إتمام مواعيد الرب
وهيا بنا ندخل في سفر أعمال الرسل لعلنا نجد فيه ما يفيد إتمام مواعيد الرب، ولاشك أننا واجدون. ففي الإصحاح الأول من ذلك السفر نرى أن التلاميذ كانوا موجودين مع الرب وكانوا يشتركون معه اشتراكاً هنيئاً فيما كان يملأ قلبه قبل انطلاقه. فقد كانوا يرقبون ملكوتاً يفوق بالكثير على العالم وعلى إسرائيل. وإن لم تكن أفكارهم قد انحطت بدرجة انحطاط أفكار المسيحيين الذين يقولون اليوم بملك ألف سنة بلا مسيح، الأمر المخجل لهم وهم يرفعون عقيرتهم بيننا تفاخرا وإعجاباً – إلا أن أفكار التلاميذ في يومهم لم تكن أسمى من أفكار اليهود العاديين. كما أنهم لم يكونوا قد فهموا وقتئذ الرجاء المسيحي الثمين ذلك لأن أفكار المسيحيين هي أفكار السماء بموجب إخبار الروح القدس لهم، الإخبار الذي لاق بالآب إذ أن ذلك كله كان مرتكزاً في الابن وفي مجده السماوي. في تلك الشركة قد دخلنا أيها القارئ! لا في شركة مع الأنبياء في الرؤى المباركة التي رأوها عن مجد عتيد أن يملأ الأرض بل "مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح". أما في حادثة (أعمال 1) فإن التلاميذ لم يكونوا قد حصلوا على قوة الإدراك لأن الروح القدس لم يكن جاء شخصياً مع أنهم كانوا حاصلين وقتئذ لا على حياة فقط بل على حياة في القيامة ففي نفس اليوم الذي قام فيه شخص الرب من بين الأموات نفخ فيهم فعلاً وقال لهم "اقبلوا الروح القدس" على أن هذا لم يكن بالطبع نوال عطية المعزي، ذلك الشخص الإلهي الموعود به والذي كان عتيداً أن يقوم المسيح على الأرض بل بالأحرى كان هذا عبارة عن توصيل حياة المسيح بعد القيامة بواسطة الروح القدس. لذلك أعتقد أن نفخ السيد في التلاميذ كان فيه إشارة إلى نفخ الرب الإله في آدم. غير أن بين العملين فرقاً. فقديماً كانت النفخة لقبول الحياة الطبيعية لآدم أما الآن فقد وجد على الأرض شخص إلهي كان رباً وإلهاً (كما اعترف توما) وفي نفس الوقت كان الإنسان المقام أو آدم الأخير الروح المحيي لذلك هو يعطي هذه الحياة بواسطة الروح القدس (لأن الحياة لابد من إعطائها بواسطته) لأجل هذا قيل "اقبلوا الروح القدس". ومع كل فإننا نتعلم من (أعمال 1) أن الروح القدس الذي هو المعزي لم يكن قد جاء حينئذ ونستنتج هذا من حق بسيط وهو أن الرب لم يكن قد انطلق بعد كما قال له المجد "إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي" فكان حتى ذلك الوقت موجوداً مع التلاميذ وأوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب. ومهما كانت البركة التي فازوا بها يوم القيامة إلا أنها مع ذلك لم تكن هي إتمام موعد الآب.
