مريم وموت لعازر
(يوحنا 11)
لا نجد في إنجيل لوقا ذكراً آخر لمريم ومرثا، بل في إنجيل يوحنا فقط نتعلم أنه كان لهما أخ وأنه كان واحداً من هذه العائلة ذات الامتياز الهائل في بيت عنيا. ويتضح لنا من عدد 5 حيث قيل "وكان يسوع يحب مرثا وأختها ولعازر". وفي عدد 1 قيل "وكان إنسان مريضاً وهو لعازر من بيت عنيا من قرية مريم ومرثا أختها". فنجد أن هؤلاء الثلاثة مرتبطون معاً في عدد 5 باعتبارهم غرضاً لمحبة الرب. ويتبين لنا أن نفهم مجموعون معاً كما نرى في حزن الأختين في مشهد الموت والمحبة المتبادلة بينهم وبذلك نصل إلى النتيجة أن يُكونون عائلة واحدة وبيتاً واحداًَ. ويلاحظ أن التعليم الرمزي لهذا الإصحاح الذي يدور أساساً حول لعازر إنما يشير إلى إسرائيل في يوم قادم كما يعلم دانيال "وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون" وهو يشير بذلك إلى القيامة الأدبية للبقية من إسرائيل في مستقبل الأيام، والتي نرى في إصحاحنا هذا أن لعازر رمز له. وإن كنا لا نريد أن ندخل في هذه النقطة لأن موضوع بحثنا أساساً هو مريم أخت لعازر. وما أردنا أن نوضحه مرثا ومريم لعازر مرتبطون معاً في هذه الرواية ولذلك كان من الضروري أن نتأمل مريم في علاقات القربى التي وجدت فيها وكيف ظهرت صفاتها في تلك الظروف التي ألمت بها.
وقبل لأن يتناول الوحي سرد هذه الحادثة، فإن شهرة مريم بحسب فكر الروح ترد في (عدد 2) من الإصحاح "وكانت مريم التي كان لعازر أخوها مريضاً هي التي دهنت الرب بطيب ومسحت رجليه بشعرها". هذا العمل الذي قامت به يشهد للمحبة، وقد قبل الله هذا العمل حتى أن شذاه باق بعد مرور ستين عاماً منها على حدوثه – أمام عرشه. وبعد هذه الجملة المؤثرة ذات الأريج العطري والتي تأتي كجملة اعتراضية، تبدأ الرواية بأن أرسلت الأختان إلى يسوع قائلتين "يا سيد هوذا الذي تحبه مريض". ومن الواضح أنه لم يكن مرضاً عادياً ولكنه حرك قلبي مريم وأختها بهواجس منذرة للموت. ولكنهما لم يكونا بلا مصدر يُعوِّل عليه إذ عرفاه فهو الذي يخرج الشياطين بكلمة ويشفي جميع المرضى وكيفما كانت أشد الخطوب فإنهم يلجؤون إليه. وكان طلبهما تعبيراً عن انحصارهما في الأسى. وهذا ما يحدث غالباً مع شعب الله ومع العائلات إذ ترفع توسلات متحدة مفعمة بأغنى البركات مع استناد تام عليه وهكذا تحفظ هذه الطلبات أمام الله وهم في انتظار ولهفة للاستجابة. وفي الحالة التي أمامنا نجد أن استجابة الصلاة قد تأخرت، وهذا التأخير كان بغرض أن يأتي ببركة أعمق وهذا ما أوضحه الرب عندما قال"هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله ليتمجد ابن الله به" (ع 4). هذه الكلمات تعطينا المفتاح لفهم هذه الجملة لما فيها من سر في عدد 6 "فلما سمع (يسوع) أنه مريض مكث حينئذ في الموضع الذي كان فيه يومين".
