Skip to main content

4- الحجج الخاصة بالكهنوت في العهد الجديد

1- قال داود النبي متنبئاً عن المسيح "أقسم الرب ولن يندم. أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (مزمور 140: 4) وملكي صادق هذا نظراً لأنه كان كاهناً لله العلي، أخرج لإبراهيم خبزاً وخمراً عند عودته من الانتصار على أعدائه، وبهما بارك ابراهيم وأخذ العشور منه. ومن هذا يتضح لنا أن كهنوت ملكي صادق كان قائماً بذبيحة من خبز وخمر. وبما أن المسيح جاء على رتبته، يكون كهنوت المسيح قائماً أيضاً بذبيحة من خبز وخمر. أما القول بأن الخبز والخمر اللذين أخرجهما ملكي صادق كانا طعامين عاديين، فليس بمعقول على الإطلاق. لأن ملكي صادق كان ملكاً بجانب كونه كاهناً، ولو كان أخرج لإبراهيم طعاماً، لما كان أخرج له خبزاً وخمراً، بل طعاماً فاخراً مثل اللحوم والفواكه الغالية الثمن (الافخارستيا ص 240- 243).

الرد: (أ) إن الخبز والخمر اللذين أخرجهما ملكي صادق لإبراهيم لم يكونا ذبيحة، وذلك للأسباب الآتية:

(1) لم ترد آية واحدة في العهد القديم تدل على أنهما كانا ذبيحة، كما أن العهد الجديد الذي تحدث بالتفصيل عن ملكي صادق، لم يذكر مطلقاً أنه كان يقدم ذبيحة من خبز وخمر، بل ولم يومئ بأي إشارة إلى أنه أخرج لإبراهيم خبزاً وخمراً (اقرأ مثلاً: عبرانيين إصحاحات 7-9).

(2) لو كان الخبز والخمر ذبيحة، لكان يوجد لدى ملكي صادق مذبح يقدمهما عليه، وتبعاً لذلك لكان قد دعا إبراهيم إلى هذا المذبح، لكي يناوله منهما منهما هناك، لأن ابراهيم لم يكن في حالة الإحتضار التي تستلزم نقل الذبيحة إلى مكان وجوده، كما هو معلوم لدى القائلين بالإستحالة.

(3) إن الوحي لم يقل إن ملكي صادق أخرج الخبز والخمر بأداة التعريف (كما لو كانا شيئاً معروفاً كذبيحة خاصة مثلاً)، بل قال "أخرج خبزاً وخمراً" بصيغة النكرة، ولذلك ليس هناك شك في أن الخبز كان خبزاً عادياً وأن الخمر أيضاً كانت خمراً عادية.

(4) كما أننا لو وضعنا أمامنا أن الذبيحة تكون لمغفرة الخطايا، وجب على القائلين بالإستحالة أن يذكروا لنا الخطية التي ارتكبها ابراهيم وقتئذٍ حتى جاء إليه ملكي صادق لكي يناوله من الخبز والخمر. وإن كانوا لا يعثرون على خطية ارتكبها وقتئذٍ، وجب عليهم أن يذكروا السبب في عدم حضور ملكي صادق لمناولة ابراهيم من الخبز والخمر اللذين يقولون عنهما، عندما أخطأ خطيتيه الواردتين في (تكوين 12: 10 – 22، 20: 2)، حتى يجوز القول إن الخبز والخمر كانا ذبيحة من ناحية من النواحي.

(5) أخيراً نقول: لو فرضنا جدلاً أن خبز ملكي صادق وخمره كانا ذبيحة، فهل كانا يتحولان إلى جسد المسيح ودمه، أم كانا لا يتحولان إليهما؟ فإن كانا يتحولان، يكون المسيح قد بذل نفسه فعلاً عن العالم بطريقة ما قبل مجيئه إلى الأرض، وتبعاً لذلك يكون موته على الصليب بلا معنى أو ضرورة، كما تكون الذبائح التي أمر الله موسى بتقديمها بعد عصر ملكي صادق، كلها ذبائح باطلة لا لزوم لها. وكلا الأمرين لا يتفق مع الحق الكتابي إطلاقاً. وإن كان خبز ملكي صادق وخمره لا يتحولان إلى جسد المسيح ودمه أو إلى أي لحم ودم آخر، فطبعاً لا يكونان ذبيحة كما هو معلوم لدى القائلين بالإستحالة أنفسهم.

(ب) إن البركة التي بارك ملكي صادق بها ابراهيم، لم تكن بالخبز والخمر، بل كانت باسم الله العلي، لأنه لم يقل لإبراهيم عنهما "خذهما بركة" أو "أباركك بهما"، بل قال له "مبارك إبرام من الله العلي مالك السمات والأرض" (ت كوين 14: 8 – 20). كما أن العشور التي أخذها من إبراهيم لم تكن بسبب الخبز والخمر اللذين أخرجهما له، بل بسبب كون ملكي صادقاً رمزاً للمسيح الذي تقدم له العشور. فضلاً عن ذلك فإن رتبته التي جاء المسيح عليها بوصفه ابن الإنسان (الذي جاء على الأرض في الزمان)[31]، ليست لها علاقة بتقديم خبز وخمر، لأن عناصر هذه الرتبة تنحصر فيما يأتي: (1) اقتران الملك بالكهنوت (2) عدم تسلم هذا الكهنوت بالوراثة من أب أو أم بل من الله مباشرة (3) أفضلية هذا الكهنوت على كهنوت هرون الذي كان بنو إسرائيل يعتزون به ويفخرون (تكوين 14: 20، عبرانيين 7: 1- 10).

