Skip to main content

مريم وسيدها المُقام

بعد دفن الجسد الكريم لربنا المبارك فإن مريم المجدلية مع رفقائها الذين أتين معه من الجليل ونظرن القبر وكيف وضع جسده (قارن 23: 55 و 56، مع مرقس 15: 47، 16: 1) "فرجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً وفي السبت استرحن حسب الوصية". ويتبين لنا بأكثر وضوح ثلاثة أشياء: أولاً محبتهم للمسيح. وثانياً أنه لم يكن لديهم أي توقع أو أمل بالقيامة وأخيراً تقواهم الذي نراه في خضوعهم لكلمة الله. لقد تاقوا أن يحضروا عطاياهم النابغة من محبتهم الملتهبة للرب لكي يطيبوا جسده الميت ولكن السبت قد جاء، وهؤلاء النسوة القديسات وبينهم مريم المجدلية وهي أكثرهن شهرة انتظرن بهدوء واسترحن طاعة للوصية قبل أن يحملن الدهن والأطياب لمسح الجسد المقدس لربنا المبارك. ولكن "بعدما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنه. وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس". أو كما يقول متى "وبعد السبت عند فجر أول أسبوع" أو كما يقول يوحنا "والظلام باق".

هذه الروايات جميعها ترينا تلك العواطف الجياشة من قلوب النسوة لمن عرفوه وتبعوه إذ كانوا قد ارتبطوا به بعرى لا تنفصم بفضل النعمة التي حظوها من يديه. ولذلك لم يكن هناك شيء أكثر غلاوة منه بحسب تقديره لكي يقدموه بسخاء لجسده المقدس، وهكذا بأقدام مشتاقة أسرعن في طريقهن في الصباح الباكر في أول الأسبوع دون أن يخطر على بالهن شيئاً غريباً ينتظرهن. وقد عبرن عن أول حيرتهن بالقول: "من يدحرج لنا الحجر عن فم القبر؟". وعندما تطلعن رأين أن الحجر قد دحرج لأنه كان عظيماً. وقبل أن نأتي إلى رواية يوحنا نلاحظ أن هناك شيئاً واحداً لم يذكر، ولكن يخبرنا مرقس أنه عندما اكتشفن أن الحجر قد دحرج فإن المجدلية مع مريم أم يعقوب وسالومة دخلن إلى القبر فرأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء فاندهشن. وللتو فإن الشاب ميز خوفهن فقال لهن "لا تندهشن" معلناً لهم حقيقة القيامة ثم يكلفهن بالذهاب إلى تلاميذه وإلى بطرس ليخبرنهم بهذه الأخبار السارة المباركة وبأن الرب سيسبقهم إلى الجليل، مضيفاً "هناك ترونه كما قال لكم". أما إلى أي مدى تممن هذه الإرسالية فلا نخبر بذلك. والشيء الوحيد الذي نتعلمه أنهم هربن من القبر لأن الرغبة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات.

ولأن المجدلية هي نفسها موضوع تأملنا فنحن نتناول الأحداث كما تصفها رواية يوحنا الجميلة لأن مريم هي الغرض أمام فكر الروح، جنباً إلى جنب مع التعليم الذي ينساب من اختباراتها في ذلك اليوم، والشيء الأول الذي يلفت انتباهنا أن مريم عندما نظرت الحجر مرفوعاً عن القبر ركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما: "أخذوا السيد من القبر وليس نعلم أين وضعوه".  كانت بلا نور ولكن كان أمام قلبها غرض واحد وكأنها فقدته في لحظة ولذلك امتلأت بحزن لا يوصف أو بالحري سكبت حزنها بلهجة مؤثرة والتي أظهرت بها خرابها التام – "أخذوا سيدي ولسنا نعلم أين وضعوه". لقد جرى بطرس والتلميذ الآخر مسرعين نحو القبر ليتحققوا لأنفسهم ما فهموه. كان بطرس بما يتميز بروح تواقة قد وصل أخيراً إلى المكان أما التلميذ الآخر فقد سبقه إلى القبر فنظر "الأكفان موضوعة والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان بل ملفوفاً في موضع وحده". كل شيء كان موضوعاً بترتيب وسلام ولكن أفكار بطرس لم تكن معلنة بعد مع أنه بالمباينة مع رفيقه أنه كان لا يزال في عدم الإيمان، أما التلميذ الآخر الذي جاء أولاً إلى القبر ودخل "رأى فآمن لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من بين الأموات". إن "التلميذ الآخر" آمن عندما رأى بالشهادة العيانية أن القبر فارغ. هذا الإيمان كان عديم الفائدة تماماً، فمع أنهم تعلموا أن القبر فارغ وأحد هذين التلميذين قَبِل البرهان على ذلك، لكنهم عادوا إلى بيتهم. صحيح أنهم كانوا يحبون الرب ولكن بيتهم لهم جاذبية، إذ كان ملجأ لهم في تلك اللحظة الرهيبة من تاريخ الفداء. وعندما نتكلم عن التلميذ الآخر نقول إن النظر أو البرهان العقلي دائماً بلا قوة، ومع أنه يرتبط دائماً بالحق ولكنه لا يقود إلى المسيح نفسه.

