Skip to main content

عمل الروح القدس

هذا هو الدرس البليغ الدائم الذي ألقاه الرب قبل أن توجد الجماعة. على أن الروح القدس لم يتركنا لهذه المبادئ الإعدادية التي وضعها شخص الرب، بل قد أعطى لنا في رسالة كورنثوس الأولى – ولاسيما في الإصحاح الرابع عشر – بياناً مستوفى عن الخطة التي يريد الرب أن تتصرف الجماعة بمقتضاها. وقبل أن ألفت نظر القارئ إلى ذلك الإصحاح أشير أولاً إلى الإصحاح الثاني عشر الذي هو بداية الإعلانات الروحية. وفي هذا الإصحاح (ص 12) نرى عمل الروح القدس في أفراد جماعة الله الكثيرين "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد. وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد. ولكنه لكل واحد يُعطى إظهار الروح للمنفعة. فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمه. ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد. ولآخر إيمان بالروح الواحد. ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد". هكذا إلى آخر ما جاء بهذا الخصوص. ولو أننا نجد في هذا الإصحاح كلاماً من عمل الروح القدس في الجماعة إلا أن الإصحاح يبدأ بإظهار الفرق بين الأرواح التي ليست من الله وبين الروح القدس. والمسألة ليست مسألة من هم مسيحيون ومن هم ليسو مسيحيين بل هي مسألة تمييز ما هو من الروح القدس عما هو من الأرواح التي تضاده والتي هي آلات العدو.

وإن قال واحد: وكيف أستطيع أن أميز؟ فالجواب. "ليس أحد وهو يتكلم بروح الله يقول يسوع أناثيما. وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس" أي أن روح الله القدوس لا يقول عن ربنا يسوع (في ذاته وفي نسبته إلى الله) أنه تحت اللعنة. هذه علامة بسيطة وخطيرة وما أحرانا أن نزنها وزنها الصحيح نحن الذين قد وجه إبليس نحونا في أيامنا الحاضرة جهوده الآثمة. وإلا أفلم يكن بيننا أناس يقولون بجرأة وقحة أن ربنا يسوع – في نسبته إلى الله كإنسان – كان تحت لعنة الناموس المكسور، وأن نفسه كانت بعيدة عن الله بعد الإنسان عنه تعالى؟ ولا شك أننا إذا سمعنا كلاماً مثل هذا نستطيع أن نميز من أي روح هو، إذ "لا يقدر أحد وهو يتكلم بالروح القدس يقول يسوع أناثيما (أي ملعون)" كما أنه من الجهة الأخرى "لا يقدر أحد أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس". عندما يظهر الروح الشرير في ميدان العمل قد ينطق بأمور حسنة، وقد يبدو كأنه يعظم المسيح وخدامه – كما رأينا في الأناجيل وفي سفر الأعمال – ومع ذلك فلا يعترف مطلقاً بأن يسوع رب. فالتحقير من مقام ربنا يسوع، ووضعه تحت اللعنة بأي كيفية، لهو علامة أكيدة يمتاز بها الروح الشرير. ولست أتكلم هنا عن المركز الذي أخذه ربنا له المجد بالنعمة فوق الصليب، بل عن مركزه الخاص كإنسان أمام الله بغض النظر عن الكفارة. قد يدعي أصحاب هذه الأفكار بأنهم يرمون من ورائها إلى ازدياد رثاء المسيح لنا، وإلى تعظيم نصرته فوق الصعاب، وإلى تعظيم نجاته منها، ولكن يجب أن نذكر أنه لا يقول أحد وهو يتكلم بالروح القدس أن يسوع تحت لعنة. ومن هذا نستطيع أن ندرك أن الذين يعترفون بربوبية شخص ربنا يسوع فإنهم يعترفون بها بقوة الروح القدس. ولا دخل في هذا لمسألة خلاص النفوس، إنما هي واسطة نستطيع أن نميز بها أي روح يعمل في الكنيسة – وهي المحك الكتابي للتفرقة بين الذين هم تحت سلطة الروح الشرير بين الذين يتكلمون بالروح القدس. فثمار الروح القدس تعظم المسيح وتعترف بمركزه الذي يليق به كرب، أما الروح الشرير فإنه بكل تأكيد يرمي إلى التحقير من شخص ربنا يسوع وإلى إبطال عمله الكريم.

