Skip to main content

الفصل الثامن: المستحجرات تتكلم

"أو كلّم الأرض فتعّلمك ويحدّثك سمك البحر. من لا يعلم من هؤلاء أن يد الرب صنعت هذا" (أيوب 12: 8، 9).

عندما أدرس سجل المستحجرات، والتي تُعتبر البرهان المادي الوحيد لنظرية النشوء، أتذكّر كلمات ربنا يسوع المسيح التي وجّهها إلى الفريسيين بعد أن دعوه إلى انتهار تلاميذه الذين كانوا يبتهجون بالله ويسبحونه: "... إنه أن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ" (لوقا 19: 40).

ثمة، في أيامنا، العديد من المسيحيين الذين يطلّعون على سجل المستحجرات من خلال أناس مدعوين علماء. فيشعرون إذ ذاك بأن هذا الدليل يهدّد إيمانهم إذ إنه يدعم نظرية النشوء بحسب ظنهم. وعلى أثر ذلك، "يلازمون صمتهم" ويكفّون عن الابتهاج بيسوع المسيح مخلّصهم وخالقهم وعن تسبيحه. وليسمح لي العدد الكبير من المسيحيين الصامتين أن أطمئنهم على أن الحجارة، وحتى المستحجرات داخل الحجارة تهتف بصوت عالٍ وجلي،دعماً لعملية الخلق.

ما هي المستحجرات؟ عندما تجرف المياه الجارية أحد الكائنات الحية إلى ضفافها، تدفنه الرسوب في مكان ما. ثم تحت تأثير الضغط، تتحوّل الرسوب إلى صخر، وهكذا يصبح الكائن الحي أو آثاره جزءاً من الصخر. هذه تسمى مستحجرات، وهي منتشرة في كل أنحاء العالم.

فكلّ مَنْ يتفحص هذا الموضوع بذهن مفتوح ينبغي له أنْ يستنتج أنّ هذه المستحجرات تدلّ على موت فجائي تلاه دفنٌ سريع وليس على موت وانحلال بطيئين، حصلا تدريجياً. إنها البرهان وقوع كارثة وليس على حصول أمور مألوفة وبشكل منتظم. لذا فإن مدافن المستحجرات في كل أنحاء العالم تشكّل الدليل "الحي" عل صحة ما ورد في الكتاب المقدس عن طوفان شامل حدث في أيام نوح كما يصفه لنا سفر التكوين.

إن كان سجل المستحجرات يدعم نظرية النشوء، فعلينا أن نتوقع أولاً العثور على أقدم أشكال الحياة داخل أعتق الطبقات الصخرية. على أن نكتشف، خلال صعودنا بشكل تدريجي عبر هذه الطبقات الصخرية المتتالية، أشكالاً من الحياة معقّدة أكثر فأكثر.

هل هذا ما نجده فعلاً؟ كلا البتة. ذلك لأنه لا وجود للمستحجرات تحت الطبقات الصخرية المسمّاة "كمبرية". ثم فجأة تظهر داخل الطبقات الكمبرية مليارات المستحجرات العائدة إلى حيوانات معقدة من صنف الثلاثي الفصوص (Trilobite) وقنديل البحر (Jellyfish) والديدان. وحتى لو سلّمنا بوجود مستحجرات صغرى تابعة لخلايا وحيدة، لا يزال هناك فجوة زمنية خالية من أية مستحجرات على الإطلاق، والتي دامت في عُرف النشوئيين 5، 1 مليار سنة. إذاً، سجلّ مستحجرات من هذه الناحية، لا يخدم نظرية النشوء.

بالنسبة إلى عملية الخلق، فإن الأشياء الحية جميعها قد خُلقت معاً، حتى إن جميع مستحجراتها تظهر معاً كما يبيّن السجل. والمياه الجارية تجمع عادة جميع الأجسام من أوزان متشابهة وتُغرِقها معاً. وهذا ما يُفسّر ظاهرة تراكم المستحجرات ذات الأرقام المتقاربة في الموقع نفسه.