ربما نتجاسر فنقول أنه كانت هناك ثلاثة أسباب لإبطاء الرب في استجابته لطلب الأختين: الأولى وتتضمن ما جاء في الكتاب في (ع 4) فهل ذهب الرب ليشفي لعازر؟ كلا إذ أن الله كان يريد شهادة قوية عن شخص ابنه المحبوب بالقيامة ولذلك فإن الرب لم يتدخل حتى مات لعازر. ولذلك عندما دعا الرب لعازر ليخرج من القبر كان يسعى بهذا الأساس لمجد الله، وكان ذلك شهادة علنية أن يسوع هو ابن الله بجهة من قوة روح القداسة بالقيامة من الأموات. والسبب الثاني نجده في المركز الذي اتخذه الرب مع كونه هو الابن الذي كان يشغله في هذا الإنجيل بوجه خاص. فهو لم يتكلم شيئاً أو يعمل أمراً إلا بحسب إرادة أبيه (يوحنا 5: 19، 12: 49، 14: 10). ولذلك بقي في الموضع الذي كان فيه إلى أن جاءته إرادة أبيه بأن يذهب إلى بيت عنيا. ومع أنع كان يحب كثيراً هاتين الأختين المتألمين ولكن لم يكن محكوماً بعواطفه بل بإرادة أبيه التي ظلت دائماً له وفي كل وقت يتجاوب معها وفي هذا ظهر كماله العجيب. السبب الأخير فمما لاشك فيه أن هذا التأخير استخدمه الله لتدريب قلبي الأختين وإعدادهما، كل منهما حسب طاقتهما، لضياء مجد الله (انظر ع 40). اللتين تطلعا بها لقيامة أخيهما. هذه إحدى أسرار طرق الرب مع شعبه. لقد صرخا إليه ولكنه بدا لهما كما لو أنه لم يسمع، والواقع أنه سمع على الرغم من أنه لم يأت بالعون والإجابة في الحال، لأنه يريد في المقام الأول أن يدرب النفس ويستحضرها إلى الحالة التي تتفق مع البركة المزمع أن يمنحها. ولابد أن نعترف جميعنا بكل يقين بأن طريقه كامل، ونحتاج بأن نعرف محبته كذلك، فنستريح فيه بثقة لا تهتز في كل الظروف.
وإذا نعبر الآن على النقطة التعليمية التي أراد الرب أن يعلمها لتلاميذه بالارتباط مع موت لعازر واهتمامه من أجلهم لكي يثبتوا في الإيمان (ع 7 - 16) نأتي بعد ذلك إلى ما نقرأه إذ لما أتى يسوع إلى بيت عنيا وجد أن لعازر له أربعة أيام في القبر. عندما أقام ابنة يايرس كانت لتوها قد ماتت، وأما ابن أرملة نايين فقد كان محمولاً لكي يدفن عندما التقاه الرب ورد الحياة له. أما في حالة لعازر فقد امتلك الموت ضحيته لمدة أربعة أيام وذلك لاستعلان قوة الله بوضوح في قيامته. كما أن هناك عدداً من اليهود الذين أتوا من أورشليم ليعززا مرثا ومريم في أخيهما وكان هؤلاء شهود عيان لقوة يسوع في إقامة الموتى.
ونأتي هنا مرة أخرى إلى ملاحظة تلفت انتباهنا وهي المفارقة بين مرثا ومريم. فحالما سمعت مرثا أن يسوع آتٍ ذهبت ولاقته. أما مريم فاستمرت جالسة في البيت. عن هذه التدريبات التي اجتازت نفسيهما فيها بينما كانت في انتظار لإجابة الرب لطلبيهما، لا يمكن أن نصف هذه التدريبات في كلمات، بل يمكننا أن نميز بكل يقين نتائجها في المسالك المتباينة لكلتيهما. ففما لاشك فيه أن مرثا قد جربت مثل مريم وقد استخدمت كل منهما ذات الكلمات (ع 21 و 32) وعندما تواجها في حضرة الرب كشفا عن حيرتهما لتأخير الرب وتكلما معاً في هذه النقطة وقد أظهر كل خضوع ممزوج بالحيرة والحزن أما مرثا إلى الغاية المباركة من التجربة فلم تزل تصف بالتسرع بل وأيضاً بقلة الصبر. أما مريم من الجهة الأخرى فقد تعلمت درسها ولذلك أمكنها أن تنتظر بهدوء دعوة ربها. لم يكن حزنها قد عبر لأن روابطها الأرضية الغالية قد كسرت ومن المناسب لها أن تشعر بما حرمت منه، ولكن حزنها يستضيء الآن باليقين التام في الرب، فمن ثم أمكنها أن تجلس هادئة في البيت بينما كانت مرثا بتشوقها المتعجل وغير الصابر قد ذهبت لملاقاته. لا شك أنهما كانتا مختلفتين تماماً في صفاتهما وسيبقى كذلك كل منهما حتى النهاية إناء مختلفاً جد الاختلاف ولكن ليس هذا هو سبب المفارقة في التدريب وهو ما نتحدث عنه الآن بل بالحري لأن مريم كانت قد جلست عند قدمي يسوع تسمع كلامه بينما كانت مرثا مرتبكة بخدمة كثيرة. ولذلك فإن مريم تعلمت أكثر من مرثا قلب ربها.