أما الإصحاح الثاني من هذا السفر فإنه يرينا الروح القدس عاملاً على الأرض في غياب المسيح بطرق متنوعة. فيخبرنا ذلك الإصحاح عن مظاهر غير عادية للنعمة الإلهية بدت في موهبة الألسن التي سمت على التشويش الذي جلبته خطية الإنسان والقضاء الإلهي إلى العالم في اختلاف الشعوب والأجناس والألسن – الأمر الذي ظل موجوداً منذ أيام بابل حتى عصرنا الحاضر. وها نحن أولاء نرى الروح القدس يذيع أخبار عجائب نعمة الله للجميع، وكأنها تثبت أنه حيثما كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً. ولكن يجب ألا ننسى الألسنة الجديدة لم تكن هي حضور الروح القدس بالذات – ولو أنها كانت ثمرة عجيبة لعمله الإلهي – بل كانت نتيجة وعلامة واضحة للرب الذي مرة صلب والآن هو مرتفع ممجد وشهادة عامة لبشارة النعمة بالمقابلة مع الناموس. ومع ذلك فلم تكن هي بالذات عطية الروح القدس نفسه. وهذا الحق في غاية الخطورة لأن عدم إيمان البعض قد جعلهم يتوغلون في الاعتقاد والقول بأنه إذا لم تكن الألسنة موجودة الآن فإن الروح القدس ليس موجوداً كذلك. وكم في هذا الاعتقاد من تحقير لحضور الروح القدس! ونكران للمسيحية وللكنيسة! فالحقيقة هي أن الألسنة وسائر القوات التي سر الروح القدس حينئذ أن يجريها لم تكن كلها سوى علامات معجزية تتناسب مع حضوره ومع إعلانه الإنجيل وتأسيسه الكنيسة. وقد كانت هذه الحالة جديدة على الإطلاق ولم يسبق لها نظير. لقد كانت المعجزات تتبع خطوات الابن في حال وجوده على الأرض وترافق كلمته لأن ذلك كان يليق به وقد ناسب في وقته إتمام النبوات. فإذ قد جاء شخص إلهي آخر أفلم يكن من اللائق وجود براهين تثبت حضوره لاسيما وأن ذلك الشخص الإلهي لم يتخذ هيئة ثابتة تظهره للعيان نظير ابن الله؟ لأجل ذلك كانت الحاجة ماسة جداً لوجود آثار واضحة وعلامات تسترعي الالتفات وتدعو قلب الإنسان لأن يزن ما هو الله وماذا يعمل – ليس فقط كما ظهر في الابن بل كما شهد الروح القدس الحاضر على الأرض.
هذا هو الحق الأساسي الذي تقوم عليه كل الحقائق التي نراها في طول العهد الجديد وعرضه. فقد اصطدم الناس وقتئذ بحقيقة لم يكن لها نظير يجهلها العالم كل الجهل إذا لم تقل أنها أدهشت حتى أولئك الذين تعلموا من الرب نفسه أن ينتظروا حدوثها – تلك هي حقيقة حضور الروح القدس بالذات وإشهاره ذلك الحضور بختم القوة المجيدة ليعلمه الناس ويقرأوه بوضوح وبكل جلاء. ولذلك إذا ما تصفحنا سفر الأعمال كله فإننا نواجه لأول مرة شهادة واضحة لا عن عمله ومنتجات ذلك العمل وحسب بل عن الحق المجيد، حق وجوده شخصياً في ذلك الزمان. وتأمل أيها القارئ في الحادثة المدونة في (أعمال 4) التي انفجر فيها لأول مرة عداء العالم الديني وتأمل في جواب الروح القدس عن تلك الحادثة كما هو مذكور في عدد 31. وخذ أيضاً تلك الخطية الأولى والفضيحة المشهورة التي نرى فيها أن حنانيا وسفيره قد حكم عليهما في حال خطيتهما بأنهما لم يكذبا على الناس بل على الله. وسل أيها القارئ عن كيفية إثبات ذلك!! الجواب: أنهما كذبا على الروح القدس الذي كان موجوداً حينذاك. وكان قياس الحكم عليهما ذلك الشخص الذي أهاناه والذي كان موجوداً في وسطهما. ودعني أقل أيها القارئ أن مقياس الخطية هذا صحيح في الحالات الفردية كما في الكنيسة أيضاً. ومن ثم نرى أن الرسول في (أف 4: 30) لا يحذرنا من مجرد كسر وصية أو أخرى بل يوصينا قائلاً "ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء". وما أحرانا أيها العزيز أن نمعن التأمل في هذا القول!!