وإن كان سجلّ المستحجرات يعزّز فكرة النشوء، فعلينا عندئذٍ أن نتوقع من الأصناف الأساسية الجديدة ألاّ تظهر فجأة بل أن تحمل بعض خصائص مجموعاتها السالفة. وهكذا في حال صحّ ادّعاء نظرية النشوء بأن البرمائيات نشأت من الأسماك على مدى فترة 50 مليون سنة، ينبغي أن يكون هناك ملايين من المستحجرات التي تظهر أشكالاً انتقالية، أي مستحجرات يتألف جزء منها من زعانف والجزء الآخر من قدمين، أو مستحجرات نصفها سمكي ونصفها الآخر برمائي. وإن كانت الطيور قد نشأت على مدى ملايين السنين من الزحافات، فيجب عندئذٍ أن نعثر على مستحجرات يحمل جزء منها قوائم أمامية والجزء الآخر أجنحة، أو من صنف زحافات ونصف طيور.

لكن سجلّ المستحجرات كلّه، والحاوي على ملايين منها، لا يحوي شكلاً واحداً من هذه الأشكال الانتقالية. وليس بإمكان النشوئيين اعتبار أن غياب هذه الأشكال يعود إلى صغر حجم السجلّ، كما ألمح إلى ذلك داروين. أمّا نيوويل (Newell) وهو نشوئي، فيشير إلى نقيض ذلك بقوله: "هناك مع زيادة عدد المستحجرات المفحوصة ميل إلى بروز عدد أكبر فأكبر من الثغرات" [1]. كما أن سمبسون( Simpson) أحد مشاهير النشوئيين، كما كتب يقول: "أن ظاهرة غياب الأشكال الانتقالية باستمرار، ليست محصورة في الثديات وحدها، إنما هي شاملة وكونية تقريباً. ويمكن اعتبار أن أشكالاً انتقالية كهذه لم تُسجَّل بسبب عدم وجودها" [2].

يستشهد النشوئيون بحيوان قد انقرض الآن ويُدعى أركيوبتركس (Archaeopteryx) كمثل عن شكل انتقالي بين الزحافات والطيور. وفي الواقع، كان أركيوبتركس طائراً: كان مزوّداً بقدمين تخوّله الحطّ،كما كان له جناحا الطائر وريش شبيه بريش الطيور في أيامنا. كانت جمجمته أيضاً من صنف جماجم الطيور، كما تبيّن أيضاً في جسمه عظمة الترقوة، وهي عظمة تتميّز بها الطيور. وفوق هذا كله، كان هذا الكائن يطير. أمّا المخالب التي كان يحملها على جناحيه، فلا تجعل منه شكلاً انتقالياً. فهناك الآن في أيامنا ما لا يقل عن ثلاثة أصناف من الطيور الحاملة مخالب على أجنحتها وهي: طائر الهواتزن (Hoatzin) في أميركا الجنوبية، وطائر الطورق في أفريقيا، وطائر النعامة. والجدير ذكره أنه لا يُعدّ أي واحد منها من الأشكال الانتقالية.

أن الأسنان في فم أركيوبيركس لا تجعل منه أيضاً شكلاً انتقالياً. فبعض الطيور القديمة كان لها أسنان وبعضها الآخر كان بلا أسنان. ولبعض الأسماك أسنان وكذلك أيضاً بعض البرمائيات والزحافات. وبالمقابل هناك أصناف أخرى من الأسماك والبرمائيات والزحافات من دون أية أسنان.

وفي الآونة الأخيرة اعتبر النشوئيون أن مستحجرات أحد الطيور التي عُثر عليها في تكساس، يعود تاريخها إلى 75 مليون سنة قبل  أركيوبتركس. ومع هذا لا يزال النشوئيون متمسكين بهذا الكائن أركيوبتركس في محاولة يائسة منهم لإنقاذ نظرية النشوء.

كتب دانتن ما يلي كخاتمة لموضوع الأشكال الانتقالية:

"إذاً، أن تأييد عقيدة الاستمرارية، التي يدعمها النشوئيون مثلاً، هو الذي استلزم دائماً تراجعاً عن التجريبية الصرف (أي المنطق مع الملاحظة)، وخلافاً لما يفترضه علماء الأحياء النشوئيون على نطاق واسع اليوم، كان دائماً أضداد النشوئيين (كدعاة الخلق مثلاً)، وليس النشوئيون، ضمن المجموعة العلمية، هم الذين تمسّكوا بشكل صارم بالحقائق والتزموا الأسلوب التجريبي بأكثر دقة... وكان داروين النشوئي هو الذي تراجع عن الحقائق" [3].

