Skip to main content

حضور الروح القدس: في الأفراد وفي الكنيسة

وتعال معي أيها القارئ لندخل سوياً في الرسائل متجاوزين الفصول الكتابية التي تشهد بحضور الروح القدس في الأفراد. ولو أن حضوره في الأفراد خطير ومهم جداً إلا أنه ليس موضوعي، بل أنا أقصد أن أتكلم عن حضوره في الكنيسة ولذلك سأتجاوز رسالة رومية التي تتكلم عن نسبتنا الفردية إلى الله، وتعتبرنا أولاداً له تعالى. فهي تخبرنا أننا قد انتقلنا من مركز الموت والخطية وصرنا أولاد الله وإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً والروح القدس يعطينا روح التبني ويملأ قلوبنا برجاء الميراث العتيد. أما رسالتا كورنثوس فلا تتكلمان عن حالة الإنسان ولا عن إعلان البر الإلهي ونتيجتهما في الخطاة والقديسين كما نرى في رومية، بل بالأحرى موضوعهما كنيسة الله في حالة الخطأ المحزنة، حالة العار وعدم الترتيب – ومع ذلك فلا تزال هي كنيسة الله!! وإذ ذاك نرى التعليم عن الروح القدس موضحاً فيهما في مكانه اللائق باعتبار الروح القدس موجود في الكنيسة. والنص الذي جعلناه محور تأملنا (1 كو 12: 1 - 13) يظهر لنا عمله في الكنيسة وما أسهل وأوضح هذه الأقوال. فهي تتكلم عن الروح القدس كشخص حقيقي حاضر وعامل في مواهب وآيات خارجية كما في طريق لبنيان المؤمنين. ومهما تنوعت صور عمله فالحق العظيم هو أنه كان موجوداً بنفسه وعمل في أفراد جماعة الله الكثيرين. وهل ترى كان هذا كله مظهراً وقتياً أو أن حضور الروح القدس كان قوام هذا جميعه؟ وهل كان هذا الذي نقرأه في فصلنا المطروح أمامنا محصوراً في جماعة محلية خاصة ولزمان خاص مضى وراح أو أن لنا في زماننا، ولكنيسة الله على وجه العموم في كل الأزمنة، ما يخصنا ويخص كنيسة الله في تلك الأقوال؟ لا شك أننا نرتاب في الجواب ما دمنا خاضعين لكلمة الله فإن ربنا المبارك قد أخبرنا في (يو 14) أن روح الحق سيمكث مع تلاميذه إلى الأبد وهذا بالمقابلة مع غيابه الوقتي عنهم.

ولا ننسى أن رسالة كورنثوس الأولى لم تفتتح بدون أن يجعلها الروح القدس ذات تطبيق أوسع من دائرة كنيسة كورنثوس إذ نقرأ في الإصحاح الأول منها قول الرسول "إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدسين في المسيح يسوع المدعوين قديسين مع جميع الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح في كل مكان لهم ولنا" وهذا القول لم يرد في الرسالة الثانية وفي الحقيقة لست أؤكد إذا كان قد ورد ما يماثله بالضبط في مكان آخر من العهد الجديد. فهل نعد ما جاء في (1 كو 1: 2) خطأ؟ دعنا من كل من يأثم بهذا الفكر وأرجو ألا يكون بين قارئي كتابي هذا من لا يعترف بمثل هذا الفكر وأرجو ألا يكون بين قارئي كتابي هذا من لا يعترف بمثل هذا الفكر كخطية ضد الله. إذ هل نظن أن في كلمة الله خطأ؟ بالعكس فإنني أرى فيها حكمة الروح القدس الخاصة، وصلاح ذلك الأقنوم الإلهي الذي سبق فرأى عدم إيمان المسيحيين، وهو الذي عرف أن هذه الرسالة سوف يعتبرها المسيحيون كرسالة خاصة لها معناها الخاص الذي كان ينطبق على زمان ومكان مضيا وراحا وأصبحت لا تصدق على كل الذين يدعون باسم الرب يسوع المسيح "لهم ولنا". وقد حرض الروح القدس من أول الأمر ضد فكر كهذا وأوضح أن مثل الاعتراض المذكور إنما هو مقاومة صريحة لكلمة الله. وهكذا لم تعد المسألة مسألة رأي شخصي فقد تكلم الله وكتب لنا حتى نصدقه وهو الرسالة قد قصد بها أن تكون ذات معنى واسع ولذلك فكل شك في عدم استمرار عمل الروح القدس في الجماعة طالما كان الروح والكنيسة موجودين هنا – يجب أن نعتبره خطية لا بل ورفضا صريحاً لكلمة الله الواضحة. أفليس عدم الإيمان أيها القارئ هو الذي يقلل من قيمة حضور الروح القدس شخصياً في الكنيسة؟

