الكنيسة وليس الكنائس
ويحلو لي أن أذكر عرضاً ملاحظة على (أع 9: 31) وهي أن النسخة اليونانية الشائعة، وسائر النسخ الإنكليزية والعربية، قد قللت من هذه الآية: فهي تذكر لنا كما يأتي "وأما الكنائس في جميع اليهودية والجليل والسامرة فكان لها سلام وكانت تُبنى وتسير في خوف الرب وبتعزية الروح القدس كانت تتكاثر" غير أن أضبط النسخ وأقدمها تقول "الكنيسة" وليس "الكنائس". نعم إنني أسلم تماماً بوجود كنائس كثيرة في تلك النواحي – وهذا أمر لا يدعو للدهشة- إلا أنني موقن أن ما قصده الروح القدس في هذه الآية هو "الكنيسة". قد تحيرت أفكار الكثيرين حينئذ لأن فكرة وجود الكنيسة كجماعة متحدة على الأرض قد ضاعت في نظرهم لاسيما عندما كانوا يديرون التفاتهم إلى مقاطعات وبلاد مثل اليهودية والجليل والسامرة. غير أن القراءة الصحيحة لهذه الآية ترجع بنا إلى حقيقة الوحدة الجوهرية لكنيسة أو جماعة الله هنا على الأرض. وإن صح وجود اجتماعات متعددة في اليهودية والسامرة والجليل إلا أنها جميعاً كانت عبارة عن الكنيسة. نعم نقرأ عن كنائس اليهودية أو غيرها كغلاطية مثلاً – وليس من يعارض في حقيقة وجود جماعات كثيرة في تلك البلاد المختلفة – إلا أن هناك حقاً آخر يجهله كثيرون من أولاد الله وهو أن الله لم يكوّن فقط جسداً لم يكن له وجود قبلاً، بل إنه حيثما وُجِدت الجماعات فليست جميعها سوى الكنيسة. ولم يؤسس فقط كنيسته على الأرض قابلة للنمو كل يوم، بل بينما كان يوسع في دائرة العمل ويُوجد اجتماعات جديدة في أماكن مختلفة، كانت تلك الجماعات كنيسة واحدة بغض النظر عن الأماكن. والآية التي نحن في صددها تثبت هذه الحقيقة لو أننا أخذناها حسب القراءة الصحيحة، وأستطيع أن أقول أن أصح النسخ لا تترك مجالاً للشك من حيث هذه القراءة.
وإن كانت كلمة "الكنائس"قد استعيض بها عن كلمة "الكنيسة" فقد يعزى ذلك أن الناسخين كانوا قد ابتدأوا ينسون الوحدة التي يقيمها الله بين أولاده على الأرض. ومن الطبيعي جداً أن نفهم أن المقصود هو "الكنائس". وننسى ذلك الحق الغالي – حق الكنيسة أينما وجدت على وجه الأرض. وقد يجوز أن هذا قاد البعض لتحويل التعبير الصحيح بآخر أكثر تعارفاً (لوجود تشابه ولو لفظي بين الاثنين) ولاسيما إذا كان الإحساس بالوحدة قد ضعف وتلاشى.
ودعنا أيها القارئ نترك الآن البيان التاريخي الذي يمدنا به سفر أعمال الرسل وهيا نتأمل في التعاليم التي تقدمها لنا سائر أجزاء العهد الجديد فيما يختص بالجماعة. فنرى أولاً أن الرب له المجد قد رسم لنا في (مت 18) الخطة التي يجب أن نتصرف بمقتضاها في القضايا الشخصية، وما هي الروح التي يجب أن تقتادنا في تلك التصرفات، مبتدئاً في تعليمه بمثال عن أحد أفراد الكنيسة فأظهر لنا كيف أنه صار ابن الإنسان الذي جاء "ليطلب ويخلص ما قد هلك" ليس باعتباره راعي إسرائيل الذي كان يجمع شعبه بل كمن جاء ليفتش على الهالك في كمال وبساطة نعمة الله الخالصة البريئة. فتأمل أيها القارئ في القضية التي علم الرب أنها ستحدث في الجماعة التي كان عتيداً أن يبنيها – قضية أخ يخطئ إلى أخيه. وما الذي يقودنا في قضية كهذه يا ترى؟ ليس الناموس ولا الطبيعة بل النعمة هي التي يجب أن تكون رائدنا في التصرف فيها. قد يقول البر الإنساني في مثل هذه الحالة، على الذي أخطأ أن يأتي ويتذلل، أما النعمة فتقول "اذهب إليه وعاتبه" ما هذا! هل أنا البريء أذهب إلى من أساء إليّ نعم – هذا عين ما فعله الرب، وهو له المجد قد وضع نعمته الخاصة أنموذجاً ومنبعاً وقانوناً يحذو الفرد حذوه، وليكون نسمة حياة الجماعة. ومن ثم نسمعه يقول تبارك اسمه "إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما". أي أن الأخ البريء هو الذي يتقدم بالنعمة إلى من أخطأ إليه ويعاتبه. وما أحوجنا في مثل هذه الخطوة إلى الاجتهاد ونكران الذات الصادرين من المحبة! فإذا سمع منه "أخوه" فقد ربحه ويا لها من مجازاة كريمة يحبوها الرب لمن يقف هذا الموقف المشرف! لا شك أن القلب يحزن عندما يرى مثل الأخ يضل بعيداً، لذلك نرى المحبة الإلهية تعمل في قلوب أولئك الذين لا يستحي الرب أن يدعوهم أخوة. فلقد دعاهم ليكونوا شهوداً ليس لذلك الخادم الذي به قد أعطى الناموس، بل لشخصه الكريم الذي جاء مملوءاً نعمة وحقاً، ولذلك فإن النعمة هي الأداة الفعالة في الأمر (غير أن هذا ليس معناه أن الحق قد طُرِح جانباً ولو لحظة واحدة) ومع ذلك فقد يستسلم المسيحي لكبرياء القلب وعدم الاكتراث فيقول، إن أخي هو الذي أخطأ إلى وأنا أرفع من أن أذهب إليه ولا يهمني أن أبحث عنه، ولا شك أن قولاً كهذا تدخله روح نكران للمسيح ولنعمته – لا بل روح عدم اكتراث الأخ بأخيه كأهل العالم. على أن كلام المخلص له المجد لا يترك مجالاً لهذين الروحين الفاسدين، كما أن المبدأ الناموسي. مبدأ معاملة الإنسان حسبما يستحق – لا يجد له مرتعاً في الكلام الموزون. ولا شك أن النعمة الإلهية – كما بدت في شخص مخلص الخطاة وفي إرساليته – تعمل في النفس إذا كانت تستمع لصوته. ولكننا نعلم جيداً كيف نتناسى هذا الصوت وكيف أن القلب يقول، لأنه أخي لذلك هو بلا عذر، إذ كان عليه أن يعرف أحسن مما عرف، ونحن نسلم بذلك، ولكن إذا لم يعرف أكثر فمن واجبك أن تشعر بمركزك وامتيازك لذلك "اذهب إليه وعاتبه". ومن هذا نرى أن الرب لا يضع قانوناً يقضي على من أخطأ أن يذهب إلى الآخر بل هو يكلف الأخ البريء ليذهب لأخيه. لا بروح الحق بل بروح النعمة، ليربح ذاك الذي أخطأ إليه. فإن سمع منه هذا فقد ربحه أخوه وإلا فيجب أن تعرض القضية على الباقين "وإن لم يسمع فخذ معك أيضاً واحدة أم اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة" ليكون هناك عمل مشترك لرد نفس المذهب حتى لا يستمر في ضلاله بعيداً. لقد كان قبيحاً به أن يرفض واحداً فهل يقدر أن يرفض واحداً أو اثنين غيره؟ ولنفرض أنه لم يسمع منهما فما هي النتيجة؟ لا شك أن الأمر يجب أن تسمع به الكنيسة كلها وتصدر حكمها: وجميع الذين هم موضوع النعمة الإلهية والشهود معاً يجب أن يجتهدوا ويهتموا بقضية ذلك الأخ المذنب. وإذا رفض الكنيسة فإنه يكون كالوثني والعشار.
ويا له من حكم مروع ذاك الذي تنطق به النعمة والحق اللذين رفضهما ذلك الشخص المذنب! وهذا يكشف لنا القناع عن الخطأ الفادح الذي يقع فيه البعض فيما يتكلمون عن المحبة، وإنني أخشى أنهم يتكلمون عنها وهم لا يدركونها إلا قليلاً. ومع أن مهمة الأخ الذي يعاتب أخاه يجب أن تؤدى مقترنة بمحبة في العمل والحق صادرة من المسيح نفسه – إلا أنه إذا كان مسوقاً في هذه المهمة لا بمجرد الواجب بل بالخضوع للمسيح مشتاقاً أن يربح أخاه، فإن نفس الروح يحمله على أن يعتبره "كالوثني والعشار" إذا ما بدا منه تمرد وعدم خضوع. قد يكون ذلك الشخص المذنب مؤمناً ولكنه إذا رفض نعمة المسيح الصادرة بحسب الحق فلا يعتبر أخاً. ولا عبرة في ذلك بأنه أخ حقيقي أو غير حقيقي أمام الله فهو قد رفض الرب في جماعته التي تمثله هنا على الأرض لذلك "فليكن عندك كالوثني والعشار".
- عدد الزيارات: 2739