إن اختبار هذين التلميذين مُقدَّم لنا ليستحضر أمامنا بجلاء تام عظة تكريس المجدلية. ونتبين المفارقة بكل وضوح من هذه الكلمات: "أما مريم فكانت واقفة عن القبر خارجاً تبكي". فهي لم تسطع أن تعود إلى بيتها مثل التلميذين، إذ كان قلبها في حالة حرمان ووحيدة مع أنها كانت محصورة لتبقى في التي رأت فيه آخر مرة الجسد الكريم لسيدها. وكما كتب واحد فقال "بالنسبة لها وهي بدون يسوع أصبح العالم كله لا شيء وإنما قبر فارغ وان قلبها أكثر فراغاً فجلست عند القبر حيث كان الرب الذي أحبته...... لم تجد تعزيتها لأنه لم يعد بعد هناك". حقاً كانت لحظة مظلمة في تاريخ نفسها وتعلمت أن تكون أدبياً ميتة مع المسيح، ولكن المسيح المقام من الموت كانت عيناه مستقرتين عليها منتظراً اللحظة المناسبة ليمسح دموعها عندما يعلن نفسه لها. كانت هناك خطوة أخرى قبل نوالها البركة "وفيما هي تبكي انحنت إلى القبر فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعاً. فقالا لها يا امرأة لماذا تبكين؟ قالت لهما إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه". لاحظ كم كان قلبها مبتلعاً في سيدها. كان هناك فكر واحد، وفكر واحد فقط يستحوذ على نفسها أنها فقدت سيدها. لم تعد ترى أو تسمع شيئاً بخلافه فهي بدونه لا تمتلك شيئاً مطلقاً.وفضلاً عن ذلك فقد أحبته بصورة مكثفة، وبدا كما لو لم يكن يوجد على الأرض نظيرها لكي تمتلكه لنفسها تماماً. قالت للتلاميذ عنه "السيد" أما للملائكة فقالت عنه "سيدي". هذا هو طريق المحبة، إنها قوية كالموت والغيرة قاسية كالهاوية، وإذ تختم عليها وتمتلكها كغرض فإنها تستبعد كل ما عداها. محبة كهذه مياه كثيرة لا تطفئها والسيول لا تغمرها.

وكم شعر قلب الرب بالامتنان إزاء هذا الدلائل لعواطف مريم التي لم تمت والتي تضمنت بكل تأكيد إعجاباً لا يقاوم لقلبه. نعم لقد شعر بها وشاركها ألمها وحزنها وكان على استعداد أن يسكب عليها زيت الفرح عوض حزنها وثياب التسبيح عوضاً عن روح الأسى. ولذلك بعدما أجابت على سؤال الملائكة "التفت إلى الوراء فنظرت يسوع واقفاً ولم تعلم أنه يسوع". فكل مرغوبها الآن ولكنها كانت مستغرقة في أحزانها ومحصورة في أفكارها حتى أنها لم تعرف سيدها. إنها لا يقال عنها كما قيل عن تلميذي عمواس أنه أمسكت أعينهما عن معرفته، ولكنه لم تكن تعرف عن يسوع سوى أنه دفن وغير موجود في القبر. كانت كل مشاعرها مستغرقة تماماً حتى أنها لم تفكر في غير ذلك. كان يسوع واقفاً أمام عينيها ولم تعرف أنه يسوع. آه ياقارئي المحبوب فغالباً ما نكون نحهن في ظروف مشابهة في وسط مواقف الإحباط والفشل الكثير يقترب الرب إلى نفوسنا ولا نقدر أن نعرفه. وبدلاً من الترحيب به فإننا نشبه بالحري التلاميذ الذين لما رأوا يسوع ماشياً على البحر ظنوا أنهم رأوا خيالاً فصرخوا من الخوف. ولذلك يمكننا أ، نفهم لماذا لم تعرف مريم سيدها. وإن كانت لم تعرفه حقاً غير أنه كان يسعى باحثاً عن خروفه منادياً إياها باسمها وبالنعمة صارت مستعدة أ، تسمع وتتجاوب مع هذا الصوت المعروف جيداً لها.