والروح القدس يحرص كل الحرص على أمرين: أولهما مجد المسيح بالنسبة إلى شخصه كأمر لاق بعمله، وثانياً ربوبيته بالنسبة إلى مركزه كأمر نتج عن ذلك العمل. ولا شك أن هذا يأتي بنا إلى حق عملي خطير وهو أن الغرض الأسمى لجماعة الله هو الاعتراف بالمسيح كرب. وهنا يواجهنا سؤال هل أعطى الرب تعليمات لجماعته أم قد تركنا وشأننا؟ أليس لنا مبدأ نسترشد به إلى الحالة التي ينبغي أن تكون عليها جماعة الله في هذا العالم؟ وهل تُرِكت الكنيسة لذاتها ولمشاعرها الروحية؟ وهل المفروض أن حالة الكنيسة تتكيف بحسب مقتضيات الزمان والمكان اللذين يوجد فيهما القديسون؟ على أنني أثق أنه ليس بين قرائي الأعزاء من يصادق على أفكار كهذه صادرة من الطبيعة. ويا له من فكر غريب أن الجماعة المسيحية تتأثر بالزمان أو المكان! وهل أولئك الذين يقولون هذه الأقوال، ويتصرفون بموجبها، يعتقدون فعلاً أن كنيسة الله من العالم أو أن الله تركها تتشكل في كل مكان بشكل خاص؟ قد تكون مثل هذه النظامات الكنسية التي يقيمها الإنسان حسنة أو رديئة ولكن لا شك أن الأمر الذي لا نتصوره هو الادعاء بأن هذه النظامات هي دستور كنيسة الله. ومن المهم جداً لدى أبسط مؤمن أن يدرك هذا الحق الواضح في كتاب، ويتمسك به، وهو أنه إذا كان على الأرض شيء عزيز على قلب الله فهذا الشيء هو كنيسته، وإذا كان هناك أمر يغار الله في المحافظة عليه فهو مجد المسيح، وأن الله نفسه يعمل الآن بوساطة روحه القدوس لمجد المسيح لا في العالم بل في أولاده تعالى. ولكن من عادة الله أنه إذا أراد أن يقيم على الأرض شيئاً فإنه يمتحنه هنا أولاً وبعد إذن يضعه بين يدي المسيح الذي بواسطته قد تمت المشورات الإلهية. وزماننا هذا هو زمان التجربة والامتحان، ولكن عندما يأتي المسيح مرة ثانية فلا محل للامتحان أو التجربة من هذا الوجه، إذ أن الكنيسة ستدخل حينئذ في المكان اللائق المحفوظ لها في مشورات الله المحتومة، وحينئذ تنتهي ساعة المسئولية الملقاة على عاتقنا. أما الآن فهو زمان يوضع فيه أولاد الله تحت الامتحان.