إن ربنا في نعمته وهو يتعامل مع مرثا لا يمكنه أن يتجاهل حالتها. كانت مرثا قد ذهبت ولاقته ومن الواضح أنها لم تتوقف لحظة للتفكير فيما يجب أن تقوله ولكنها أظهرت اندفاعها وعدم صبرها وبكلمات الملامة التي لم تستطيع أن تخفيها قالت: "يا سيد لو كنت هاهنا لم يمت أخي". من جهة كان هذا صحيحاً فالموت لا يمكنه أن يسيطر على ضحيته في حضرة ربنا المبارك، ولكن نلاحظ من جهة أخرى أن شفتي مرثا نطقت بأقوال صحيحة ولكنها كانت تعبيراً عن شواها بأن الرب لم يحضر لديهم قبل موت أخيها. هذا بالإضافة إلى أن تعبيرها يدلل بوضوح على حالة نفسها إذ تجاسرت في قولها وهي تجهل حقيقة صفات الشخص الذي تتكلم إليه كما نرى تفكيرها من نحو الرب بما سيفعله "لكني الآن أيضاً أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه". كان لديها إيمان بأن الرب يمتلك قوة من الله كنبي كما كان أليشع قبلاً. ومن الواضح أنه لم يكن لديها إدراك بأنها تقف أمام ابن الله على الرغم من أنها قبلته كمسيح الله.وكم من لطف يُظهره الرب في تعاملها مع إيمانها الضعيف والناقص وكم من شفقة إذ يتنازل ويحدودب إلى حالتها هذه التي وجدها فيها ليقودها إلى الحق المختص بشخصه إذ فيه القيامة والحياة فيقول لها "سيقوم أخوك"، فأجابت مرثا "أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير". فقد كانت مرثا تؤمن مثل أي يهودي تقي بأنه "في اليوم الأخير" ستكون قيامة للأبرار. ويعلن الرب لها ومن خلالها إلى كل شعبه "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد". ويا له من إعلان مبارك عن قرب زوال قضاء الموت الواقع على شعبه وكذلك الحياة بقيامته – ذاك الذي سيحمل الدينونة، وهو كالقائم سيهب الحياة لكل المؤمنين. ثم يقول لمرثا كلمة أخرى "أتؤمنين بهذا؟" أجابت "نعم يا سيد. أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم" هذا هو المسيا كما جاء في تعليم مزمور 2.
وإذا نطقت مرثا باعتراف الإيمان الحقيقي هذا مع أنها قد فشلت إلى حد بعيد في إدراك الشهادة التي سمعتها، وإذا شعرت أنها لم تفهم كلمات الرب وأن مريم أختها يمكنها أن تخل إلى فهم هذه المعاني، "مضت ودعت مريم أختها سراً قائلة المعلم قد حضر وهو يدعوك".ومرة أخرى نجد أمامنا مريم، ولا أحد يشك أنه وإن كانت مرثا لم تتلق دعوة مباشرة بدعوة أختها غير أنه كان لديها فكر الرب في هذا. ونجد الحالة التي كانت عليها مريم في تجاوبها لكلمات مرثا: "أما تلك فلما سمعت قامت سريعاً وجاءت إليه". إنها المحبة التي أجبرتها ودفعتها إلى الطاعة السريعة. كانت قد جلست هادئة في البيت منتظرة أن يدعوها وعندما أتتها دعوته أسرعت متجاوبة معه. إن الانتظار أمام الرب هو المعنى المؤكد لمؤهلات طاعتنا لدعوته. ويا لها من راحة لقلبها المثقل تجدها عند الإتيان إليه. وقبل أن نعطى خصائص هذا الاجتماع، يتوقف روح الله ليرينا ملاحظتين أولاً أن يسوع لم يكن قد جاء إلى القرية بل كان في المكان الذي لاقته فيه مرثا، وثانياً أن اليهود الذين كانوا مع مريم في البيت، لما رأوا مريم تقوم عاجلاً وتخرج فإنهم تبعوها قائلين "إنها تذهب إلى القبر لتبكي هناك". كان كل شيء يرتب ترتيباً إلهياً وشهود العيان لقوة يسوع قد أعدهم الله، إذ كان الله قاصداً أن يقيم شهادة فعالة لابنه المحبوب.
