Skip to main content

الفصل السابع: التحولات الإحيائية: صانع المعجزات

"فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى" (كولوسي 1: 16).

لنتقدم الآن خطوة أخرى. كيف أصبحت الخلية البسيطة كائناً بشرياً معقداً؟ تقول نظرية النشوء، إن ذلك حصل على أثر سلسلة من التحوّلات الإحيائية الصغرى (Micro- Mutations). فالتحوّلات الإحيائية هي تبديلات فجائية تطرأ على البنية الوراثية تحت وقع بعض العوامل الخارجية التي تدخل الخلية التناسلية، كالأشعة مثلاً. ومتى جاءت هذه التحولات مفيدة أو بناءة، من المفترض أنه يتم الاحتفاظ بها لنقلها إلى الأجيال التالية التي تكون في هذه الحال مسؤولة عن تطوير صنف جديد من نوعية فضلى.

ينبغي التمييز بين التحولات الإحيائية والانتقاء الطبيعي (Natural Selection)، ولا سيما بعد أن تعمد بعضهم عدم التفريق بين هذين المفهومين بقصد تضليل الناس. فالمثل الشهير عن "الفراشة البهارية" (Peppered Moth) غالباً ما يُستشهد به كدليل على النشوء، في الوقت الذي لا يُشكل في الواقع سوى دليل على ظاهرة الانتقاء الطبيعي. ففي الخمسينات من القرن الفائت، كانت الفراشات البهارية ذات اللون الفاتح منتشرة في انكلترا بنسبة 98 في المئة. وجذوع الأشجار الفاتحة  اللون، كانت تعمل على تمويه وجود هذه الفراشات عليها، فيما راحت تُبرز الفراشات البهارية القاتمة اللون، معرّضة إياها بذلك لافتراس الطيور. وبعد هذا تسبّب التلوث الناتج من الثورة الصناعية بقتل الأشنة (Lichen) على الأشجار، مُظهراً بذلك لون جذوعها القاتم. وعلى أثر ذلك، أصبح وجود الفراشات القاتمة اللون مموّهاً أكثر من الفراشات الأخرى ذات اللون الفاتح، ما زاد من احتمالات بقائها على قيد الحياة. لذا بلغت نسبة وجود الفراشات القاتمة اللون، في الخمسينات من القرن العشرين، 98 في المئة، علماً أن الفراشات هي نفسها لم تتغيّر إذ إنها وُجدت باستمرار باللونين الفاتح والقاتم. إن هذا الأمر، تعتبره الكتب المدرسية مثلاً على "النشوء الحادث في أيامنا"، لكنه ليس كذلك على الإطلاق.

ثمة أمثلة كثيرة على قدرة الكائنات على التكيف مع محيطها؛ والنشوئيون يجدون أنفسهم في مأزق حرج عندما يفترض هذا التكيف عمل مجموعة من الخصائص معاً من دون أن تتمكن أية واحدة منها منفردة من ضمان بقاء الكائن على قيد الحياة ومن الأمثلة الشهيرة على هذه الظاهرة نذكر الطائر "فليكر، نقّار الخشب" (Flicker Woodpecker)، والخنفساء بومباردييه (Boombardier Beetle) [1].

يقوم نقّار الخشب باستمرار بغرز منقاره بعنف داخل الأشجار. ولكي يستمرّ على قيد الحياة، يحتاج، في هذه الحال، إلى جمجمة من الصنف القاسي وإلى أنسجة وعضلات وأجزاء أخرى من جسمه تكون قادرة على امتصاص الصدمات. إلى ذلك، يلزمه أيضاً أن يكون مزوداً بلسان طويل جداً للولوج داخل جذع الشجرة. إن بقاء نقار الخشب على قيد الحياة يفترض أن تكون جميع هذه الخصائص قد تطوّرت معاً في الوقت نفسه وبشكل كامل.

تعتمد خنفساء بومبارديه أسلوباً كيميائياً نارياً للدفاع عن النفس. فإذا اقترب من الخنفساء مهاجم ما لالتهامها، تدور في مكانها وتقذفه في وجهة بوابل من الغازات السامة الساخنة بحرارة 100 درجة مئوية،ـ ما يمكّنها من الفرار إن النجاح في إطلاق النار بهذا الشكل يحتّم على الخنفساء أن تكون قادرة على مزج مادتين كيميائيتين هما بروكسيد الهيدروجين والكينون المائي، وبالمقادير الصحيحة. كذلك تحتاج أن تعتمد على أنزيمتين وعلى معطّلين لعمل الأنزيمات بالإضافة إلى جيوب ضغط ومجموعة كاملة من الأعصاب المرتبطة بالعضلات لتوجيه عملية قذف الغازات ولضبطها.

لنتخيّل للحظة أن نظرية النشوء صحيحة. لقد حضر المهاجم والخنفساء تستعد لمواجهته بمزج الكيميائيات لكن بمقادير مغلوطة، وتسمع دويّاً... لقد فجّرت نفسها. وانتظر الآن مرور عدة ملايين من السنين ريثما تكون الخنفساء التالية قد تطوّرت... وهكذا دواليك. فلا عامل الوقت والصدفة ولا الانتقاء الطبيعي أو بقاء الأصلح تعود تنفع لتعلّق عليها الآمال عندما تستلزم عمليات التكيّف عدة خصائص معتمدة بعضها على بعض. لذا يبقى الخلق المبني على تصميم إلهي هو التفسير المنطقي الوحيد.