ولم نقصد مطلقاً أن نقول أن الروح القدس لابد أن يعمل بالطرق الكثيرة التي كان يعمل بها قبلاً، وعلى نفس قياس القوة في ذلك الوقت. وفي الأواخر من العهد الجديد لا نقرأ كثيراً عن المعجزات إذ أنها كانت قليلة جداً وأخذت تقل كثيراً على مر الأزمنة. نحن نعلم أن معاملة الله في العهد الجديد تختلف عنها في العهد القديم ولذلك أمام هذه المعاملة الجديدة يسهل علينا أن نعرف أن الله قد رضي في صلاحه تعالى بوجود تلك الأعمال العجيبة ومظاهر القوات العظيمة لإيقاظ المتغافلين. أما وقد تثبت حق حضور الروح القدس، وكتبت أخباره الجديدة بالتدريج، وأصبح أمامنا ليس مجرد برهان علامات خارجية بل وحي صريح أودع لمسئولية الإنسان، فإننا ندرك بسهولة أن الشهادات الخارجية لم تعد مطلوبة اليوم وأن روح الله (وهو كما نعلم محزون مما يجده في كثيرين نم المعترفين باسم المسيح) استطاع أن يسحب تدريجياً لا نفسه – بل مظاهر العلامات العظيمة، ورفض أن يضع زينة خارجية على ما أهان الرب يسوع.

وواضح أننا لا نقرأ ولا نسمع، حتى في الكنائس السبع المذكورة في سفر الرؤيا، شيئاً عن قوات الدهر الآتي. ولا شك في أن هذا الترتيب إنما هو من حكمة الله بالنظر إلى الحالة التي كنا عتيدين أن نصل إليها. وأفتكر أنه من السهل علينا أن نميز ببصيرة روحية السبب الذي لجله أصبح استمرار تلك القوات المعجزية غير لائق بمجد الله. ولنفرض جدلاً أن الله أراد أن يعمل الآن بواسطة المعجزات فواضح أن هذه المعجزات تظهر بإحدى الطريقتين الآتيتين: فواحدة منها أن الله يعمل تلك المعجزات حيث يبشر باسم المسيح وحيث يعرف هذا الاسم. ودعنا نتأمل أيها القارئ في حدود هذه الناحية: فمعنى هذا حصول معجزات في رومية وفي كونتربري وبين المشيخيين والاستقلاليين والوسليين والمعمدانيين والكلفنيين  والأرمن واللوثريين وبين الكنيسة اليونانية وسائر المذاهب والطوائف المسيحية. وقد يجوز أن يكون بين أفراد تلك الطوائف من يبتهج بمنظر المعجزات على أنني شخصياً لا أحسدهم. وأعتقد أن القارئ العزيز يشعر شعوراً عميقاً بشذوذ ختم ظاهري كهذا على كتلة من الفساد مثل هذه. ولو فرضنا أن الله سر بأن يقول أنه لا يستطيع أن يعطي علامات قوته ومجده هذه حيث تعم الفوضى والعصيان ويحوطان بالكنيسة في الوقت الحاضر. ولذلك يقتضي أن يعين جماعة واحدة فمن هي تلك الجماعة؟ طبعاً هذا من رابع المستحيلات أن يحصل ولا ينبغي أن يحصل وحاشا لنا أن نتمناه والحالة هكذا!

ولكن دعنا نتصور أن الرب تطلع إلى أحد أولاد الله مجتمعاً في مكان ما وقال "انظر إلى شعبي الخاضع لكلمتي وحيث أجد اثنين أو ثلاثة مجتمعين في أي مكان باسمي فهناك أجري المعجزات" فماذا تكون النتيجة؟ إننا لا نعرف كيف نتصرف، لأننا ضعاف جداً وأغبياء ومعرضون للإعجاب بذواتنا. وحتى لو حدثت المعجزات في زماننا الحاضر فإننا مع ضعفنا المستمر، وعدائنا، وروح الاحتقار الموجود فينا، لا نقدر أن نضبط أنفسنا. ولا ننس فوق ذلك استخفافنا بأولئك الذين نعترف أنهم حقيقة أعضاء للمسيح وهياكل للروح القدس نظيرنا بالتمام.

