مريم المجدلية عند الصليب وعند قبر يسوع
لا يسجل شيء عن مريم المجدلية بعد لوقا 8 حتى نراها عند صليب ربنا المبارك. وكل البشيرين (مع أن لوقا لا يورد اسمها) يذكرون أنها كانت شاهدة لموت الرب أو على الأقل من الذين رافقوه في موته. ويلاحظ في الأيام الأخيرة لحياة ربنا على الأرض أنها كانت من بين نساء أخريات يتبعنه ويرد اسمها أولاً باستثناء مرة واحدة في إنجيل يوحنا عندما يضع اسم أم يسوع. "كانت واقفات عند الصليب يسوع وأمه وزوجة كلوبا ومريم المجدلية".والغرض الأساسي لفكر الرب هنا (وكم هو جميل أن نرى ذلك!) هو أمه، فبعدما أكمل الرب العمل الذي أعطاه إياه الله أن يعمل، أراد أن يستودع أمه لعناية تلميذه المحبوب. وفي متى ومرقس حيث ترى المجدلية مع آخرين فإنها تأتي أولاً وهذا يعلمنا بالتأكيد أن الرب يقدر تقواها وتكريس محبتها. ولوقا وحده يقول (ويذكر ذلك مرتين) "ونساء كن قد تبعنه من الجليل" (ص 23: 49 و 55). أما متى فيضع مريم من بين النسوة فيقول: "وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل ويخدمنه" (متى 27: 55)، ونحن نعرف أن مريم واحدة ممن يصفهم لوقا. وكما سبقنا فقلن أنه ليس لدينا تسجيلات للرحلات التي ضمت مريم والنسوة اللواتي من الجليل وقد تبعن يسوع. ولكنه من المؤكد أنهن كن معه في رحلته الأخيرة إلى أورشليم عندما كان يقترب من تقديم نفسه لله بروح أزلي بلا عيب. ويا لها من نعمة متفاضلة تتفق مع هذه النفوس المكرسة أن يسمعن كلماته وينظرن وجهه في أسبوعه الأخير من حياته على الأرض! ولكن قد أخفين حتى اقتربت النهاية لأن روح الله لم ينشغل بهن أو بامتيازهن لأن السماء كلها – وهكذا يقال بحق – كانت تركز نظرها ومشغوليتها بذلك الحمل الذي سيرفع خطية العالم. وعندما يكتمل عما الفداء فإن الروح القدس يأتي بهذه الملاحظة ويسجلها عن أمانة المجدلية والذين كانوا برفقتها.
ولكن لماذا كانت مريم عند الصليب؟ بسبب محبتها لمن فداها من يد الشيطان. امتلك يسوع قلبها وبالتالي انجذبت وراءه إلى أي مكان يذهب إليه وكما ارتبطت به ووحدت نفسها معه في حياته هكذا أرادت أن توحد نفسها معه في موته. ونستشف موقفين متميزين لها عند الصليب أحدهما قبل موته والآخر بعده. ويسجل يوحنا فقط الموقف الأول فيقول: "وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية" (يوحنا 19: 25). والتلميذ الذي كان يسوع يحبه كان أحد هذه الرفقة. وفي البداية فإن جميع التلاميذ بسبب رعب تلك اللحظة إذ كانت ساعة أعدائه وقوى الظلمة، تركوا سيدهم وهربوا. غير أن يوحنا تخلص من خوفه وكذلك سمعان بطرس بعض الشيء إذ "تبعه من بعيد إلى دار رئيس الكهنة فدخل إلى داخل وجلس بين الخدام لينظر النهاية" ولكن يا للأسف فإن بطرس كان قد وثق في قدرته الذاتية وعلى الرغم من التحذيرات التي وجهت إليه فإنه سقط في خطية شنيعة إذ أنكر سيده. ولا ترد أية إشارة عن بقية التلاميذ. ولكن كم كان قلب الرب مقدراً للعرفان إذ رأى بجانبه أربعة من الأمناء عند صليبه لقد شعر بعمق وهو في جشيماني أن الثلاثة المختارين من تلاميذه لم يقدروا أن يسهروا معه ساعة واحدة ولكنه الآن يتعزى إذ رأى أمامه أربعة مؤازرين لمواجهة قوى الشر والذي بدا للحظة وكأنه انتصار هائل، فإنهم هزموا أحزانهم التي لا توصف، ولا بد أنهم شعروا بالضياع عندما رأوا آلامه وحزنه العميق ولكن كان عليهم مواجهة كل المخاطر التي أصابتهم بحزن شديد وهم يرون ذاك الذي صار كل شيء لنفوسهم.