(ج) أما الذبائح التي كان يقدمها ملكي صادق، فلا شك أنها كانت ذبائح حيوانية مثل الذبائح التي كان يقدمها هابيل ونوح وأيوب وابراهيم وغيرهم من الآباء الأولين، لأن حق الله في كل العصور دون استثناء هو "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عبرانيين 9: 22) ولذلك فالمعنى الوحيد للآيات الواردة في الحجة التي نفحصها، هو أنه لما عاد إبراهيم من الانتصار على أعدائه، خرج إليه ملكي صادق لكي يهنئه. ونظراً لأنه كانت بين إبراهيم وبين ملكي صادق علاقة روحية وثيقة (إذ كان ملكي صادق كاهناً لله العلي، وكان إبراهيم واحداً من رجال الله العلي)، أخرج ملكي صادق خبزاً وخمراً، وعلى الأرجح كمية كبيرة منهما (والمعنى الإجمالي لهذه الآيات يدل على ذلك بوضوح وجلاء)، حتى تكفي الغلمان الذين عادوا مع إبراهيم من الحرب. وطبعاً لم يخرج ملكي صادق لابراهيم لحوماً أو فواكه وقتئذ، لأن العادة جرت على أن يقدم الناس للمسافرين خبزاً وخمراً لاحتمال بقائهما مدة طويلة، دون أن يصيبهما العطب، ولأنهما أيضاً كانا الغذائين الرئيسين في تلك العصور في الباب الأول. فضلا عن ذلك، فان اللحوم والفواكه لا تعتبر عند رجال الله طعاماً فاخراً (كما يعتقد صاحب هذه الحجة)، لأن هؤلاء قد شبعوا بالرب، ومن ثم أصبحت لديهم كل الأطعمة بل وأيضاً كل المساكن سواء. وهذا ما دعاهم على الرغم من ثروتهم الطائلة أن يسكنوا في خيام كالفقراء (عبرانيين 11:9 ،تكوين 14:20).

إن الآية "وملكى صادق ملك ساليم... أخرج خبزاً وخمراً، وكان كاهناً لله العلى" (تكوين 14: 18)، ترد حسب الأصل العبري "لأنه كان كاهناً لله العلى"، وأن الإنجيليين هم الذين حذفوا كلمة "لأنه"، لكي ينفوا أن كهنوت ملكى صادق كان قائماً بذبيحة من خبز وخمر (الافخارستيا ص 246).

الرد: إن الترجمة الحرفية للنص العبري هي "وهوكاهناً لله العلي"، فكل ما فعله الإنجيلييون الذين ترجموا الكتاب المقدس إلى اللغة العربية وغيرها من اللغات، هو إثبات فعل الكينونة المستتر أو غير الظاهرفي هذا النص، وهو "كان"، وقد نسجوا على هذا المنوال في كل الآيات (تكوين 18: 11)، وقالوا "وكان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم" (تكوين18: 169)، وقالوا "وأما إبراهيم فكان لم يزل قائما" (تكوين 18:22)، مع أن كلمة "كان" في هذه الآيات ليس لها مقابل في الأصل العبري.

وقد نحا نحوهم في ذلك الكاثوليك والأرثوذكس بإثبات فعل الكينونة المستتر، غير أنهم أضافوا إلى العبارة المذكورة كلمة "لأنه"، فجاءت العبارة "لأنه كان كاهناً لله العلى". ولسنا نقول إنهم غير أمناء في ترجمتهم، لأنه ليس هناك مسيحي يقترف هذا الوزر على الإطلاق. وكل ما في الأمر أنه نظراً لأن اللغات القديمة تسرد المعاني غالباً في جملة منفصلة، وتسردها اللغات الحديثة في جملة متصلة بأدوات الوصل أو الربط، يحاول معظم المترجمين عند قيامهم بالترجمة أن يربطوا الجمل بعضها بالبعض الآخر بما يرونه مناسباً من هذه الأدوات. فكلمة "لأنه" إذاً ليس لها أساس في الكتاب المقدس، بل إنها من مجرد استحسان المترجمين الأرثوذكس والكاثوليك في الترجمة، ولذلك لا يجوز لهم أن يبنوا عليها عقيدة ما.