وإنني موقن أن هذا راجع إلى وجود نعمة كاملة وحكمة سامية في طرق الله، وهو تعالى لا يعمل بالمعجزات فيما بعد. على أن الحق الذي قصدت أن يكون موضوع خطابي هذا هو أن الروح القدس قد أعطي ليس كمجرد مظهر القوة على الأرض بل كعلامة ودليل على تقدير الله لقيمة الصليب. والله الآب قد أعطى الروح القدس للمؤمنين كختم الفداء العديم التغير، الكامل، المطلق في فاعليته. وأقول بكل وقار واحترام أنه إذا نزع الروح القدس من أضعف قديس على الأرض فلا يكون هذا ذراية بالمؤمن أكثر من كونه إهانة لابن الله ولعمله الكفاري. وينتج من ذلك أن يقال بأن خراب الكنيسة قلل من كرامة دم المسيح. ولكن هل من عادة الله أن يؤيد الكذب؟ وهنا حصن الإيمان ومعقله، وهنا نستريح واثقين وادعين. ليس فقط لأن الرب يسوع قد أوضح فكر وأغراض الله، بل أننا في نعمته نستطيع إلى حد ما أن نفهم أساس تلك الأغراض وعلتها وصفاتها وغايتها كما معناها أيضاً.

ونستطيع أن نقدر هذا كله ونتمتع به بواسطة الإيمان لأن الله قد أوضحه لنا. وإذا لم يكن المقصود من كلمة الله أننا نفهم فكره ونشعر بمحبته ونتأكد من حقه وحكمته وصلاحه فلماذا أعطاها لنا يا ترى؟ ومن ثم نحن موقنون أن الله، بإرساله الروح القدس ليمكث دائماً مع المؤمنين مهما كانت حالتهم محزنة فردياً أو اجتماعياً، لم يعط مجرد علامة لإثبات موافقته عليهم، بل بالحري كعنوان سروره في العمل الذي قام به ابنه المحبوب شخصياً. نحن نعلم أن الروح القدس حل على المسيح حينما كان على الأرض بدون رش دم، ذلك لأن المسيح كان على الدوام بلا خطية، كاملاً أدبياً كما هو الآن في السماء، وقداسته كإنسان ليست بأقل مطلقاً من قداسته كالله. ونحن لا ننسى بالطبع أن المسيح كان عليه أن يتكمل بمعنى آخر لكي يصير رئيس الخلاص ولكي يتكرس كاهناً سماوياً. نعم – وواضح أنه كان لديه عمل ليعمله ومركز مجد رسمي ليحصل عليه ولكن لم يكن شيء من ذلك يستطيع أن يزيد على كماله الأدبي ذرة واحدة. ولذلك استطاع أن يقبل الروح القدس لنفسه كإنسان مع عدم رش الدم. غير أنه بعد صعوده إلى الأعالي قبل من الآب موعد الروح القدس وكم في هذا الحق من تعزية وثقة وادعة وراحة هنية! ولو فرض أن الروح القدس أعطي لنا نحن رأساً لكان جائزاً أن نظن أننا إذا لم نتصرف كما ينبغي فإن الروح القدس ينزع منا، ولا نعجب حينئذ إذا رأينا نفساً تضطرب تحت عامل هذا الفكر. ولكننا نشكر الله، فالآب قد أعطى الروح القدس مرة ثانية للمسيح: إذ لما صعد إلى الأعالي قبل من الآب موعد الروح القدس وسكب ما رآه وسمعه الذين كانوا حاضرين في يوم الخمسين. فالعطية كانت بفضل المسيح الذي بعد أن محا خطايانا قبلها كنتيجة لعمله. والأساس الراسخ الأمين الذي يقوم عليه أمام الله ودوام حضور الروح القدس في القديسين أفراداً وفي الكنيسة، هو محبة الله للمسيح وتقديره لعمله الذي صار لأجلنا (هذا إذا لم نتكلم عن كلمته العديمة التغير).

  • عدد الزيارات: 3406