ولاحظ أيها القارئ أن من بين أغراض رسالة كورنثوس الأولى أن تظهر للكورنثيين أن كنيستهم المحلية حديثة العهد لأن أفرادها لم يكونوا قد انفصلوا عن العالم إلا منذ عهد قريب (أي بالنسبة لكتابة الرسالة) ولذلك كانوا يجهلون كثيراً كيف يمارسون العمل المطلوب منهم والذي من امتيازهم ممارسته فنراهم محوطين بشرور نحسب حدوثها بين أولاد الله في أيامنا الحاضرة أمراً غير عادي: فكانوا بلا شك في حالة منحطة جداً من حيث الفكر الأدبي أو الإحساس والمشاعر، وكان بينهم على الأقل في حادثة واحدة قباحة في السلوك الخارجي، الأمر الذي لم يُسمع بين الأمم. ويظهر من هذا أن إبليس كان قد أفرغ ما في جعبته لاستغلال فرصة حرية أولئك المسيحيين الحديثي العهد، فإذا كانوا مشغولين بقوة الروح القدس نسوا كل ما يتعلق بالجسد، ويظهر أنهم لم يتفكروا في المخاطر المحدقة بهم، ولم يسلكوا طريق إدانة الذات. ويجب أن نتذكر أنه لم يكن لديهم من كتابات العهد الجديد إلا القليل وأن الرسول لم يصرف معهم وقتاً طويلاً في تعليمهم، ومع أنهم بالطبع استفادوا من حادث سقوطهم درساً مما ألقاه عليهم الروح القدس، كما على غيرهم أيضاً، إلا أن الرسالة تظهر لنا أن كنيسة كورنثوس، الحديثة العهد، كانت عليها مسئولية كنيسة الله. وهي الكنيسة الوحيدة التي يخاطبها الروح القدس بالتعبير "كنيسة الله" ومع أنه لم يكن في كورنثوس رسل ولا شيوخ (الأمر الذي سأشير إليه فيما بعد) غير أنهم لم يكونوا فقراء في أصحاب المواهب ولكن الترتيب الروحي لا تحصله لنا إعلانات القوة، بل الخضوع للمسيح كسيد ورب، إذ ليس كافياً أن أكون غنياً في الكلام والعلم لأنه يندر أن كنيسة كثرت فيها المواهب الروحية عن كورنثوس، ومع ذلك كانت بلا ترتيب والسبب في ذلك أنهم كانوا يمارسون تلك المواهب بدون اكتراث لمشيئة الرب ومجده، عاملين في ذلك أغراضهم الخاصة مرضين أنفسهم معظمين ذواتهم. وفي نشوة الطرب الوقتية أطلقوا العنان للقوة الروحية الممنوحة لهم، وإذ ذاك كان الأمر الذي أعوزهم على الأخص هو ردهم إلى طريق الله.

ومهما كانت قوة الروح القدس بواسطة أي إنسان وفي أي فرد على الأرض فيجب أن تكون تلك القوة تحت سيادة المسيح الرب. وإذا كان الكورنثيون لا يفهمون هذا الحق لذلك نرى أن الرسول يذكرهم به في مفتتح الإصحاح الأول بالقول "الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح في كل مكان لهم ولنا" وفي طول الرسالة وعرضها نجد توكيدات حازمة حول كون المسيح رباً وسيداً، وهنا نراها في طريق الإشارة إلى إعطاء المواهب وصفاتها. ثم نرى في (ص 14) أن الرسول يرتب كيفية ممارسة تلك المواهب بين الجماعة. تجتمع الكنيسة كلها في مكان واحد، وهناك يتلاقى القديسون كجماعة الله ولكن هل كانوا في اجتماعهم هذا يتكلمون بلسان؟ لقد كان من العبث والمضيعة أن يتباحثوا بأن الروح القدس مكنهم بلا شك من التكلم بلسان، كما أنه لم يوجد محل للكلام عن صفة الموضوع الذي كانوا يتكلمون عنه (وهو غير معروف) فقد يكون كل شيء صحيحاً وبلا عيب، غير أن الرب يمنع كل ما لا يبني الجماعة. كقاعدة عامة كانت ممارسة الألسنة وسط الجماعة في حال غياب من يترجم أمراً ممنوعاً.