3 – إن الكلمة المترجمة إلى العربية "رتبة"، في الآية الخاصة بمجئ المسيح على رتبة ملكى صادق السابق ذكرها، تترجم حسب الأصل اليوناني "طقس"، والجمع "طقوس"، واستعمال هذه الكلمة في الأية المذكورة يثبت أن المسيح بتأسيس العشاء الرباني، عمل ذبيحة من خبز وخمر على طقس ملكى صادق، أو مثلما عمل ملكي صادق من قبل (الافخارستيا ص 240)

الرد: اتضح لنا فيما سلف أن المسيح لم يقصد بالعشاء الرباني ذبيحة لمغفرة الخطايا، كما اتضح لنا خطأ الاعتقاد بأن ملكي صادق كان يقدم ذبيحة من خبز وخمر، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الحجة على الإطلاق. لكن لكيلا نترك ثغرة ينفذ منها الشك إلى إنسان ما من جهة حق الله، نقول: إن كلمة "طقس" ليست عربية الأصل، بل معربة عن الكلمة اليونانية "تاكسيس"، ومعناها "رتبة أو ترتيب"، ولا علاقة لهذه الكلمة أصلاً بخدمة الذبائح أو غيرها من الأعمال الدينية. وقد عرف الأرثوذكس أنفسهم هذه الحقيقة كل المعرفة، فقالوا في كتب اللغة القبطية "ألفا فيتون إن أتا كسيس" أي "حروف الهجاء (ألف باء) بدون ترتيب". وقالوا في الكتب الدينية "إن دبورة النبية لم يرتفع قلبها، بل كانت تذكر طقس النساء، وتقول إن الرجل رأسها" و"إن النفس تعود إلى طهارة طقسها الأول" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 317، 82، 246) وكلمة "طقس" في هذه العبارات لا تعني شيئاً سوى "رتبة أو ترتيب" كما ذكرنا ولذلك فإن مجيء المسيح كابن الإنسان على رتبة ملكي صادق أو طقسه، لا يدل على أنه يقدم ذبيحة من خبز وخمر مثل ملكي صادق (على فرض أن ملكي صادق كان يقدم ذبيحة من هذا النوع)، بل تدل على أنه (بوصفه ابن الإنسان) يشترك مع ملكي صادق في رتبته (أو بالحري في مميزات رتبته) التي ذكرناها عندالرد على الحجة الأولى في هذا الفصل.

4- بما أن المسيح هو كاهن إلى الأبد (عبرانيين 5: 6)، وبما أن دوام الكهنوت يتطلب دوام تقديم الذبائح، لذلك من الواجب أن تكون للمسيح ذبيحة يقدمها باستمرار لئلا يتعطل كهنوته. فمكتوب "لأن كل رئيس كهنة يقام لكي يقدم قرابين، فمن ثم يلزم أن يكون لهذا (أي المسيح) أيضاً شيء يقدمه" (عبرانيين 8:3). وإذا كان الأمر كذلك، فإن العشاء الرباني الذي يقدمه المسيح بواسطة وكلائه (أو بالحري كهنته الرسميين في العهد الجديد) هو ذبيحة، ومن ثم يكون هو ذات جسد المسيح ودمه (الافخارستيا ص 237).

الرد: لا يتسع المجال أمامنا الآن للبحث في قانونية وكالة هؤلاء الكهنة للمسيح أو عدم قانونية وكالتهم له، ولذلك نكتفي بالقول:

(أ) إن المسيح على الصليب قدم الذبيحة اللازمة بناء على الآية الواردة في (عبرانيين 8: 7) والمذكورة في الحجة التي نفحصها. لكن هذه الذبيحة تختلف كل الإختلاف عن ذبائح الكهنة ورؤساء الكهنة في العهد القديم، لأن ذبائحهم كانت ذبائح حيوانية ليست في ذاتها بكافية للتكفير عن الخطيئة، ولذلك كان يتكرر تقديمها من وقت إلى آخر (عبرانيين 10: 11)، بينما ذبيحة المسيح كانت نفسه التي هي أغلى من نفوس البشر بدرجة لا حد لها، ولذلك استطاعت أن تفكر عنها جميعاً تكفيراً حقيقياً أبدياً، وليس تكفيراً رمزياً وقتياً، كالتكفير الذي كان يحصل عليه رئيس الكهنة في العهد القديم لجماعته فحسب. فمكتوب عن المسيح "وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس (السماوية) فوجد فداء أبدياً" (عبرانيين 9: 12)، ومكتوب "فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام جميع الذين يتقدمون به إلى الله" (عبرانيين 7: 25).

(ب) ومما يدل أيضاً على أن ذبيحة المسيح التي قدمها مرة على الصليب لها كفاية لا نهائية لكل البشر في كل العصور والأجيال، وأنه ليس هناك ما يدعو إلى تقديم غيرها، أو تقديمها هي بذاتها من وقت إلى آخر (بواسطة أي شخص من الأشخاص، أو تحت أي شكل من الأشكال)، أن الوحي قال عن المسيح إنه: "بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي" (عبرانيين 1: 3)، اقرأ أيضاً (عبرانيين 8: 1، 10: 12، 12:2)، وجلوس المسيح يراد بهاستراحته بالتمام من كل الأعمال الخاصة بالخطية والتفكيرعنها، الأمر الذي لم يبلغه أحد من رؤساء الكهنة في العهد القديم بذبائحهم المتعددة التي كانوا يقدمونها لله من وقت إلى آخر، ولذلك لم يكن يسمح لواحد منهم بالجلوس في قدس الأقداس على الإطلاق. فمثل المسيح والحالة هذه (إن جاز التشبيه) مثل شخص كفء قدير، قام بكل الأعمال المسندة إليه دفعة واحدة، ثم استراح بعد ذلك إلى الأبد.

