Skip to main content

مريم من بيت عنيا

إن كانت مريم أم ربنا مباركة بين النساء وقد اختيرت كإناء لتقديم المسيح إلى العالم، فإن مريم من بيت عنيا غالباً ما شغلت مكاناً مفضلاً مساوياً لها. وقد كانت واحدة من هذا البيت المعروف جيداً الذي يضم ثلاثة أفراد، والذي قيل عنه "وكان يسوع يحب مرثا وأختها مريم ولعازر". وأحياناً ما كان الرب يخلد إلى الاعتزال والراحة ويطلب شيئاً من الإنعاش لنفسه وسط هؤلاء التلاميذ  المحبوبين لديه. إنهم أحبوه لأنهم أحبهم أولاً وكانت عواطفهم في عفويتها وتكريسها تبهج قلبه وسط الظلمة العميقة لرفضه. وبين هؤلاء الثلاثة كانت مريم وهي أكثرهم مقدرة للتجاوب مع فكره كما كانت لها شركة مع أفكاره. وهذا بالتأكيد صحيح من جهتها إذا قورنت مع مرثا. وليس من شك أن يقال أنها تفوقت على لعازر في عينها البسيطة وفي تكريسها للرب، ومع أن ما قيل عنه كان قليلاً. ولكن سواء مريم أو مرثا أو لعازر فالكل بالنعمة، وفي فشل مرثا وفي تفوق مريم إنما تقدم لنا دروساً ثمينة ليتعلم شعب الله ويتحذر وينقاد في كل العصور. وإن كنا بصفة خاصة نسجل هذه التأملات عن مريم، غير أنها بالضرورة مرتبطة بأختها وبأخيها، حتى يكون هناك التقدير الصحيح لهذه الشخصية الروحية المتميزة. إنها ذُكرت بالاسم فقط في (لوقا 10 و يوحنا 11 و 12).  أما متى ومرقس فيحفظان كلاهما رواية دهن الرب بالطيب الكثير الثمن في ليلة اعتقاله وموته.

في لوقا 10 نلاحظ مريم التي تميز بأسلوب بسيط جداً. وللحال بعدما يرد مثل السامري الصالح نقرأ: "وفيما هم سائرون دخل قرية فقبلته امرأة اسمها مرثا في بيتها وكانت لهذه أخت تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه" (ع 38 و 39). وقبل أن ندخل إلى معنى هذا الاتجاه عند مريم، هناك كلمة تقال بالارتباط بهذه الرواية. فإن السامري الصالح ضمد جراح الرجل الذي وجده بين حي وميت وصب عليه الزيت والخمر وأركبه على دابته وأتى به إلى فندق وقدم له كل ما هو ضروري له حتى يعود. ونتعلم الآن من مشغولية مريم ما هي الخدمة الساهرة للنفس المخلصة في الفترة الفاصلة الآن (قبل مجيئه) فإن سماع كلمة يسوع هي بالحق النصيب الصالح الذي لن ينزع.

ونجد التباين واضحاً للطريقة التي تتعامل بها الأختان. فمرثا قبلت يسوع في بيتها "وكانت لهذه أخت (أيضاً) تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه". وفي كلمة "أيضاً" نجد التباين. فمرثا كانت هي الأخت الكبرى، وقيل أنه "بيتها". ولا يمكننا أن نشك لحظة في كون مريم ربطت نفسها بمرثا من جهة قبولها للرب. فإن كان الأمر كذلك فإن كلمة "أيضاً" نجد قوتها والتي تعني ليس أن مريم قبلته فحسب بل أنها جلست كذلك عند قدمي يسوع تسمع كلامه. هنا نرى نعين من النفوس – الذين قبلوا الرب كالمخلص وهم يخدمون الرب بالطريقة التي يظنون أنها الأحسن. ونوع آخر وهم الذين بعدما قبلوه يصرون برغبة قلوبهم أن يتعلموا فكرة وأن يندمجوا معه مثل داود فكانت رغبته أن ينظر إلى جمال الرب ويتفرس في هيكله ولذل فإنهم يستمتعون بالرب وهو أيضاً يمنحهم أشواق قلوبهم. إنه شيء مفيد لنا إن كنا نجتهد في توضيح عمل مريم الذي يوصف هنا.

