مفارقة: ما لم يتوقعه اليهود
إلا أننا عندما نأتي إلى العهد الجديد يعرض لنا أمر جديد. فقد رأينا من (يو 12: 34) أن الخبر عن ابن الإنسان محتقر مصلوب مفارق للعالم كان غريباً على مسامع اليهود الذين يرجون أن المسيح يبقى إلى الأبد ويملك على الأرض بالمجد وبالبر. ولكن حالما رفضه الإنسان، وإسرائيل على الأخص، برز هذا الحق – الذي أدهش اليهود – قائلاً أن مسيا وابن الله كان عتيداً أن يفارق الأرض. وإن كان الأمم (كما أعتقد) لا يفكرون في هذا إلا قليلاً ولكن هل أظهروا هم في دورهم حكمة أعظم من أولئك اليهود؟ لقد كان ذلك الإعلان مدهشاً جداً لليهود ولا يتفق لأول وهلة مع الناموس والأنبياء – إذ أنهم كانوا يرجون مسيا الشخص الموعود به الذي كانت مسرة قلوبهم في حضوره، والذي كان يشتاق إليه الملوك والأنبياء من الأعماق لأن الله وضع في نفوسهم ذلك الشوق. ولكن الذي ظنوه متمماً لآمالهم إذا به عتيد أن يفارقهم، ويغوص في لجة الحزن والعار والموت – موت الصليب، تحت يد الإنسان لا بل تحت يد الله!! وليس ذلك فقط بل حتى بعد أن قام من بين الأموات – فبدلاً من أن يحافظ على مجده في كرسي داود أبيه ويملأ الأرض بالبركة التي تنبأ عنها الأنبياء، أجل – بدلاً من أن يتمم لهم ما كانت قلوبهم تصبو إليه لكي يشرق ويضيء العالم إلى الأبد – وإذا به مزمع أن يترك العالم في ظلامه ويرجع إلى السماء من حيث أتى. على أن صعوده إلى الأعالي ليس كنزوله منها: فقد نزل كبن الله لكي يصير إنساناً كما هو مكتوب "والكلمة صار جسداً"، أما الآن فكإنسان قام من بين الأموات كان مزمعاً أن يترك العالم لكي يأخذ مكانه عن يمين الله. وفي حال وجوده هناك وعد أن يرسل الروح القدس بكيفية لم تكن معروفة قبلاً. لقد كانت مهمة العهد القديم أن يعد قلوب اليهود للمسيا على الأرض. أما كون مسيا – بعد موته وقيامته – يغيب عن نظر العالم الذي طرده، ويدخل في مشهد جديد سماوي، وإرسال الروح القدس شخصياً ليحل محل المسيح أثناء غيابه عن العالم، كل هذا لم يكن ينتظره اليهود مطلقاً.
هذا هو الحق الرئيسي الذي يعلنه العهد الجديد بعد إعلانه شخص المسيح. ولكن المسيحيين قد تباعدوا في هذه الأيام عن السير بمقتضاه كالأساس الراسخ وقد انحط هذا الحق في أفكارهم عن مستواه الصحيح حتى لقد اقتصروا على الاعتقاد بمجرد استمرار التأثير الذي كان يحدثه الروح القدس على الدوام. وقد نتج عن ذلك أن كل من يرفض حضوره على الأرض بكيفية خاصة وبصفة شخصية كنتيجة للفداء فإن مثل هذا ينساق إلى طرق محزنة لكي يتخلص من الأقوال الكتابية الواضحة والبسيطة. وأستطيع أن أذكر هنا مثالاً واحداً قد يثير الدهشة في البعض عندما يسمعون مثل هذه التصريحات لاسيما من شخص له شهرة واسعة في المعرفة الروحية. وسنرى من هذا المثال أن عدم الإيمان بهذا الحق السامي (أي حق حضور الروح القدس فعلاً بكيفية لم تكن معروفة قبلاً) هو العلامة التي تظهر أولئك الذين يقاومون هذا الحق بواسطة أنظمتهم. ففي المعزي نراهم يدعون بأن الروح القدس كان يعطي قبلاً وأنه قد فارق الأرض حال وجود الرب عليها حتى يسكبه مرة أخرى عند صعوده إلى السماء. ومن ثم فإن فترة حضور المخلص على الأرض لم تكن فترة عيد مبهج بل بالأحرى فترة موحشة لأن الروح القدس لم يكن موجوداً إذ ذاك!
وقد ذكرت للقارئ مجرد الفكرة حتى أبين له مبلغ التهور الذي من شأن عدم الإيمان أن يقود إليه حتى رجال الله العقلاء. وهل أراني بحاجة إلى أن أقول العكس أن الذين احتاطوا بالمخلص واغتبطوا بتعاليمه تمتعوا بكل ما كان يتمتع به قديسو العهد القديم وأكثر؟ فقد أيقظ الروح القدس نفوسهم كما أجدادهم بإعطائهم الإيمان بالمسيح. وفوق ذلك فإن التلاميذ في يومهم فازوا بحضور المسيا في وسطهم، وبإعلان النعمة والحق به في كلامه وتصرفاته. لاشك أنه كانت لدى الرب أمور كثيرة لم يستطيعوا أن يحتملوها حينئذ كما قال السي له المجد، ومع كل فقد كانوا مؤمنين حقيقيين كالذين سبقوهم. والحقيقة أن محاجة كهذه لهي مجهود ضائع يبذله الإنسان في طريق الهروب من حق الله الخطير.
- عدد الزيارات: 3080