أما لو كان المسيح يقدم ذبيحة نفسه من وقت إلى آخر للتفكيرعن الخطية، بأي واسطة من الوسائط، أو تحت أي شكل من الأشكال (كما يقول المؤمنون بالاستحالة)، لما كان قد جلس، ولما كانت المرة الواحدة التي قدم نفسه فيها على الصليب، بكافية للتفكير عن البشر إلى الأبد. وبما أن هذا يتعارض مع الوحي كل التعارض (عبرانيين 9:12 ،10: 14 – 18)، إذاً لا مفر من التسليم بأن العشاء الرباني ليس هو ذبيحة الصليب.

(ج) كما أننا إذا وضعنا أمامنا (أولا) أن تقديم الذبيحة الكفارية السنوية في العهد القديم بواسطة رئيس الكهنة (الذي كان يعتبر رمزاً للمسيح)، لم يكن غرضاً مقصوداً لذاته بل كان وسيلة لغرض، وهذا الغرض هوالمثول أمام الله في قدس الأقداس لكي يقوم بالشفاعة من أجل الشعب واستجلاب الغفران له على أساس الذبيحة المذكورة

(ثانياً) أن عدم كفاية هذه الذبيحة للتكفير، هو الذي كان يضطر رئيسالكهنة وقتئذ إلى تقديم ذبيحة غيرها كل عام، حتى يدخل بدم هذه أيضاً إلى قدس الأقداس ويستأنف خدمته الشفاعية هناك، وهكذا دواليك – اتضح لنا أن القول (بأن المسيح يجب أن يقدم ذبيحة من وقت إلى آخر لئلا يتعطل كهنوته) ليس بصواب، لأن المسيح بناء على ذبيحة نفسه التي كفرت عن الخطية تماما، قد دخل إلى الأقداس السماوية ولا يزلا موجوداً فيها إلى الآن، وسيبقى فيها إلى الأبد الذي لا نهاية له أيضاً (بعكس رئيس الكهنة الذي كان بعد تقديم الدم في قدس الأقداس الأرضي يخرج منه على الفور)، وفي الأقداس السماوية يقوم له المجد بوصفه ابن الإنسان الكامل بالخدمة الكهنوتية باستمرار، لكي يحفظ المؤمنين في كل العصور في حالة الرضا أمام الله. فقد قال الرسول: "لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقة، بل إلى السماء عينها لظهر الآن (أي طول عهد النعمة) أمام وجه الله لأجلنا (جميعاً)" (عبرانيين 9: 24)، ولذلك أصبح لنا أن نتقدم في كل حين، بثقة إلى عرش النعمة، لكي ننال رحمة ونجد عوناً في حينه (عبرانيين 4: 16).

(د) أخيراً نقول إن المسيح بدخوله بدم نفسه إلى الأقداس السماوية وليس إلى الأقداس الأرضية (عبرانيين 9: 12) قد جعل دائرة خدمته الكهنوتية وهيكلها ليس في الأرض بل في السماء. ولذلك قال الرسول عن المسيح "لو كان على الأرض، لما كان كاهناً" (عبرانيين 8: 4). وإذا كان المسيح ليس له كهنوت على الأرض، فطبعاً لا يكون له وكلاء في كهنوته هذا عليها. وإذا كان الأمر كذلك، فليس لنا الآن أن نبحث عن هيكل أرضي، أو عن كاهن أرضي يقربنا إلى الله على أساس ذبيحة يقدمها عنا، أو يقدمها المسيح بواسطته (إن جاز حدوث ذلك، كما يقول المؤمنون بالاستحالة)، بل علينا أن نتطلع بقلوبنا إلى السماء، ونثق في كفاية كفارة المسيح التي قدمها مرة على الصليب نيابة عنا، وفي خدمته الكهنوتية الكاملة التي يقوم بها لأجلنا هناك في كل حين، فتستريح قلوبنا كل الراحة وتطمئن كل الإطمئنان.

5- إن حرف "الكاف" في كلمة "ككاهن"، الوارد في قول الرسول عن نفسه "مباشراً لإنجيل الله ككاهن" (رومية 15: 16)، ليس له وجود في النسخة اليونانية للكتاب المقدس، ولذلك فإن هذا الرسول لم يكن ككاهن، بل كان كاهناً أو بالحري كاهناً بالمعنى الحرفي. وإن كان كاهناً بهذا المعنى، يجب أن تكون له ذبيحة كفارية يقدمها، وهذه الذبيحة لا يمكن أن تكون شيئاً سوى العشاء الرباني، وهذا دليل على أن هذا العشاء هو ذات جسد المسيح ودمه (الرد على العشاء الرباني ص 84).