وعلى كل حال فإن مريم المجدلية هي موضوع تأملاتنا، ولهذا نتجاوز تلك المحبة الفائضة لمخلصنا المائت وهو يستودع أمه مريم إلى عناية تلميذه المحبوب وقد سبق أن تكلمنا بقدر قليل في النقطة في موضعها وما نريد أن نتحقق منه هو المعنى الأدبي لاتخاذ مريم المجدلية مكانها عند الصليب. لقد قيل، وهذا يدركه اصغر مؤمن، بأن محبتها للرب هي التي قادتها إلى هناك وبالتالي فهذا تعبير عن تكريسها التام له. وكأنها بحق تردد ما جاء على لسان إتايّ الجتي قديماً "حي هو الرب وحي سيدي الملك أنه حيثما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك". (2 صم 15: 21). وهي كذلك لغة قلب مريم وهي تتبع سيدها عند الصليب. وإذا أردنا أن نطبق المعنى على أنفسنا فهناك شيء آخر إذ أن موت المسيح ذات وجهين ففي موته مجد الله بكل ما هو عليه وكان ذلك يتضمن الكفارة وهو الأساس العادل الذي عليه يخلص المفديين. ومن جهة أخرى فإن هذا الموت يرتبط بنا ونحن في هذا العالم. يقول الرسول بولس "أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؟" ويرينا أنه هو نفسه قد دخل إلى هذا الحق عندما كتب "مع المسيح صلبت" وهكذا مريم المجدلية والذين كانوا معها وهم يتخذون مكانهم عند الصليب ويوحدون أنفسهم بموت المسيح. إن مريم لم تعرف شيئاً من هذا التعليم ولم تعرف المعنى الكامل لما فعلته فقد ماتت عن كل ما في العالم ومات العالم لها عندما علق على الصليب أمام عينيها ذاك الذي كان كل حياتها. هذه بحق مثال للحالة المسيحية المعتادة وعلينا أن نواجه أنفسنا بهذا السؤال إلى أي مدى نحن نحيا هذه الحياة.
وإن كنا نشير إلى المعنى الداخلي لمركز المجدلية فإننا لن نحاول أن نسبر غور تلك العواطف التي ملأت قلبها وقلب الذين كانوا يرافقونها ولكن نؤكد على شيء واحد فكيفما كانت الظلمة المحيطة بهم غير أنه كان لهم كل شيء بواسطة ذاك الذي آمنوا به. وليس من أي شك نازع نفوسهم من جهته بل بالحري كانت ظروف موته جعلته غالياً على قلوبهم أكثر مما مضى. ونتجاسر على القول بأن شعورهم الغالب وهم واقفون هناك أنهم كانوا في شركة معه في آلامه وبما كانت آلامه الجسدية ينظرونها بأكثر قوة. ولكن ما هو مؤكد لنا أن عواطفهم المغمورة في محبوبهم المتألم قادهم إلى المشاركة معه وإلى توحيد أنفسهم به بالقدر الذي أدركوا فيه حالته التي كان عليها. وعندما يقرأ مزمور 22 بالارتباط بهذا الموقف فإننا سنكون أكثر قدرة أن ندرك ما وعته تلك النفوس المكرسة وهي تصغي بخشوع إلى الكلمات التي انسابت من هذه الشفاه المقدسة. فالثيران الكثيرة أحاطت به وأقوياء باشان اكتنفته وهم يفغرون أفواههم عليه كأسد مفترس مزمجر. ثم ماذا عنه؟ فهو انسكب كالماء وعظامه انفصلت وقلبه صار كالشمع ذائباً في وسط أمعائه. قوته يبست مثل شقفة ولسانه التصق بحنكه. ثم يتجه إلى الله فيقول وإلى تراب الموت تضعني. بل وهناك أكثر من ذلك فالكلاب أحاطت به وجماعته الأشرار اكتنفته، ثقبوا يديه ورجليه وهنا نتوقف. ولعل القارئ يدرك كل جملة قيلت في المزمور كله وعند ذاك يكون قادراً أن يدرك بحسب قياسه خصائص هذا المشهد – مشهد الجلجثة وهو يعبر على قلب المجدلية. فيا له من متألم مبارك! إن كل آمال هؤلاء الأربعة وكل آمالنا نحن معلقة عليك أنت يا سيد وعلى ما احتملته على الصليب إننا نباركك يا إلهنا وأبانا إذ أننا لم نعرف ذلك فحسب بل إنك أيضاً وضعت أقدامنا على صخرة الدهور هذه. وإننا بنعمتك نسر بأن نقرّ أنه ليس لدينا أساس نستريح عليه أمامك وإنما المسيح وعمله الذي أكمله. ولهذا نسبحك الآن ونسبحك أيضاً طوال الأبدية آمين.