ونلاحظ أن الصفة التي تقترب بها مريم إلى سيدها وبأي كلمات مؤثرة تخاطبه: "فمريم لما أتت حيث كان يسوع ورأته خرّت عند رجليه قائلة له يا سيد لو كنت هاهنا لم يمت أخي". إن كل كلمة في هذا الوصف له معنى. عندما ذهبت مرثا ولاقت الرب خاطبته في الحال. أما مريم فنجد شيئين قبل أن تعبر عن حزن قلبها. فعندما واجهت مريم حضرته. لما رأته خرّت عند رجليه ونطقت شفتاها بمشاعرها المحبوسة. بل يبدو أن مريم خرت عند رجليه بعدما شخصت في وجهه. كانت تعرف عن سيدها أكثر من أختها وفي محبة متجاوبة وسريعة أمكنها أن تقرأ في وجهه ما لم تستطيع مرثا أن تدركه. فما الذي رأته؟ تعبيرات قلب منحنى تحت الحزن وضاغط على روحه، الحزن بسبب قضاء الموت الذي كان حتى تلك اللحظة واقعاً على كل ما يحيطه وكذلك تعبير مشاركته العميقة مع أولئك الذين أحبهم في ساعة تجربتهم المرة. هل رأت أكثر من ذلك؟ لا نعرف ومن المؤكد أنه كان "سيظهر مجده" (يوحنا 2: 11)، تعلموا كثيراً فكره. ونحن لا نعرف وإن كنا متيقنين أن ما رأته مريم في ذلك الوجه من العطف والحزن والمحبة جعلها تخر عند قدميه. كان هذا اتجاهها ولقد سكبت نفس كلمات مرثا التي غلفتها بمعاني مختلفة تماماً. ولربما في حالتها هذه كانت الحيرة تأخذها ولكن من المؤكد لا نجد في كلماتها الشكوى ولا تتضمن التعبير بل بالحري كان اعتراف قلبها أنه لو كان موجوداً في بيت عنيا ما مات أخاها. لم تقل أكثر من ذلك، فقد كان حزنها عظيماً ولكنها وثقت فيه ثقة مطلقة. آه إنه شيء مبارك أن نكون عند قدمي يسوع في أحزاننا لكي يضيء النور الإلهي على تلك الأحزان ومهما اجتزنا من ألم وضغوط وتجارب فإننا لن نشك في محبته.
وأما من جهة الرب فقد تبع ذلك أمران عجيبان يفوقا إدراكنا ولا بد أن نعيهما – فقد كانت دموع مريم ودموع اليهود الذين أتوا معها، إذ قيل بصراحة "فلما رآها يسوع تبكي واليهود الذين جاءوا معها يبكون انزعج بالروح واضطرب" هذا هو الأمر الأول وبالتأكيد فإنه يُسمح لنا أن نسأل ما الذي حرك الانزعاج من داخل نفس الرب فجعله يضطرب؟ وبدون مجادلة فإن المدلول الحقيقي لقوة هذا التعبير "انزعج" يعني على الأقل كونه "تحرك بعمق" أو "تأوه" أو "أنّ" وهذا بسبب اجتياز روحه لحمل الحزن الثقيل الموضوع على قلب مريم وعلى قلوب المحيطين بها. لقد دخل إلى أحزانهم بواسطة مشاركته لبيتهم فوحد نفسه بتلك الأحزان ووضعها على كتفيه فشعر بحملها الثقيل للغاية إذ كان يدرك إدراكاً كاملاً أسبابها كما كان يقدر صفتها الحقيقية أمام الله – هذا ما انتزع منه الأنين.ولنتذكر أن جوهر هذا الأنين هو الموت – إذ كان الموت حتى ذلك الوقت موضوعاً على قلوب النادبين وعلى المشهد برمته. ولكن الموت هو قضاء الله على الإنسان وبالتالي نقول أن الرب في هذا المشهد كان يتوقع مسبقاً موته على الصليب، ولكنه هنا فقط يأخذ حمل هذا القضاء بعواطفه ومشاركته بينما على الصليب حملها لمجد الله بتتميم الكفارة عن الخطية. كم هو ثمين أن يكون الرب لقلوبنا عندما نجده يظهر هذه المحبة والمشاركة لخاصته في محنتهم وأحزانهم وكما نتعلم من جديد أنه في كل ضيقهم تضايق.