وكم في هذا الأمر من خطورة: فمهما حصل المؤمن على قوة صحيحة من الروح القدس فليس عليه أن يستخدمها دائماً، بل هو تحت التزام أن يستخدمها في حدود الطاعة للمسيح، كما عليه أن يسير بموجب القواعد التي سنها الروح القدس في الكتاب. على أننا نرى أن الرسول يصوب كلامه على الأخص ناحية التنبؤ لأنه أعظم مؤثر على الضمير. وعندما يذكر المواهب المتنوعة في (ص 12: 28) نراه يضع موهبة أنواع الألسنة في آخر الجدول موبخاً بذلك عجب الكورنثيين، كأن ما ظنوه أعظم الأمور قد وضعه الرسول في آخر درجة، وهذا واضح من القول "فوضع الله أناس في الكنيسة أولاً رسلاً ثانياً أنبياء ثالثاً معلمين ثم قوات وبعد ذلك مواهب شفاء أعواناً تدابير وأنواع ألسنة". ثم نراه – بعد ذلك الوصف الحلو الذي ذكره في (ص 13) عن المحبة (وما أحوج المؤمنين في مثل هذه الظروف إلى المحبة) – يأتي على ذكر ممارسة المواهب بين الجماعة في (ص 14) فيقول "فإن اجتمعت الكنيسة كلها في مكان واحد وكان الجميع يتكلمون بألسنة فدخل عاميون أو غير مؤمنين أفلا يقولون أنكم تهذون. ولكن إن كان الجميع يتنبأون فدخل أحد غير مؤمن أو عامي فإنه يوَبّخ من الجميع، يحكم عليه من الجميع، وهكذا تصير خفايا قلبه ظاهرة وهكذا يخر على وجهه ويسجد لله منادياً أن الله بالحقيقة فيكم".

ولاحظ أبها القارئ أهمية المبدأ الذي يشدد الرسول في اتباعه وهو أن الله قد أوجد الكنيسة – أي الجماعة – لتكون شهادة للمسيح على الأرض، شهادة لسيادته له المجد. لذلك كل ما من شأنه أن يعطي شهادة باطلة، جوفاء بلا معنى، كل ما يستفز الناس لأن يقولوا "أنكم تهذون"، كل هذا ممنوع منعاً باتاً ولا عبرة بأن تلك القوة التي يسيء الناس استخدامها هي قوة حقيقية وصادرة فعلاً من الله. من الواضح أن موهبة الألسنة – مثلاً – صادرة من الروح القدس، وليس من الطبيعة، غير أن استخدامها خاضع لقواعد إلهية كما نرى في إصحاحنا المطروح أمامنا. على أن لهذا معنى أوسع نطاقاً، وفي الحقيقة أنني أحسبه القياس الكامل السامي الذي عليه يجب أن يقيس كل مؤمن سلوكه، وبمقتضاه يحكم على سلوك الآخرين أيضاً. وعلى ذكر الحكم في سلوك وحديث الآخرين: هل أراني في حاجة إلى أن أقول أنه يليق بنا أن نزن كل ذلك بتواضع ومحبة، ناظرين ألا نكون في ذلك مفكرين في أنفسنا بل في مجد الرب. وإنني أجزم في القول بأننا تحت التزام أن نتفكر في مجد الرب، ولذلك فبغض النظر عن الظروف والأمكنة فنحن مسئولون أن نميز ونحكم في حدود الطاعة لشخصه المعبود.