هل باستطاعة سجل المستحضرات أن يسيء بهذا الشكل إلى نظرية النشوء، أم هل المستحجرات نفسها تصرخ مؤيدة الخلق؟

ثمة أوجه كثيرة لسجل المستحجرات والتي تعجز نظرية النشوء عن تفسيرها. إليك بعض منها بكل اختصار:

1. المستحجرات الداخلة في عدة طبقات صخرية:

أنها المستحجرات التي تظهر في وضع عمودي عوضاً عن الوضع الأفقي المألوف. وهي تنتشر على أكثر من طبقة واحدة سماكتها ستة أمتار. ومن الأمثلة البارزة في هذا المجال، مستحجرات الأشجار التي يبلغ طولها 24 متراً والتي تظهر في وضع عمودي أو أحياناً مقلوبة رأساً على عقب، وتنتشر على 4 أو 5 طبقات صخرية [4]. لقد استغرق ترسيب كل طبقة ملايين السنين في نظر النشوئيون، بأي شكل من الأشكال، تفسير ظاهرة محافظة هذه الأشجار المستحجرة على وضعها العمودي هذا خلال عملية ترسيب الطبقات.

2. مسالك الإنسان المتحجرة، والديناصور:

تظهر هذه معاً في حوض نهر بالوكسي (Paluxy) في تكساس [5]. وبحسب نظرية النشوء، من المفترض أن تكون الديناصورات قد انقرضت قبل 70 مليون سنة من ظهور الإنسان على الساحة. ولكن أمامنا هنا البرهان على أن الإنسان والديناصور كانا يجوبان الكون معاً، ما يحذف 70 مليون سنة من النشوء. وقد بذل النشوئيون محاولات للتشكيك في صحة هذا الاكتشاف نظراً لأهميته، مدّعين أن هذا البرهان قد تعرّض للتلاعب. إلاّ أن العديد من العلماء الذين عاينوا هذا البرهان يعتبرون أن لا مبرر لهذه الادعاءات. كما أنه قد تمّ اختبار بعض آثار تلك الأقدام، وجرى تحليلها داخل مختبرات متطورة. وقد أُخذت شريحة منها، وتم تعقُب سير خطوط الضغط في الطبقة التحتية [6]. ولو صحّ القول إن آثار الأقدام قد حفرها بعض المزورين كما يدّعي قوم، لما ظهرت أية خطوط ضغط في عمق الطبقة السفلية.

3. الماموث المتجمد في سيبيريا:

لقد عُثر عليها والطعام بَعْدُ في أمعائها، ممّا يدلّ أن الموت حصل بغتةً، بسبب التجمد. وهذا التجمّد حصل، في نظر النشوئيين، بشكل بطيء جداً وعلى مدى فترة زمنية طويلة. لذا لا تستطيع نظرية النشوء بأي شكل من الأشكال تفسير ظاهرة تجمّد الماموث بهذا الشكل الفجائي. وقد توصّل بعض النشوئيين حتى إلى ادّعاء أن جميع حيوانات الماموث هذه قد أكلت وجبة طعامها ثم قفزت داخل نهر متجمّد. أن ما حصل في سيبيريا في تلك السنة كان، ولا شك، ضَرْباً غريباً من ضروب الألعاب الأولمبية.

4. لقاح وبذور من النباتات الأرضية داخل الطبقات الكمبرية:

تعتبر نظرية النشوء أنه لدى ترسيب الطبقات الكمبرية لم تكن النباتات الأرضية قد ظهرت بعد على الساحة. وبالتالي لا مجال لتفسير وجود اللقاح داخل الطبقة الكمبرية.

5. العمود الجيولوجي:

يصف الجيولوجيون هذا العمود بأنه تسلسل منتظم من الطبقات الصخرية بدءاً بالأعتق في القعر مع الأحداث عهداً في قمته. غير أن هذا العمود لا يظهر في أي مكان بشكله الكامل كما أنه لا يكون دائماً كما يُتوقع منه، فكم من مساحات شاسعة من الصخور الأعتق هي منتشرة فوق الصخور الأحدث عهداً منها. إنّ ضخامتها وامتزاجها السلس بالطبقات الصخرية يحولان دون إمكانية تفسير هذه الظاهرة على أنها بمثابة خلق جيولوجي.