كانت أفكاره وهو مضطرب بالروح تتجه نحو لعازر وهو في القبر، وللتو قال: "أين وضعتموه؟ قالوا له يا سيد تعال وانظر" ونأتي هنا إلى الأمر الثاني الذي نلاحظه بكل احترام: بكى يسوع إننا لا نحتاج لكلمات نؤكد بها اندهاشنا لهذه الجملة الملفتة للنظر. وإذ نلاحظها ونتأمل فيها في حضرة الله فإن قلوبنا تسكب تشكراتها إذ سمح لنا أن نشهد هذا البرهان الثمين لربنا المبارك في مشاركته التي لا توصف. وجميعنا يعرف أن ترتيب الأعداد مجرد أيدي بشرية رتبته ولكن من منا يشك أن روح الله كان قد قاد من وضع هاتين الكلمتين في عدد واحد! إنها تقف وحدها هكذا لتكشف لنا مكاناً في داخل أغوار قلب الرب. إنها مصدر تعزية لكل النائحين في كل العصور. ولا تزال تخدم شعبه بالتعزية والسلوان حتى يمسح الله بنفسه كل دمعة من عيونهم. ونضيف هنا بأن دموعه تعبير عن مشاركته هذه التي نبعت من قلبه ذات المحبة التي لا تدرك ولا تنطفئ.
ويلفت نظرنا أن مريم لا نراها بعد ذلك في هذه الرواية. فبعدما حزن قلبها عند قدمي يسوع تختفي من المشهد. ولكنها كانت هناك ورأت دموعه بلا شك نقرأ "فانزعج يسوع أيضاً في نفسه" ثم "جاء إلى القبر" ولابد أن مريم كانت في رفقته. ويُسمح لنا في هذا الصدد أن نجد شيئاً أو أكثر بخصوصها، فكوننا لا نرى مريم بعد ذلك بقية الإصحاح يجعلنا نستنتج بأن تدريباتها قد وصلت إلى غايتها عند قدمي يسوع، وهذا معناه أنها لابد أنها نالت تعزيتها من خلال دموعه، ثم أنها في رفقته إلى القبر لابد أنها اختبرت مؤازرة حضوره. والآن إذ كان كل شيء في يديه – أي كل ما ارتبط بأمر لعازر – نقول بالتأكيد أنه أمكنها أن تستريح في محبته بدون خوف أو ألم، وعرفت الآن أنه سيفعل أفضل شيء ممكن على الرغم من أن إيمانها لم يصل بعد، كما أظن، إلى إقامته من الموت. ولذلك فإن السحب التي كانت قد تجمعت على نفسها قد انقشعت – مثل الضباب أمام الشمس المشرقة، ولذلك سارت إلى القبر في رفقة سيدها الذي هو فوق قوة الموت وما وراء ذلك وبنفس هادئة مع تلك الرفقة الحزينة وفضلاً عن ذلك فإن غرض روح الله من هذه النقطة ليس مرثا أو مريم ولكن مجد اله والشهادة لمجد شخص يسوع باعتباره ابن لله.
ومرة أخرى تدخل مرثا المشهد عندما انزعج يسوع أيضاً بالروح في نفسه وجاء إلى القبر "وكان مغارة وقد وُضع عليه حجر" وقال: "ارفعوا الحجر". وللتو بدلاً من أن تأخذ مرثا موقف الرهبة والخشوع في صمت وتوقع فإنها تندفع وتقول: "يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام" إنها مرثا الفقيرة! إنها تخاطر لتصحح سيدها إذ تحكم بحسب مرأى عينيها. ولكن الرب بكل هدوء وجدية ينتهر حماقتها ويجيبها "ألم أقل لك إن آمنت ترينا مجد الله". ثم رُفع الحجر وأصبح الكل مستعدً لتقبل إعلان هذا المجد. ولكن أولاً يمجد أباه في كل ما فعل، ويرفع يسوع عينيه ويقول "أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي. ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني" إنه يعطي المجد لله وفي ذات الوقت يتوق لأجل النفوس المحيطة لكي يقبلوه ذلك المرسل من الآب – وهذه هي الشهادة المؤثرة التي كانوا بصدد رؤيتها. "ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم لعازر هلم خارجاً فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطتان بأقمتة ووجه ملفوف بمنديل فقال لهم يسوع حلوه ودعوه يذهب".
من الواضح في هذا المشهد أن يسوع المرسل من الآب للعالم هو ابن الله. لا نقرأ شيئاً أكثر عن مريم ومرثا في هذا الفصل ولكن من الأجزاء التالية بعد ذلك أن غرض الرب من التجربة قد تحقق تماماً وأن الأختان أدركا هذا التعليم الإلهي مما اختبرتا وشاهدتا إذ صار الرب لمريم أكثر من ذي قبل إذ كانت قد أدركت جداً أمجاد شخصه الذي هو نصيب قلبه المبارك. أما ارتباك مرثا وحيرتها فقد استبعدتا بما نالته من إعلان جديد لنفسها وصارت بعد ذلك خادمة هادئة مكرسة له.
- عدد الزيارات: 5580