تدخل يسوع وقال لها: "يا امرأة لماذا تبكين؟ من تطلبين؟". فإن كان سؤال الملائكة لها "لماذا تبكين؟" ولكن الرب يضيف إليه "من تطلبين؟" فهو بإمكانه أن يجيب على مرغوب قلب مريم أما الملائكة فليس بإمكانها أن تعلن غرض قلب مريم. ولكن كان هو الرب الذي يقف أمامها ولم تعرفه. إن المشغولية الكثيرة بأفكارنا تعميننا دائماً وتبقينا في عدم الإيمان وهكذا كان الأمر مع المجدلية. ظنته أنه البستاني فقالت له "يا سيد إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه". وما نلاحظه هنا أن مريم كانت مغمورة في غرضها حتى أنه لم يكن لديها أي احتمال بأن أحداً لا يعرف من الذي تبحث عنه.ويا له من استغراق مبارك! فليس هناك شخص آخر في كل العالم لقلبها وبالتالي فلا حاجة لها أن تقول عن من هو الذي تبحث عنه. لاحظ هنا أيضاً أنه ليس لديها صعوبة أن تحب فهي امرأة ضعيفة قالت "وأنا آخذة" أتعرف نحن جميعاً تلك العواطف القوية التي تربط النفس بيسوع بروابط شديدة لا تنفك وتجعلها راغبة في ذلك ومملؤة بالسرور لتحمل أي ثقل يتعين عليها.

هل من برهان عظيم يراه الرب في تكريس عبيده؟ لقد عرف قلبها ولكنه لم يسر بالتعبيرات التي تتولد عن محبته. إنه انتظر مريم لكي تعلن عن عمق محبتها قبلما يعلن عن نفسه ويحول حزنها إلى فرح. لقد جاءت تلك اللحظة وبكلمة واحدة إذ نطق باسمها فاستدعى النور نور حضرته الذي أشرق في ظلمة نفسها الحزينة. كان هو الراعي الصالح وكالراعي الصالح بذل نفسه عن الخراف، وأيضاً كالراعي الصالح يدعو خرافه الخاصة بأسماء ويخرجها: "فقال لها يسوع يا مريم". بكلمة واحدة تكلمها فقط أمكنه أن يصل باستقامة إلى قلبها طارداً كل ضباب الشكوك التي تجمعت فيها ومنقذاً إياها من أفكارها ومعلناً المسيح لها كالقائم من الأموات. فيا له من تغير قوي حدث في نفسها! كانت اللحظة التي سبقت امتلاءها بالتعزية عن حزنها – هذا الحزن الذي يمكن قياسه فقط بشدة محبتها له – والآن قد جفت دموعها عندما أعلن سيده نفسه لها.وهو إذ دعاها مخاطباً إياها فأنشأ فيها تجاوباً سريعاً: "فالتفتت تلك وقالت له ربوني (الذي تفسيره يا معلم)".هذا النداء الإلهي متى عرف فإنه يتضمن معه إعلان الشخص الذي ينادي وسلطانه الإلهي. عندما رأى يسوع سمعان الملقب بطرس وأخاه أندراوس  يلقون الشباك في البحر دعاهما فللوقت تركا الشباك وتبعاه.فذاك الذي دعاهما كما في حالة مريم المجدلية ألقى عليهم محبته التي تحصر فلم يتمكنا غير أن يتبعاه. إنها لحظة مباركة متى وصلت دعوة يسوع إلى القلب.

  • عدد الزيارات: 2968