كان ذلك مجرد بعض أوجه سجل المستحجرات التي تقف نظرية النشوء عاجزة عن تفسيرها. لكن كيف تتلاءم هذه الأوجه مع الخلق؟

تعتبر عقيدة الخلق أن الله هو الذي خلق جميع الأنواع الأساسية للكائنات الحية. إذاً، لسنا نتوقع وجود أية أشكال انتقالية؛ وهذا ما يُظهره تماماً سجل المستحجرات.

يدوّن لنا الكتاب المقدس في سفر التكوين تفاصيل طوفان مأساوي في أيام نوح. وهذا يُفسر علمياً التكوين السريع لطبقات صخرية رسوبية، كما يفسر ظاهرة وجود مقابر للمستحجرات استلزمت موتاً فجائياً ودفناً سريعاً. والطوفان يفسر أيضاً وجود المستحجرات العمودية المنتشرة على عدة طبقات صخرية، على أنها ناتجة من فعل الأمواج المدية والبراكين وضغط الماء الهائل خلال الأربعين يوماً الأولى من الطوفان كما هو مدون في الكتاب المقدس. وهو يفسر كذلك تغيير المناخ على نحوٍ مفاجئ وتجمد الحيوانات في سيبيريا وفي مناطق أخرى عندما قام الغطاء البخاري الذي كان يؤمن احتباس الحرارة فوق العالم بأسره، بإفراغ كل مخزونه من المياه على الأرض خلال الطوفان, وعلى أثر ذلك زال من الوجود المناخ المعتدل كونياً لكي تحلّ مكانه مناخات متطرفة قاسية. (راجع القسم III).

تمدنا رواية الخلق بأجوبة علمية ومنطقية عن جميع هذه المعضلات التي تخفق نظرية النشوء في تفسيرها. وهكذا نرى مرة أخرى أن سجل المستحجرات، والذي يُعتبر الدليل الوحيد على النشوء، لا يسند نظرية النشوء بل يعمل بالحري لصالح عملية الخلق.

وفي الختام، ما أكثر المراجع التي تشهر في وجوهنا المستحجرات بصفتها دليلاً على حصول النشوء. وهذه المراجع قوامها معلمون وأخصائيون وكتب مدرسية ومتاحف ومقالات في مجلات علمية "محترمة" وبرامج تثقيفية تبثها الإذاعة أو تظهر على شاشة التلفاز. جيّد من جهتنا أن نطلع على الحقيقة ونعرف أن مقدار الأدلة العلمية الداعمة لادعاءات النشوئيين هو مقدار ضحل. وكما صرح مرة أحد المعلمين: "لا يصدق عدد الأمور التي لا تصدق   والتي يحتاج غير المؤمن أن يصدقها لكي يدعى غير المؤمن".

النشوء هو الوسيلة الحديثة التي يعتمدها الشيطان للإبقاء على الناس بعيدين عن الله. الذي حريٌ بنا كمؤمنين أن نتسلح جيداً لكلمة الله ونحسن استخدامها لا للدفاع عن أنفسنا من هجومات الشيطان فحسب بل لنتمكن أيضاً من مهاجمة العدو واختطاف النفوس الثمينة من قبضته. ولنتذكر باستمرار أنه: "... في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رومية 8: 37).

References in English:

1- Newell, N. E. proc. Amer. Phil. Soc. April 1959, p. 267.

2- Simpson, G. G. Tempo and Mode in Evolution, Colombia University Press, New York, 1944, p. 107.

3- Denton, Michael Evolution: A Theory in Crisis, Adler and Adler, Bethesda Maryland, 1985, p. 107.

4- Morris, H. m. The Biblical Basis for Modern Science, Baker Book House, Michigan, 1993, p. 325.

5- Baugh, C. E. and Wilson, C.A. Dinosaur, Promise Publishing Co., CA, 1987.

6- Ibid, photos & illustrations at centre of book.

  • عدد الزيارات: 3441