وعندي، أنه كلما تأمل أولاد الله في هذه القضية كلما شعروا بخطورتها وأهميتها. فلو فرضنا مثلاً أن واحداً ممن نعزهم، ونسر بهم، حضر معنا، أفلا يكون حضور ذلك العزيز مؤثراً على طرقنا وكلماتنا بما يناسب تقديرنا ومحبتنا لحضوره معنا؟ قد أكون في حياتي العادية في سكون وهدوء ولكن إذا مكث معي حبيب يجذب تكريمي وتقديري له فلا شك أنني أحس وجوده إحساساً عميقاً و إلا فإنني جماد. وعلى كل حال ففي وجود ذلك الحبيب معي لا شك أنني أفتكر في كل ما يجلب له السرور، وأحاذر مما يجرح إحساساته، وقلبي يكون يقظاً ونشيطاً فرحاً في أن يعمل ما يرضي ذلك الحبيب. هذا مثال أردنا أن ندلل به عما يجب أن نعمله للروح القدس الذي بمجرد إتمام الفداء قد أتى إلينا إذ قد محي عن كل مؤمن ما كان الله يغتاظ منه وأصبح كل قديس يقف بالبر الإلهي أمام الله – وكل ذلك قد صار له في المسيح. فكيف إذن يغيب الروح القدس؟ إذ ينبغي له أن يقوم بنصيبه في العمل بعد أن صنع كل ما هو كريم في عيني الله والإنسان وإذا كان الآب قد أتم أغراضه في الابن وبالابن فهل يجوز أن يكون الروح القدس غائباً فلا يعمل؟ والآن وقد أكمل الله عمله العظيم، أي عمل المسيح الكفاري، وحيث قد وجد دم الذبيحة المقبولة استطاع الروح القدس لا أن يعمل فقط بل أن يسكن أيضاً. لأنه إذ دخل المسيح بدمه إلى الأقداس مرة واحدة فوجد فداء أبدياً فإن الروح القدس قد أتى ليمكث معنا إلى الأبد: هذا هو الأساس والقياس لكل أمر. وعليه، فإن سفر الأعمال هو بالأحرى سفر أعمال الروح القدس لا أعمال الرسل ولو أنهم كانوا أواني مهمة في يده ومع ذلك فلم يعملوا وحدهم. لقد رأينا في حادثة حنانيا وسفيره أن الروح القدس قد حكم في القضية بحضوره وتصرف بمقتضى ذلك، ورأينا أيضاً حينما كان التلاميذ في خطر الفزع من تهديدات الناس أن الروح القدس تنازل فأثبت حضوره العظيم ببرهان مشجع مبهج. فلم تكن المسألة مجرد وجود بطرس أو يوحنا أو من سواهما بل أن المكان الذي كانوا مجتمعين فيه قد تزعزع في ذلك الوقت. ومن ذا الذي حضوره أحدث تلك الزعزعة يا ترى؟ وفي وسط من حدثت؟ إنه حضور الروح القدس ليس في فرد من الأفراد أو غيره بل في جماعة الله. وأكثر من ذلك فإننا نرى من (أعمال 13) أن الروح القدس أخذ مركز العمل البارز وأرسل بولس وبرنابا للعمل كما قال "أفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه" "وهذا إذ أرسلا من الروح القدس انحدرا إلى سلوكية... " وأشير هنا فقط إلى الحادثة لأبين أن المسألة ليست مسألة معجزات وألسنة وقوات بل مسألة شخص إلهي حقيقي كان الفاعل الرئيسي كموجود في كنيسة الله، وأن حضور الروح القدس شخصياً في الإنسان كان شيئاً جديداً ولم يكن له مثال في معاملات الله وطرقه قديماً (قارن أيضاً أعمال 8: 29 و 39، ص 15: 28، ص 16: 7، ص 20: 23، ص 21: 11).
- عدد الزيارات: 2749