قام داروين بتحليل مجموعة من الميزات عند الحيوانات ثم نسبها إلى نظرية بقاء الأصلح. فافترض أن الخصائص الجديدة، كالعنق الطويل عند الزرافة، هي من الخصائص المكتسبة بسبب البيئة والمحيط، وهكذا أعتقد بإمكانية نقلها بالوراثة. فبحسب هذا الافتراض، أصبح للزرافات أعناق طويلة بسبب أسلافها التي طالما مدّت أعناقها لبلوغ الأوراق في أعلى الشجر، ثم نقلت هذه الميزة إلى نسلها. وتعرف نظرية دارين الوراثية هذه بشمولية التكوين (pangenesis) [2]. أن فكرة إحراز تقدّم من طريق بذل المجهود، والتي ساهمت في شعبية نظرية النشوء في بداية عهدها، قد جرى نبذها منذ وقت طويل على اعتبار أنها مغلوطة. والعلماء يعرفون جيداً اليوم ما كان داروين يجهله بشأن علم الوراثة، كون الخصائص المكتسبة (بالمجهود) لا يمكن نقلها إلى النسل.

مع اكتشاف العلماء لما تنطوي عليه افتراضات داروين من أخطاء، حاولوا تطوير الداروينية تحت صيغة جديدة هي الداروينية المستحدثة (Neo-Darwinism). فاستعاضوا عن مفهوم استخدام عضو ما في الجسد أو عدم استخدامه بالتغييرات التي تحدث بشكل عشوائي للجينات والتي تُعرف بالتحوّلات الإحيائية.

ماذا يقول العلم عن التحوّلات الإحيائية؟ إن كل التحوّلات الإحيائية التي لاحظها العلماء هي في نهاية المطاف إمّا مضرّة وإمّا قاتلة وذلك من دون استثناء. ومع هذا، يعود النشوئيون إلى ادّعاء (ومن دون أي أساس) أن كل واحد من جملة 000،10 تحوّل أحيائي قد لا يكون مضراً. ثم يؤسسون نظريتهم على هذا الافتراض.

لقد أجريت الآلاف من التحوّلات الإحيائية على ذبابة الفاكهة. وماذا كانت النتيجة؟ ضُرب بعضها بالعمى، وفَقَدَ بعضها الآخر أطرافها، وبعضها الآخر قصرت جوانحها. لكن نوعيتها جاءت أدنى من قبل على المدى الطويل، كما أنّ نصيبها بالبقاء على قيد الحياة تضاءل. ومن جهة أخرى لم تتغير طبيعتها بل استمرت على حالها كذبابة فاكهة.

ومن جديد، تأتي الاحتمالات الحسابية لتّحدد لنا بالأرقام مدى صعوبة المشكلة التي يواجهها النشوئيون في افتراضهم أن النشوء هو وليد التحوّلات الإحيائية. فالتحوّلات الإحيائية نادرة جداً إذ تحصل بمعدل نحو مرة واحدة لكل عشر ملايين عملية مضاعفة لجزئية د. ن. أ. (1 في 10 7). وتبرز المشكلة لدى احتياجنا إلى مجموعة من التحوّلات الإحيائية المتعلقة بعضها ببعض. فاحتمال حصول تحوّلين مرتبطين فقط هو بنسبة 10 7× 10 7= 10 14، أي واحد لكل مئة تريليون. أمّا احتمال حصول أربعة تحوّلات مرتبطة فهو واحد في 10 28. عندئذٍ لن تسع الأرض كلّها لاحتواء جميع الكائنات اللازمة لجعل هذا الاحتمال ممكناً. وما يدهش في الأمر هو أن هكسلي (Huxley)، العالم النشوئي الشهير، هو الذي حسب احتمال نشوء الحصان وحصل على الجواب التالي: 1 في 10 000، 000، 3. غير أن مجموع الأحداث المحتمل حصولها لا يتعدى نسبة 10 170 كما تبيّن لنا في الفصل السابق، ولا عجب أن كتب دانتن (Danton) ما يلي:

إن كانت برامج الكمبيوتر المعقّدة لا يمكن تغييرها باعتماد أساليب عشوائية، فمن المؤكد إذاً أن هذا الأمر ينطبق أيضاً على البرامج الوراثية داخل الكائنات الحية والتي تعمل على نقل الخصائص من دون تعديل. إن الأنظمة الشبيهة بالكائنات الحية من النواحي كلّها، لا يمكنها أن تتطوّر بفعل ظاهرة التجربة والخطأ وحدها (أي التحول الإحيائي والانتقاء)، وقد تتوقف وظائفها دائماً وبشكل فجائي. وهذا في نظري يوشك أن يدحض رسمياً النموذج الدارويني للطبيعة بجملته. فبأية قدرة غريبة ستتمكن الكائنات الحية من تحدّي قوانين الصدفة التي تتحكم، حسب الظاهر، بجميع الأنظمة المعقدة المشابهة لهذه الكائنات؟" [3].