واضح هنا أن المقصود بالتنبؤ ليس الإخبار عن أمور عتيدة كما ظن البعض، ولا مجرد التبشير كما ظنه آخرون – إذ أن جزءاً عظيماً من التبشير ليس تنبؤاً. ويحق لنا أن نجزم بأن التبشير هو صفة التعليم الذي يكشف الضمير في حضرة الله وأجرؤ وأقول أن يقرِّب الله تعالى من الإنسان والإنسان من الله. وهذا هو ما قصد الرسول أن يوازن بينه وبين التكلم بالألسنة. لقد كان التكلم بلسان ممنوعاً طالما لم يوجد من يترجم، وذلك لأن التكلم بلسان في هذه الحالة لا يبني الكنيسة، إذ أن الغرض من كل ما يجري بين القديسين إنما هو "للبنيان". لذلك فكل ما لا يؤول للبنيان هو ليس نافعاً لجماعة الله ولا ينبغي السماح به. نعم قد يكون القصد منه حسناً، وقد يكون – من حيث القوة – صادراً من الروح القدس، غير أن كل ما ليس مفهوماً وليست له صفة بنيان قديسي الله فلا يصلح للجماعة. وربما كانت الألسنة نافعة جداً فيما لو استخدمت خارج الاجتماع – إذ ذلك هو مركزها لتكون شهادة لغير المؤمنين – أما في وسط الجماعة فلا مكان لها ما دامت ممارستها لا تؤول إلى تعليم ووعظ وتعزية الجماعة إذ لا تستطيع أن تبنى الجماعة إلا متى وجد من له موهبة ترجمة، وعندئذ يقدر أن يستخدم تلك الألسنة لبنيان قديسي الله بالنعمة والحق اللذين صارا بيسوع المسيح.

وهذه هي القاعدة التي يجب أن ينحو إليها الجميع: "إن كان أحد يتكلم بلسان فاثنين اثنين أو على الأكثر ثلثة ثلثة وبترتيب وليترجم واحد ولكن إن لم يكن مترجم فليصمت في الكنيسة وليكلم نفسه والله". أما عن الأنبياء الذين يستطيعون أن يتكلموا بالبنيان عن طريق التنبؤ "فليتكلم اثنان أو ثلثة وليحكم الآخرون" وهنا يوازن الرسول بين الأنبياء وبين من يتكلمون بلسان، فكل ما يتكلم به النبي إنما هو للغرض الصريح الواضح البنيان، إلا أننا نراه حريصاً الحرص كله على أنه مهما كانت الموهبة عزيزة ونافعة فليس مسموحاً لأكثر من ثلاثة في الاجتماع الواحد أن يتكلموا، كما أنه بكل تأكيد كان عليهم أن يتكلموا واحد بعد الآخر وبترتيب، خاضعين خضوعاً مشتركاً، ولكن ليس أكثر من ثلاثة. ولماذا؟ الجواب: خيفة ألا تؤول للبنيان الحقيقي الذي هو الغرض الأسمى من التنبؤ، ولئلا تكون ثقلاً على السامعين إذ تزيد على ما يفيدهم حقيقة – ولذلك وضع الرسول هذه الحدود الفاصلة. ومع التسليم بأن الأنبياء يقدمون أسمى أنواع التعليم المسيحي غير أن اثنين أو ثلاثة هم الذين جاز لهم أن يتكلموا وعلى الآخرين أن يحكموا.

ويستطرد الرسول في تعداد المواهب فيقول "إن أُعلِن لآخر جالس فليصمت الأول" ومن هذا نفهم أنه وُجِدت في ذلك العصر موهبة سمت على موهبة الألسنة وهي الإعلان وقد انتهى زمانها. وفي سياق الحديث عن هذه الموهبة لنتذكر هذا جيداً: قد يُستَخدم حق الله بواسطة الروح القدس بكيفية فعالة تؤثر في الضمير ولا يسع غير المؤمن الذي يدخل الاجتماع إلا أن ينادي بإزائها (عن اقتناع أكيد) – سواء كان ذلك العصر الماضي أم الآن – إن الله في وسط تلك الجماعة. ولست أشك في أن هذا مستطاع تماماً – ويا ليته يدوم! إلا أن هذا أمر آخر غير الإعلان. وقد يستخدم الله من الكلمة المكتوبة تعليماً مسيحياً بكيفية مؤثرة شهادة على حضوره بين أولاده على الأرض. أما الإعلان فلا يمكن أن يعود ولا ينبغي أن نتوقع عودته. لقد كان الرسول يعلّم قديسي كورنثوس قبل أن يكمل الوحي – وقت أن لم يكن كل حق الله مكتوباً على ورق – ولذلك أعتقد أنه جاز بحسب ترتيب الله أن يحصل أولئك القديسين في يومهم على إعلان صريح ما دامت غالبية كلمة الله لم تكن قد كتبت على ورق. على أن كل ادعاء بوجود إعلان في يومنا إنما هو طعن في كمال الوحي ولا يفتأ حتى يبدو وإذا هو يحمل غش وغباوة الإنسان، ويخفي تحت ستاره شركاً من شراك إبليس. إذ مهما كانت القوة التي يعمل بها الروح القدس، وليست شيئاً أكثر مما قد أعطاه لنا الله بل هي آلة نافعة ليد روح الله، يأخذها مما قد أُعطي بصفة دائمة للكنيسة ليعاونها في عبورها العالم. قد يكتشف القديسون نوراً كان قد احتجب عن أنظارهم لعدم الإيمان، غير أن الاعتقاد بحق جديد، يُعلَن لنا في زماننا الحاضر، إنما هو الاعتقاد لا يتمشى مع الوحي باعتباره كتاب الله الكامل.