الرد (أ) إذا قابلنا بين النسخة اليونانية للكتاب المقدس، وبين أي ترجمة لها، يتضح لنا أن الحرف المذكور هو من مقتضيات الترجمة، وقد اضطر بعض المترجمين إلى استعماله لكي يوضحوا المعنى الوارد في الأصل اليوناني. وقد فعلوا ذلك ليس في الترجمة العربية وحدها، بل وفي بعض التراجم الأخرى أيضاً. فقد قال "Moffatt" في ترجمته الإنجليزية ما تعريبه "ككاهن ليسوع المسيح".

(ب) ومما يثبت أن الرسول لم يكن كاهناً بالمعنى الحرفي بل بالمعنى الروحي، أن الكلمة اليونانية المقابلة لكلمة "ككاهن" هنا، ليست هي "هيرؤس"، والتي يقابلها في العربية "كاهن يختص بتقديم الذبائح" كما جاء في الآية "إذهب أرِ نفسك للكاهن وقدم القربان الذي أمر به موسى" (متى 8: 4) وغيرها من الآيات مثل (متى 12: 4، مرقس 1: 44، لوقا 1:5، أعمال 14: 13، خروج 35: 18، عبرانيين 7: 17، 10:21)، بل إن هذه الكلمة هي "هيرورجو". وقد أجمع العلماء على أن الكلمة المذكورة لم تستعمل في الكتاب المقدس إلا في الآية التي نحن بصددها، كما أنها لم تستعمل في الكتب القديمة إلا في (كتاب المكابيين 7: 9)، وأن معناها "ككاهن" أو " ككاهن يخدم في الأقداس كما كان يفعل الكاهن قديما [32]" – فقد جاء بالمكابيين هذا "ان الملك ديمتريوس ابن سلوقس من رومية قلد الكيمس الكافر الكهنوت، وأمره أن ينتقم من بني اسرائيل". فالكيمس هذا لم يصبح كاهناً، بل صار فقط ككاهن[33]. ولذلك قال الكاثوليك في ترجمتهم العربية لهذه الآية "وأباشر خدمةإنجيل الله الكهنوتية" (وتسمية خدمة الإنجيل بأنها كهنوتية، لا تدل على أن القائم بها كاهن بالمعنى الحرفي يقدم ذبيحة كفارية لله، لأن خدمة الإنجيل خدمة روحية محض. ومن ثم تكون كهنوتية، بمعنى أن القاءم بها يؤدي خدمة للهيكل تقوى وقداسة، كما كان الكاهن يفعل في العهد القديم عند تقديم الذبائح لله). وقالوا هم أنفسهم في ترجمتهم للآية نفسها إلى الانكليزية ما تعريبه: "حتى أخدم إنجيل الله بقداسة"، الأمر الذي يثبت أنهم لم يفهموا من هذه الآية أنها تدل على أي كهنوت بالمعنى الحرفي. كما أننا إذا رجعنا إلى الترجمات الإنكليزية الأخرى نجد أن المترجمين ترجموها: "حتى أكون خادماً ليسوع المسيح لأجل الأمم أخدم إنجيل الله خدمة مقدسة" (Standard Revision) أو "مجاهداً في الخدمة المقدسة لإنجيل الله" (New World Translation) وهذه الترجمات مع تعددها واختلاف ألفاظها لها معنى واحد، وهو أن الرسول لم يكن كاهناً يقدم ذبائح كفارية عن الناس، بل كان يخدم الإنجيل بين الأمم بقداسة وورع ككاهن يعمل في أقداس الله. ولذلك فالقول إن الرسول كان يخدم الإنجيل ككاهن، أو "يخدمه بقداسة" أو "إن خدمة الإنجيل هي خدمة كهنوتية"، كل ذلك يتفق مع الأصل اليوناني كل الاتفاق.

(ج) والحق أن من اشتغل بالترجمة يدرك أنه كثيراً ما يصعب على المرء نقل عبارة من لغة إلى آخرى، بنفس الترتيب اللفظي الموجودة عليه هذه العبارة في اللغة التي يترجم عنها، ولذلك كان الشرط الأساسي في الترجمة، ليس هو الترجمةالحرفية بل الترجمة المعنوية مع مراعاة الأمانة فيها، والأمانة في ترجمة الكتاب المقدس والحمد لله متوافرة – وحتى إن اختلف المترجمون أحياناً في ترجماتهم (شأن البشر جميعاً مهما تقاربت أو اتحدت ثقافتهم)، فالأصلان اليوناني والعبراني موجودان بين أيدينا ومنهما يمكننا أن نعرف الحقيقة تماماً.

6 – بما أن المسيح رئيس كهنة، والرئيس له مرؤسون، إذاً لا بد أن يكون للمسيح كهنة مرؤسون له. وبما أن الكهنة لا يكونون كهنة، إلا إذا كانوا يقدمون ذبائح كفارية، إذاً فهؤلاء الكهنة يجب أن تكون لهم ذبيحة كفارية يقدمونها، وهذه الذبيحة لا يمكن أن تكون شيئاً سوى العشاء الرباني. وهذا دليل على أنه ذات جسد المسيح ودمه. (الافخارستيا ص23).

