إنسان من أمامي يصعد محرقة ويحرق تقدمة ويهيئ ذبيحة كل الأيام" (إرميا 33: 17- 18) - فالكهنة اللاويون المذكورون في هذه الآية لا يقصد بهم الكهنة الذين كانوا في العهد القديم، بل كهنة يكونون في العهد الجديد، لأن بني لاوي أنفسهم كان قد بطل عملهم من زمن بعيد. ولذلك فالمراد بالذبيحة هنا. العشاء الرباني دون سواه. وهذا دليل على أنه ذات جسد المسيح ودمه [الأفخارستيا ص206].
الرد: فضلاً عن أن الكهنة المذكورين في هذه الآيات لا يراد بهم إلا كهنة اليهود لانتسابهم إلى لاوي بالذات، الذي كان أحد رؤساء الأسباط لديهم، فإنها تنص على إصعاد محرقات وحرق تقدمات. ولذلك لا يجوز أن تتخذ نبوة عن العشاء الرباني، لأنه يؤكل ولا يحرق.
4- قال ملاخي النبي "هوذا يأتي قال رب الجنود، فينقي بني لاوي ويصفيهم كالذهب والفضة ليكونوا مقربين للرب تقدمة بالبر. فتكون تقدمة يهوذا وأورشليم مرضية للرب، كما في أيام القدم" (ملاخي 3: 1-4) - فالمقصود ببني لاوي هنا، كهنة يكونون من بين المسيحيين في العهد الجديد، لأن بني لاوي أنفسهم كان الله قد رفضهم من زمن بعيد، وتبعاً لذلك لا يقصد بالتقدمة المذكورة هنا، سوى العشاء الرباني. وهذا دليل على أنه ذات جسد المسيح ودمه [الأفخارستيا ص206].
الرد (أ): فضلا عن أن الوحي يعلن أن الذين سيقومون بالتقدمة المذكورة هنا، هم بنو لاوي بالذات، الأمر الذي يدل على أن هذه الآيات خاصة بنظام العهد القديم دون سواه كما ذكرنا، فإن غرض الله من تنقية بني لاوي هؤلاء أن تكون تقدمتهم مرضية أمامه، كما كانت في أيام القدم. بينما العشاء الرباني لم يكن موجوداً في أيام القدم، لأنه لم يعمل في الأيام السابقة لملاخي صاحب هذه النبوة، بل عمل بعد موته حوالي 400 سنة، كما يتضح من الكتاب المقدس.
(ب) وبالإضافة إلى ما تقدم فإننا إذا رجعنا إلى هذا الكتاب لا نعثر على آية واحدة تدل على أن الله لم يرض عن العشاء الرباني في أي وقت من الأوقات[37]، لكن الذي لم يكن حائزاً لرضى الله هو الذبائح التي كان يقدمها كهنة اليهود له، لأنهم كانوا يقربون الأعمى والأعرج من الحيوانات، كما يتضح من نفس نبوة ملاخي المقتبسة منها الآيات التي نحن بصددها (ملاخي 1: 5- 8). ولذلك فالتقدمة المذكورة في هذه الآيات لا يقصد بها العشاء الرباني على الإطلاق.
5- قال سليمان الحكيم: "الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة، ذبحت ذبحها، مزجت خمرها. أيضاً رتبت مائدتها" (أمثال 9: 1- 5) -هذه نبوة عن أسرار الكنيسة السبعة وبصفة خاصة العشاء الرباني، لأنه هو الذي يعبر عنه بالذبائح والخمر [الأفخارستيا ص207].
الرد: (أ) فضلاً عن أن العشاء الرباني لا يسمى بالكتاب المقدس "ذبيحة" على الإطلاق، فإنه ليس من المعقول أن يتنبأ العهد القديم عن وجود سبعة أسرار ستكون في العهد الجديد، ويكون العهد الجديد نفسه خالياً خلواً تاماً من أي إشارة عنها. وإذا كان الأمر كذلك، فمن المؤكد أنه لا يقصد بهذه الآيات ما يسمى عند القائلين بالاستحالة أسراراً.