وإذا كان الروح القدس قد عرض علينا، ولو في هذا الإصحاح، بعض الأمور الخاصة التي تشير بوضوح إلى ما كان يمارسه المؤمنون قديماً، ولا نمارسه نحن الآن، فإننا نرى أنفسنا أمام سؤال قد يلقيه كثيرون من البسطاء الذين يرغبون في تفهّم كلمة الله، فيقولون: لماذا نراكم تحرضون على أن المقصود من هذا الإصحاح إنما هو تنظيم الجماعة في هذا الزمان الحاضر؟ من الواضح أنه لا توجد بينكم ألسنة ولا إعلان حق جديد – فإذا لم تكن هذه عندكم ولا تلك فلماذا تدافعون عن هذا الإصحاح معتبرين إياه قانون الله المستديم لجماعته؟ الجواب في غاية البساطة: لقد كان من الضروري أن يُنَظِّم الروح القدس ما كان موجوداً في ذلك الوقت، إلا أن غاية التعليم المدون في ذلك الإصحاح لم تكن مقصورة على القوات المعجزية أو الأعمال المؤقتة التي يتضح أنها كانت لغرض خاص وهو الشهادة في الأيام الأولى للمسيحية – نعم لا شيء من هذه كلها كان محور الكلام في هذه الإصحاحات: فما هو محورها يا ترى؟ هو حضور الروح القدس!!! أجل – ولهذه الناحية يجب أن يتجه كل اعتبار وتقدير!