الرد: إن المسيح لم يأت رئيس كهنة على رتبة هرون، الذي كان له خلفاء في خدمته الكهنوتية، حتى كان من الجائز أن يقال إنه يجب أن يكون للمسيح خلفاء يقدمون ذبيحة كفارية (أياً كان نوعها) كما كان لهرون من قبل، بل أتى على رتبة ملكى صادق. وملكى صادق هذا، كان وحيداً فريداً في خدمتهالكهنوتية، فلم يكن له خلف في هذه الخدمة، كما لم يكن له سلف فيها (عبرانيين 7: 2).

كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن هرون لم يعيّن من تلقاء نفسه أولاده كهنة لله، بل الله نفسه هو الذي عيّنهم (لأن هرون لميكن في وسعه أن يقوم بكل الأعمال الكهنوتية اللازمة للشعب بمفرده، ولأنه كان أيضاً معرضاً للنجاسة التي كانت تمنع من ممارسة هذه الأعمال، وللمرض والموت الذين يؤديان إلى تعطيل الأعمال المذكورة أو توقفها نهائيا) اتضح لنا أنه لو فرضنا جدلاً أن المسيح أتى على رتبة هرون الذي كان له خلفاء للمسيح في خدمته الكهنوتية، لأنه فضلاً عن أنه يستطيع القيام بهذه الخدمة بمفرده لكل الناس في كل العصور، فهو لا يتعرض للنجاسة أو الضعف أو المرض على الإطلاق. كما أنه بعد ما مات مرة كفارة عن خطايانا، لا يمكن أن يسود عليه الموت فيما بعد بأي شكل من الأشكال (رومية 6: 9).

(ب) فضلاً عن ذلك فإننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نجد أن المسيح وإن كان قد أعطى البعض أن يكونوا رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين (أفسس 4: 11- 12)، وأن الرسال وإن كانوا قد أقاموا في كل كنيسة أساقفة (أو قسوساً) وشمامسة، لكن لا المسيح أقام فئة خاصة تدعى كهنة، ولا الرسل أقاموا هذه الفئة من بعده. كما أننا إذا فحصنا الأعمال التي أقيم الأساقفة أو القسوس لتأديتها نجد أنها تنحصر في رعاية المؤمنين وإرشادهم والسهر عليهم، وأنها لا تتضمن مطلقاً القيام بالعشاء الرباني أو تقديم أي ذبيحة كفارية (أعمال 20: 28- 31)، ولذلك لا يكونون كهنة بالمعنى الحرفي. أما كلمة "شماس" فليست عربية الأصل، بل معربة عن كلمة سريانية هي "مشمشونو" ومعناها خادم بالمعنى المعروف لدينا. وكان الشمامسة يختارون في العصر الرسولي من الرجال المؤمنين (وليس من الأولاد) (1 ؤتيموثاوس 3: 12)، كان عملهم ينحصر في العناية بالأرامل والفقراء (أعمال 6: 1- 3) ولا يتضمن مطلقاً مساعدة القسوس في الصلاة أو الإشتراك معهم فيها.

والسبب في عدم إقامة كهنة من بين المؤمنين في العهد الجديد، ليقدموا عنهم ذبائح كفارية يرجع طبعاً إلى أن موت المسيح على الصليب كافٍ للتكفير عن كل من يؤمن به إيماناً حقيقياً في كل العصور كما أعلن الوحي، ومن ثم لم تعد هناك حاجة إلى ذبيحة كفارية (عبرانيين 10: 18) أياً كان نوعها.

(ج) غير أنه يجب ألا يفوتنا أنه وإن كان المسيح لم يقم هو أو رسله فئة تدعى "كهنة"، لكن الكتاب المقدس يعلن لنا أن جميع أبناء الله (أو بالحري المؤمنين الحقيقيين[34] هم كهنة لله، فقد قال يوحنا السول عن المسيح "الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه" (رؤيا 1: 6)، وقال بطرس الرسول للمؤمنين "أما أنتم فجنس مختار، كهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب إقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب" (2 بطرس 1: 9)، كما قال لهم: "كونوا أنتم أيضاً ... كهنوتاً مقدساً" (1 بطرس 2: 5). وكهنوت هؤلاء المؤمنين كما يتضح من الآيتين الأخيرتين ليس كهنوتاً بالمعنى الحرفي لتقديم ذبائح كفارية، بل هو كهنوت روحي لتقديم خدمات وذبائح روحية[35].

(د) ويبدوا لي أن المؤمنين الحقيقيين كانوا (لغاية القرن الرابع تقريباً) يعتبرون جميعاً كهنة لله.فقد جاء في الدسقولية ( ص 144) "ولا نأمر أيضاً كل الكهنة أن يعمدوا... بل يعمد الأسقف والقس ويخدم معهما الشماس" فالكهنة هنا يراد بهم طبعاً أشخاص غيرالأساقفة (أو القسوس) والشمامسة. وأشخاص غير هؤلاء يعتبرون كهنة هم المؤمنون الحقيقيون ولاشك. ومما يثبت ذلك أن صاحب الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة قال في (ج1 ص 148) "إن الكاهن لم يكن يراد به واحداً من الإكليروس فقط، بل كان يراد به الواعظ وخادم الكلمة والقارئ والمرتل والبواب"، لأنه حتى البواب كان في القرون الأولى مؤمناً حقيقياً.