(ب) أما معنى الآيات المذكورة فينحصر في أن الحكمة أو بالحري "حكمة الله"، قد أعدت للبشر بسبب محبته الشديدة لهم، بيتاً ثابتاً كل الثبات وكاملاً كل الكمال (لأن الأعمدة تدل على الثبات، والعدد سبعة يدل على الكمال)، وأُعدت لهم في هذا البيت كل ما يحتاجون إليه من طعام وشراب لكي يشبعوا ويفرحوا- وطبعاً لا يراد بهذا البيت بيت مادي بل حضرة الله نفسها، كما أنه لا يراد بالطعام والشراب المذكورين أمور مادية بل أمور روحية تشبع النفس وتملؤها سروراً، فمكتوب عن الله: "أمامه شبع سرور وفي يمينه نعم إلى الأبد" (مزمور 16: 11). ومكتوب عن الراجعين إلى الله أن قلبهم يفرح كأنه بالخمر[38] (زكريا 10: 7) .ولذلك فإن سليمان يوصي بالعبارة التي أمامنا بعدم الانقياد وراء أهواء العالم الباطلة التي تتلف الصحة وتقصي النفس عن الله مصدر السعادة الحقيقية، ويحرص على الطاعة لله والتوافق معه- وهذا هو الغرض الذي يرمي إليه أيضاً سليمان من كل أقواله في سفر الأمثال.
6- قال أشعيا النبي: "حلف الرب بيمينه وبذراع عزته قائلاً: إني لا أدفع بعد قمحك مأكلاً لأعدائك، ولا يشرب الغرباء خمرك التي نعمت فيها، بل يأكله الذين جنوه ويسبحون الرب، ويشربه جامعوه في ديار قدسى" (أشعيا 6: 8- 10) - فالقول إن الخبز يُؤكل بالتسبيح والخمر تُشرب في ديار الرب، إشارة إلى الخبز والخمر اللذين يُستعملان في العشاء الرباني لأنهما هما اللذان يتناولهما المؤمنون بالشكر في ديار الرب [الإفخارستيا ص212].
الرد: الخبز والخمر، كما ذكرنا في الباب الأول، كانا الغذائين الأساسيين لمعظم الشعوب الشرقية القديمة، ولذلك كانت هذه الشعوب تعتز بهما كل الاعتزاز. وكان من عادة اليهود أن ينتقلوا من بلادهم إلى الهيكل في أيام الأعياد، حاملين معهم خبزهم وخمرهم، وهناك كانوا يأكلون الأول ويشربون الثاني شاكرين المولى الذي جاد عليهم بهما. ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن في هذه الآية إشارة إلى العشاء الرباني.
ومما يثبت هذه الحقيقة أن الآيات المذكورة تنص على أن الذين يأكلون الخبز ويشربون الخمر، هم الذين جنوه وجمعوه، بينما التناول من العشاء الرباني ليس وقفاً على الذين يجنون القمح ويجمعون العنب.
[36]- وقد أشار العهد القديم إلى هذه الحقيقة فقال عن الأربعة والعشرين شيخاً "ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوءة بخوراً هي صلوات القديسين" (رؤيا 5: 8) ، فقوله عن جامات البخور أنها بذاتها هي صلوات القديسين (وليس فيها أو معها صلواتهم) دليل قاطع على أنه يراد بها الصلاة بعينيها- ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأن الله لروحانيته المطلقة لا يهمه البخور أو العطور، بل تهمه الحياة المقدسة الطاهرة إذ أن هذه الحياة هي وحدها التي تسره وترضيه.
[37]- مما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن قضاء الله الذي حل على المؤمنين في كورنثوس، لم يكن راجعاً إلى عيب في العشاء الرباني الذي كانوا يمارسونه، بل إلى عدم امتحانهم لأنفسهم قبل التناول منه (1كورنثوس 11: 17- 29) .
[38]- نرى لزاماً علينا في هذه المناسبة أن نشير إلى أن الكتاب المقدس ينهى عن المسكر فقد قال الرسول:"ولا تسكروا بالخمر التي فيها الخلاعة بل امتلئوا بالروح" (افسس 5: 18) . وقال سليمان الحكيم:"لمن الويل، لمن الشقاوة، لمن المخاصمات، لمن الكرب، لمن الجروح بلا سبب، لمن ازمهرار العينين؟ ( الجواب) للذين يدمنون الخمر" (أمثال 23: 29) - أما الحالة الوحيدة التي يجيز فيها الكتاب المقدس شرب الخمر، فهي حالة المرض التي يشير الأطباء فيها باستعمال قليل من الخمر، فقد كتب بولس الرسول وبصحبته لوقا الطبيب، إلى تيموثاوس قائلاً:"لا تكن فيما بعد شرّاب ماء، بل استعمل خمراً قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة" (1 تيموثاوس 5: 23). ولذلك إذا وجدنا عبارة في الكتاب المقدس تدل على فائدة الخمر في غير العلاج، فإن الغرض من الخمر ليس المسكر، بل عصير العنب قبل أن يعتريه تخمير، كما ذكرنا في الباب الأول.
- عدد الزيارات: 6588