فهل لنا نفس هذه الروح الواحدة! وهل نستند على حضوره؟ هل نؤمن أنه يتنازل الآن ويعمل في الجماعة؟ وكم ذا نسمع الكثيرين يقولون يوماً بعد يوم: أنا أؤمن بالروح القدس. ولكن هل تراهم يُظهِرون إيمانهم بأعمالهم؟ إنني أسألك أيها القارئ وأحب أن أسأل كل قديس لله: هل تؤمن بحضور الروح القدس حضوراً فعلياً كشخص إلهي موجود مع الكنيسة وفي الأفراد، وهو الذي يحمل الجماعة على التصرف بموجب كلمة الرب، ولغرض المحافظة على سيادة المسيح في وسطها؟ إذا كنا قد حصلنا على الروح القدس وإذا كان لا يزال موجوداً مع القديسين وفيهم، إذا كان هذا حقاً ثابتاً أكيداً لا يحتاج إلى دليل من الفصول الكتابية التي تتكلم عن المعجزات والآيات، بل هو مدون لصفة جلية حيث لا ذكر لهذه المعجزات، وإذا كنا قد أخذنا وعداً صريحاً بأن الروح القدس يمكث معنا إلى الأبد، فإنني أسألك سؤالاً أو اثنين. هل ابتعد الروح القدس عن كلمة الرب التي هي قياسه الإلهي لسلوكنا كما ولإيماننا أيضاً؟ أو أن الناس هم الذين يقدمون بمكر أسباباً متنوعة لتجنب الخضوع لتلك الكلمة؟ ولكن هل يحتمل أن أولاد الله يقنعون أنفسهم بأي سبب ينتحلونه علة التمرد والعصيان يا للأسف: ولست أتكلم هكذا لنقص في محبتي لهم! قد يقولون على الدوام "ليكن كل شيء للبنيان ليكن كل شيء بلياقة وبحسب ترتيب" ولكن هل تأملوا مرة ما في هذه الحقيقة وهي أنه ليس الكورنثيون هم فقط الذين خالفوا ترتيب جماعة الله بما أبدوه من المظاهر غير اللائقة بهم، بل هم أنفسهم أيضاً قد خالفوه بما يعملونه يومياً بمقتضى نظامهم الخاص (بمواضيعهم المكتوبة أو الارتجالية) الذي لا يشابه الترتيب الإلهي ولا يتضمن روح ذلك الترتيب الكامل، فهل يعرجون بين فرقتين: بين إصحاح يقتبسون منه بعض أقوال، وبين حقائق فروضهم الدينية السلبية.

وما عدنا نرى كنيسة الله الآن على أساس الجماعة الواحدة – وما عدنا نراها سالكة بمقتضى ذلك المبدأ الأساسي وهو حرية الروح القدس فيها ليبني بواسطة من يشاء – بل أصبحنا نرى جمعيات دينية مختلفة، لكل أمة جمعياتها الخاصة بها، لا تتفق كلها بأي حال من الأحوال لا مع الجماعة أو الجماعات التي تذكرها لنا كلمة الله. إننا نتعلم من حقائق الكتاب أنه إذا كان أحد المؤمنين تابعاً لكنيسة الله في أورشليم (مثلاً) فهو تابع أيضاً لكنيسة الله في رومية، ولا عبرة في ذلك بالمكان، لأن ذلك المؤمن عضو في كنيسة الله ولذلك فأينما ذهب فهو تابع للكنيسة التي قد يوجد فيها – لأن الكتاب المقدس لا يعترف بعضوية في "كنيسة" والسلام بل في الكنيسة. فإذا اجتمعت كنيسة الله في مكان معين فالمسيحي يجد مكانه هناك ما لم يكن معزولاً (أي مستبعداً) وأكرر ما قلته من أنه لا يوجد في الكتاب ما يشير إلى عضوية "في كنيسة والسلام" بل بالأحرى نجد الكلام دائماً عن عضوية في "الكنيسة". وهذا هو الفرق الظاهر الذي يدل على ابتعاد المسيحية عن كلمة الله. إذ نرى في أيامنا الحاضرة من يقولون أنك إذا كنت أحد أفراد كنيسة ما فلا تكون أحد أفراد أي كنيسة أخرى قد توجد بينها، بدعوى أنك تابع للأولى وليس للثانية. فعوض أن تكون عضويتك في كنيسة الله أساساً لكونك عضواً فيها بغض النظر عن مكان اجتماعها، نرى على العكس تغييراً هائلاً ظاهراً في الحق الجديد الذي يقولون فيه أن تبعيتك لكنيسة ما برهان قاطع على أنك لست تابعاً لغيرها. فإذا كنت (مثلاً) تابعاً لكنيسة اسكتلندا فلا علاقة لك بكنيسة إنكلترا، وإذا كنت معمدانياً فلست في نفس الوقت تابعاً لجماعة الوسليين أو لأي جماعة من الطوائف المنشقة. أما الكتاب المقدس فلا يعرف شيئاً عن هذه الطوائف.