وهناك مشكلة أخرى رئيسة ترافق التحوّلات الإحيائية هي أنها تسير في اتجاه معاكس لنظرية النشوء. فهي لا تصلح أبداً لتفسير ظاهرة النظام الوراثي كما يدّعي النشوئيون. فالتحوّلات الإحيائية ليست سوى أخطاء في المعلومات ولن تؤدي أبداً إلى إحراز أي تقدّم إجمالي على الحالة الأولى الأصلية. لذا يستعين دعاة الخلق بالتحوّلات الإحيائية لتفسير ظاهرة خراب النظام الوراثي الراهن من جراء خطية الإنسان.

إن المثل الوحيد على تحوّل أحيائي مفيد يستشهد به النشوئيون هو "أنيمية الخلية المنجلية"  (Sickle-cell anaenia)، أحد أمراض كرويات الدم الحمر. إلاّ أنها تصنّف في عداد التحوّلات النافعة فقط لكون حامل هذه الخلية يكتسب مناعة ضد الملاريا. والسبب وراء ذلك هو أن مدة حياة خلية الدم المريضة هي أقصر من الفترة التي تفصل بين الإصابة بالملاريا وظهور امارات هذا المرض. إذاً لا يتعلق الأمر بأي تحسين طرأ على خلية الدم [4]. وهكذا لا يستفيد حاملوا أنيمية الخلية المنجلية إلاّ في تلك المناطق من العالم حيث مرض الملاريا يؤدي إلى الموت. لكن في حال كانت الجينة المعتلة موروثة عن كلا الأبوين، يموت الشخص عادة قبل أن يصبح بالغاً. لذا فإن أنيمية الخلية المنجلية هي مضرة في نهاية المطاف.

إذاً، تجتمع الأدّلة كلّها لتشير إلى أنه لا يمكن دعم فكرة التحوّلات الإحيائية كوسيلة تعتمدها نظرية النشوء. لكن هذه التحوّلات توجّهنا بالحري إلى الخلق. أنها تبديلات تطرأ على جينات موجودة قبلاً، ولا يُسفر عن ذلك إلاّ أشكال متنوعة من جينات موجودة قبلاً: تنوع في الصنف ("كجنسه" تكوين 1: 11 و12). وسنتحدث في الجزء التالي من هذا الكتاب عن البيئة المثالية والكاملة التي خلقها الله للإنسان قبل دخول الخطية إلى العالم. وتكفي عند هذا الحد الإشارة إلى أن آدم وحواء كانا كاملين عند خلقهما. كما يقول الكتاب المقدس إن الله بعد خلقه الإنسان في اليوم السادس، صرّح بأن كل شيء كان "حسناً جداً" (تكوين 1: 31). لم يكن آدم ولا حواء يحملان أية جينات معتلة، لكن العالم بأسره أصبح تحت لعنة الله بعد سقوطهما في الخطية. وهكذا دخل العالَم، من جراء ذلك، المرضُ والألمُ والعذابُ والموت. ومن انعكاسات هذه اللعنة أيضاً، جاءت الجينات المعتلة الناجمة من التحوّلات الإحيائية. وقد شهدت هذه الظاهرة ازدياداً مطرداً مع الوقت، ما يُظهِر أن نهاية كل شيء قد اقتربت. فعلماء الوراثة يقدّرون اليوم أن التحّولات الإحيائية هي مسؤولة عن نحو 2000 مرض وراثي. وباستطاعة العديد من الذين قضوا سنوات في الأبحاث أن يشهدوا على أن جميع هذه التغييرات الإحيائية هي مضرة [5].

سمعنا في طفولتنا قصة عن ضفدعة تحوّلت إلى أمير.و واليوم يريد لنا النشوئيون أن نصدق أنه في غضون 300 مليون سنة سيكون بمقدور الضفدعة فعلاً أن تتحول إلى أمير. وفجأة، تصبح القصة خرافية علماً. والمشكلة في أيامنا تكمن في وفرة انتشار شتى أشكال روايات العلم الخيالية (Science fiction) حتى بات من الصعب على الناس أن يرسموا حداً بين الحقيقة والخيال. والنشوئيون يقومون باستغلال هذه الحالة. وهكذا يتبيّن أن التحوّلات الإحيائية والتي اقتُرحت لتكون الأسلوب الذي يتبّعه النشوء في عمله، تشكّل في الواقع برهاناً آخر ضدّ نظرية النشوء.

References in English:

1- Gish, D. The Amazing Story of Creation, Institute for Creation Research, CA, USA, 1990. pp. 96-102

2- Ridley, M. A Darwin Selection, Fontana Press, London, 1994, p. 138.

3- Denton, M. Evolution: A Theory in Crisis, Adler and Adler, Bethesda, Maryland, 1985, p. 315.

4- Rosevear, D. Creation Science, New Wine Press, England, 1991, p. 64.

5- Gish (Ref. 1) p. 42.

  • عدد الزيارات: 3793