ونأتي الآن إلى لمحة أخرى ترتبط بالمجدلية وذلك بعد موت يسوع ونجدها في الثلاثة الأناجيل الأولى. ونقتبس من متى: "وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه وبينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسى وأم ابني زبدي" (مت 28: 55 و 56). ويتبين بوضوح أن مريم انسحبت من المكان الذي شغلته قرب الصليب لكي ترافق نساء أخريات الذين تبعن يسوع من الجليل فعندما استودع الرب أمه لتلميذه المحبوب أخذها في تلك الساعة – ما نقرأ – إلى خاصته، ومعنى هذا أنه على الأرجح ن هذه الجماعة التقية القليلة قد انفكت بحسب توجيه الرب وتنسحب مريم المجدلية مع مريم زوجة كلوبا إلى المكان الذي يقف فيه الرفقاء الآخرون اللذين من الجليل. هؤلاء النسوة كن ينظرن من بعيد، ويقول لوقا "وكان جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك". ما الذي نجمعه من هذه المقارنات في الأناجيل. كان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب" وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ وهم يتممون الكتب دون أن يدروا ويسخرون منه بتعبيرات من مزمور 22. كذلك اللصان اللذان صلبا معه كانا يعيرانه. والعسكر اقتسموا ثيابه وألقوا قرعة على قميصه. وفوق ذلك كانت الظلمة على الأرض كلها من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة. ثم ارتفعت أيضاً صرخات الرب المبارك نفسه الأولى وهو يعاني من ترك الله له والثانية عندما أسلم الروح. والأرض تزلزلت والصخور تشققت. هذه الأمور أو بعضها مما رأته المجدلية ومن كن برفقتها ومعارفه الذين وقفوا من بعيد ورأوا ذلك بكل تأكيد بعيون باكية وقلوب ممزقة.
ولكن هذا الشخص المبارك الذي سمر على الصليب ما الذي كان يجب أن يشعر به؟ من جهة مشاعره المرتبطة بآلامه الواقعة عليه من يد الناس نجد هذه الكلمات التي يلتمسها: "اقترب إلى نفسي فكها (افدها) بسبب أعدائي افدني. أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي. قدامك جميع مضايقي العار قد كسر قلبي فمرضت. انتظرت رقة لم تكن ومعزين فلم أجد" ولكن كلا يا ربنا المبارك فإن أعداءك قد تصلبت قلوبهم ضد أي رقة أو عطف ولم يوجد واحد غير ذلك اللص الذي كان معلقاً بجوارك الذي استطاع أن يميز من أنت وعرف بمجيئك في مجد ملكوتك. كلا لم يوجد إلا النسوة اللاتي تبعنك من الجليل ومن بينهن مريم المجدلية. هؤلاء من أحببنك كثيراً وكرسن نفوسهن لك مع أنهن لم يكن لديهن نور تجاه قيامتك. ولكن أشد تلك الأحزان جميعها كانت على مسامع أتباعه الأمناء التي جاءت من صرخته (ولابد أن الذين كانوا بقربه سمعوا تلك الصرخة) "إلهي إلهي لماذا تركتني؟". وكانت هذه صرخة المرارة التي شرب كأسها بآلامها المبرحة لدينونة الله. ولكنه بذلك مجد الله تماماً وكاملاً وصار كفارة لأجل خطايا شعبه ولكل العالم.
وهكذا تم الموت وبقي شيء واحد وهو دفنه. قال النبي "وجُعِل مع الأشرار قبره (وهكذا ترك ترتيب هذا الأمر مع الأعداء) ومع غنى عند موته". وهذا ما حدده الله إذ أن يوسف الرامي وهو تلميذ خفي أعد الله- هذا الإناء المختار لتتميم إرادة الله. وإذ حصل على إذن من بيلاطس باستلام جسد يسوع فأخذه بكل وقار وكما قال مرقس: "ووضعه في قبر كان منحوتاً في صخرة ودحرج حجراً على باب القبر. وكانت مريم المجدلية ومريم أم يوسى تنظران أين وضع". كانت مريم أمينة في تكريسها للمسيح أثناء حياته ووقت آلامه حتى النهاية وبعد موته أيضاً. كان حقاً هو حياتها، وعندما وضع حجر عظيم على باب القبر فإن الشمس نفسها قد غربت. لقد كان هو كنز قلبها الوحيد، حتى لو لم تراه بعد ذلك فقلبها الوحيد، حتى لو لم تراه بعد ذلك فإن العالم سيصبح لها برية قاحلة تحت قضاء الله. لقد كان فعلاً كل شيء لنفسها، وعندما كان القبر يتسلم هذا الجسد لم يعد لأي شيء في العالم له قيمة عندها. وبينما كانت الظلمة تلف روحها وبينما كان رجاؤها ينطفئ كانت عواطف قلبها لذاك الشخص الموضوع في القبر وهي عواطف إلهية لا يمكن إطفاءها، هذه التي هدأت كآبتها وصارت مصدراً إلهياً لها من النور والرجاء المستمر. إنها لم تعرف ما سيتم من خلاص ولم تكن تتوقع ذلك ولكنها أحبته ذاك الذي هو سيدها والذي كان هو كل شيء لله وللمجدلية أيضاً. لم يكن نوراً يطعم نفسها بل المحبة، ومريم أحبته أكثر ولذلك غفر لها أكثر. وهكذا دائماً كلما تعمق الإحساس بالحالة التي أنقذنا منها كلما غمرت عواطفنا بهذا المنقذ.
- عدد الزيارات: 5593