ومن هذا نرى أن كأس انقلاب المسيحية قد كمل، وأنها قد أصبحت في حالة بعيدة كل البعد عن كلمة الله – حالة معاكسة لتلك الكلمة كل المعاكسة: فقد طلعت بيننا جمعيات دينية تستقل كل واحدة منها عن الأخرى. ولست أرمي من وراء كلامي هذا إلى ما يسمونه النظام الاستقلالي (وهو النظام القائل بتفرد كل جماعة محلية في سياستها عن أية جماعة غيرها، ولا ترجع في تلك السياسة إلى مرجع أعلى) مع أن مبادئ هذا النظام مضادة أكثر من غيرها لحقيقة وحدة جماعة الله كما يذكرها لنا الكتاب المقدس. على أننا لو تأملنا في أي جماعة محلية من الجماعات الخاضعة لهذا النظام إذن لوجدناها مستقلة عن غيرها ولو إلى درجة متفاوتة، وهذا هو الحال مع الكنيسة الإنكليزية الوطنية التي تغالي في إتباع هذا النظام. وكل ذلك يعاكس بالتمام ما كان جارياً في زمان أولئك الذين وضعوا أساس جماعة الله. إذ نعلم أن أي فرد من أفراد الكنيسة كان لا يزال أحد أعضائها أينما وُجد، وإذا ما انتقل من مكان لآخر فإنه يُقبَل بحسب مركزه في الكنيسة التي كان فيها أولاً. قد كان يوجد شك في بعض الحالات بخصوص حقيقة ذلك الشخص المنتقل من مكان إلى مكان – لأن المكر والخداع كانا قد اقتحما المسيحيين الأولين – وكان علاج هذه الحالة أن أمثال ذلك الشخص يحملون رسائل توصية أو أن الجماعة تفتقدهم – وهذا هو نفس المبدأ الذي يقول به الكتاب، والذي يصلح للسير بمقتضاه الآن. وهكذا نرى في مسألة شاول الطرسوسي أنه عندما سمع برنابا بأخبار تجدده العجيب لم يكن مثل التلاميذ غير مصدق هذا التجديد، ولا مستكثراً إياه على الرب، بل إذ كان (برنابا) رجلاً صالحاً وممتلئاً من الروح القدس لذلك صدق نعمة الله وما تفعل فأخذ شاول وأحضره إلى الكنيسة في أورشليم التي اعترفت به. وهكذا الآن إذا تقدم إلينا شخص واعترف بأنه مؤمن بالإنجيل فعلى بعض أفراد الجماعة الموثوق فيهم أن يزودوه ويفتقدوه، وبناء على شهادتهم فإن الكنيسة من كل القلب تقبل ذلك الشخص المعترف بالمسيح وهي مستريحة الضمير.

ولكننا لسنا تحت التزام لأي قانون متعنت مهما كان إذ لنا في كلمة الله نور إلهي لكل خطوة. وإذا لم يكن عندنا هذا النور فخير لنا أن ننتظر الرب وسنرى بعد انتظارنا كيف أن الكتاب المقدس، العزيز القدر، الكامل النواحي، يقدم لنا، بغير شك، بقوة الروح القدس، علاجاً وافياً ينطبق على المعضلة التي تعترينا بدون أن نحاول إضافة شيء من عندياتنا كقاعدة لتسديد الحاجة. ولكن ليس المقصود أن لا يعترينا ارتباك وحيرة، وأننا قد لا نحس بضعفنا وعوزنا للحكمة. إذ في أي معضلة لا نلبث أن نرى أن الاتضاع والصبر والإيمان هي أحسن من أي حل تحصِّلُه لنا صناعة الاستحسان البشري. فالله قد تعهد بأن يمدنا بالمعونة في كلمته، والقوة الروحية التي تفتقر إليها إنما هي متضمنة في تطبيقنا تلك الكلمة – بالروح القدس – تطبيقاً عملياً على كل قضية تُعرَض لنا.

  • عدد الزيارات: 4680