وقد أشار أحد أفاضل الأرثوذكس القدامى إلى كهنوت المؤمنين العام فقال "النفس هي هيكل الله، والقلب هو المذبح المقدس الذي تقدم عليه ذبائح التسبيح والحب الطاهر، والعقل هو الكاهن الذي يقوم بشرف الخدمة هناك" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 281).

(ه) مما تقدم يتضح لنا أن ربنا يسوع المسيح هو رئيس كهنة، ليس لأنه له كهنة يقدمون ذبيحته التي قدمها مرة على الصليب، تحت أي شكل من الأشكال (كما يقول المؤمنون بالاستحالة)، بل إنه رئيس كهنة لسببين يختلفان عن ذلك كل الإختلاف. وهذان السببان هما (1) إنه قام (بوصفه ابن الإنسان) بالمهمة التي لم يكن يقوم بها إلا رئيس الكهنة، وهذه المهمة هي التكفير عن جميع الناس، والدخول بالدم إلى أقداس الله، والظهور أمام وجهه لأجل المؤمنين منهم. وقد قام له المجد بالعملين الأولين بموته على الصليب من أجل خطايانا وقيامته لأجل تبريرنا، ويقوم الآن بالعمل الثالث بحياته في السماء لأجلنا، وسيستمر في القيام بهذا العمل إلى نهاية الدهر، وذلك ليس مثالاً أو رمزاً (كما كان يفعل رئيس الكهنة في العهد القديم) بل فعلاً وحقاً. (2) إننا نحن المؤمنين بوصفنا كهنة لله في العهد الجديد نقوم بخدماتنا الكهنوتية السابق ذكرها، تحت رئاسته وإرشاده، فهو المثل الأعلى الذي نقتدي به في صفات الطهارة والقداسة والمحبة والعطف والتضحية وإنكار الذات، التي هي العناصر الأساسية لهذه الخدمات.

7- إن كون المؤمنين في العهد الجديد هم كهنة لله، لا يتعارض مع وجود كهنة من بينهم يقدمون الذبيحة بالكفارية عنهم في هذا العهد، لأن الله قال لليهود جميعاً من قبل "وأنتم تكونون لي مملكة كهنة"، ومع ذلك كان بينهم كهنة يقدمون عنهم ذبائح كفارية (الإفخارستيا ص 238).

الرد (أ) إن الله لم يعين بني إسرائيل مملكة كهنة. بل وعدهم فقط أن يكونوا مملكة كهنة، كما أن وعده هذا لم يترتب عليه أن يكون كل منهم بمفرده كاهناً، فضلاعن ذلك فإن هذا الوعد كان مشروطاً بوجوب الخضوع لصوته تعالى وحفظ وصاياه (خروج 19: 5). ونظراً لأنهم لم يقوموا بتنفيذ هذين الشرطين زال الكهنوت من بينهم. أما المؤمنون الحقيقيون في العهد الجديد فلم يعدهم الله أن يكونوا مملكة كهنة بل عينهم بالفعل مملكة كهنة، فضلا عن ذلك فقد عين كلا منهم بمفرده كاهناً، كما جعل بقاءهم في هذا المركز ليس متوقفاً على أعمالهم بل على استحقاق كفارة المسيح الدائمة الأثر. فالخضوع لصوت الله وحفظ وصاياه بالنسبة لهم ليس شرطاً للبقاء في مركز الكهنوت، بل هو عامل يساعدهم على القيام بأعباء هذا المركز.

(ب) فضلا عما تقدم فإن اليهود لم يقيموا من تلقاء أنفسهم كهنة يقدمون عنهم الذبائح الكفارية لله، بل الله نفسه هو الذي أقامهم وعين واجباتهم وأعمالهم في العهد القديم. أما في العهد الجديد فلم يقد الله كهنة يقدمون عنا ذبائح لمغفرة الخطايا، لأنه ليس هناك ما يدعو إلى ذلك. كما ذكرنا فيما سلف. ومن ثم فإن إدخال أي نظام كهنوتي في المسيحية يجعل المسيحية امتداداً لليهودية وهذا ما لا يرضاه أي مسيحي على الإطلاق. لأن المؤمنين الحقيقيين في المسيحية هم شعب سماوي (يوحنا 15:19) وبركاتهم سماوية (أفسس 1:3) ودائرة عبادتهم بالروح في السماء عينها (عبرانيين 4: 16)، بخلاف اليهود مهما كانت تقواهم.

[31]أما بوصف المسيح "ابن الله الأزلي"، فهو طبعاً سابق لملكي صادق في الوجود بأزمنة لا حصر لها، ومن ثم فإن المسيح من هذه الناحية لا يكون على رتبة ملكي صادق، بل يكون ملكي صادق على تبة المسيح. وقد أشار الوحي إلى هذه الحقيقة، فقال عن ملكي صادق إنه مشبه بابن الله (عبرانيين 7: 3)، ووجه الشبه في هذه الحالة ينحصر في أن ملكي صادق كان بلا بداية أو نهاية محددة في خدمته الكهنوتية (على النقيض من هرون وبنيه)، والمسيح، بوصفه الابن الأزلي، هو بلا بداية أو نهاية على الإطلاق، سواء أكان في وجوده أم في عمله، فهو موجود من الأزل إلى الأبد وعامل من الأزل إلى الأبد – والتشبيه في هذه الحالة هو طبعاً تشبيه جزئي، لأن المشبّه لا يكون مثل المشبه به من كل الوجوه.

 

[32] Exhaustive & 300 – 298 p.p. lexicon, English-Greek Concordance Anlytical

[33] كتب كتاب المكابيين قبل المسيح بمائتي سنة تقريبا، وهو أحد الكتب التي يقول الأرثوذكس والكاثوليك إن الإنجيلين حذفوا من الأسفار المقدسة. والحقيقة أن هذه الكتب لم تكن يوما جزءاً من الكتاب المقدس، والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها: (أ) إن هذه الكتب لم ترد في التوراة العبرية (ب) إن يوسيفوس المؤرخ اليهودي في القرن الأول لم يشرإليها (ج) لا توجد اقتباسات منها في العهد الجديد (د) إنها تسند في أحد قصصها الكذب إلى الملاك (ه) شهد بعدم قانونيتها القديس يوستينوس في القرن الثاني وأوريجانوس في القرن الثالث، إلا في المجمع الثالث، واثناسيوس وغريغوريوس في القرن الرابع، ولم تعتبر قانونية إلا في المجمع التريدنينى عام 1545 (و) إن كتاب المكابيين ينتهي بالقول: "فان كنت قد أحسنت التأليف وأصبت الغرض، فذلك ما كنت أتمنى. وإن كان لحقنى الوهن والتقصير، فأني قد بذلت وسعي" – وعبارة مثل هذه لا تدل على أن الكتاب كان منقاداً بالوحي بل باجتهاده الشخصي

[34] أما المؤمنون غير الحقيقيين مهما أظهروا من تدين ومعرفة بشؤن الدين، ومهما كانت الطوائف التي ينتمون إليها أو المراكز الدينية التي يشغلونها، فلا نصيب لهم في هذا الكهنوت الروحي على الإطلاق. لأنهم بسبب عدم اتصالهم الروحي بالله لا يستطيعون أن يعرفوه، وبالتالي لا يستطيعون أن يقوموا بأي خدمة مرضية أمامه.

[35] وأهم هذه الخدمات أو الذبائح هي (أ) تقديم أجسادهم نفسها "ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله"، أو بتعبير آخر: صلب أهوائهم وشهواتهم، لكي تكون حياتهم بأسرها مقدسة لله يستخدمها في عمل إرادته، دون أي معارضة من جانبهم (رومية 12: 1). (ب) ذبيحة التسبيح، أو التعبد القلبي لله بسبب كماله وعظمته وقدرته وصفاته السامية الأخرى، وفوق كل شيء بسبب محبته المطلقة للبشر وتكفيره بنفسه عن خطاياهم، ثم رعايته للمؤمنين منهم طوال سيرهم في العالم (عبرانيين 13: 15) (ج) القيام بكل ما يستطيعون بأعمال الخير، ليس بغية الحصول على مديح أو جزاء، بل لمجرد مشاركة الله في صفاته السامية من جهة العطف على المحتاجين والمعوزين (عبرانيين 13: 16) (د) الإشتراك مع الله في أغراضه السامية من نحو العالم، والعمل على ما يؤول إلى خير هذا العالم وهنائه، وذلك بالصلاة من أجل الملوك والرؤساء لكي يحفظهم المولى من الزلل في إدارة شؤون بلادهم، حتى يقضي الناس جميعاً حياة مطمئنة هادئة (1 تيموثاوس 1: 1- 2) (ه) السعي للإتيان بالخطاة إلى المسيح لكي يفيدوا من كفارته ويحصلوا منه على حياة روحية تسمو بهم فوق قصورهم الذاتي، وتجعلهم أهلاً للتوافق مع الله والتمتع به (أعمال 20: 19، 31 ورومية 15: 16 و 1 كورنثوس 9: 16) (و) العمل على تخفيف آلام المتألمين، ومعاملة جميع الناس بالمحبة والعطف، متمثلين في ذلك بما عمله المسيح ويعمله في كل حين (غلاطية 6:

2). (ز) إظهار فضائل المسيح في حياتهم أو بالحري في كل أعمالهم وأفكارهم، حتى يدرك الناس شيئاً من كماله، فيتمتعوا به ويفيدوا منه (1 بطرس 2: 9) – وحقاً ما أسمى هذه الذبائح والخدمات، وما أجمل فوائدها ونتائجها!!

  • عدد الزيارات: 6901