فأولاً جلست عند قدمي يسوع. والكلمة التي تحمل لنا هذا المعنى قوية – ويبدو أنها ترينا عادتها عندما تتوفر لها الفرصة. ويلفت انتباهنا قبل كل شيء جلوسها. وقيل عن كانت به الشياطين بعدما خرجت أن وجده الناس جالساً عند قدمي يسوع ولابساً وعاقلاً. ولذلك نرى في اتجاهها هذا ما يدل على أن حيرة نفسها قد استقرت – وبلغة التفسير المسيحي أنه صار لها سلام مع الله بربنا يسوع المسيح وأنها تحررت من قوة الشيطان ومن كل ما يعمله الشيطان ليجعل النفوس في حالة العبودية. ولذلك فإذا فرغت من نفسها بالحرية التي نالتها بواسطة قوة الروح القدس فإنها تحررت من كل شيء لتنشغل بالرب وحده. إننا لا ندعي أن مريم قد دخلت إلى التمتع بهذه البركات بمعناها المسيحي الكامل ولكن كان لها المسيح نفسه وبالتالي كان لها كل شيء. ولذلك كان قلبها مستريحاً وكان لها شبع فائض، والذي كانت تجلس عند قدميه كان لها كل شيء. وأمكن لها أن تقول بقلب فائض "أنا لحبيبي واشتياقه إليّ".

شيء آخر كان اتجاهها يتضمنه فالجلوس عند قدميه يعلن أنها صارت تلميذة له. ولذلك إذ يتحدث بولس إلى اليهود في أورشليم مذكراً إياهم بأنه تربى في هذه المدينة "مؤدباً عند رجلي عمالائيل بحسب تحقيق الناموس الأبوي" (أعمال 22). وكما قلنا قبلاً ليس جميع المؤمنين صاروا تلاميذ وعلينا هنا أن نعرف مركز مريم جيداً. إنها تضيف لنا معنى إذا فضلنا قراءة الكثيرين للنص "عند قدمي الرب". ومن الملاحظ أن روح الله يلفت انتباهنا في هذه الرواية إلى مطالب يسوع كرب، إذ يعطينا مثالاً بها إذ كانت كل نفسها تعترف به، وإذ جلست عند قدميه اعترفت به بهذا اللقب المتفوق والمطلق. إنها لحظة مباركة لأي نفس متى وصلت إلى هذه النقطة، عندما يجلس على عرش القلب ويسود. وعندما تصبح إرادته هي الناموس الوحيد لحياتنا اليومية إذ نفهم كلمته: "من يحبني يحفظ كلمتي".

ولكن مريم كانت جالسة عند قدمي الرب تسمع كلامه. هذا هو الشيء الوحيد الذي سر الرب به وكان قد صرخ مرة تلو الأخرى "من له أذن للسمع فليسمع" (انظر أيضاً رؤيا 2 و 3). وهو قد وجد تلك التي نالت نعمة الأذن السامعة والتي أعد قلبها للشركة الإلهية التي أعدها. قال في حديثه لتلاميذه "لا أعود أسميكم عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يفعل سيده ولكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (يوحنا 15: 15). وهذا سيساعدنا في فهم طبيعة أقواله لمريم. وكم كان سرور الرب بأن يمنح هذه الأشياء السماوية لمن كانت النعمة قد أعدتها لتتعلم، بين قلوب غليظة وآذان ثقيلة السمع وعيون لا ترى كانت تحيط به من كل جانب. ولكن كم كان منعشاً لنفسه بما لا ينطق به لقاؤه مع هذه النفس التواقة لتسمع كلامه! وكم كانت من جانبها تتجاوب في خوف مقدس وفرح وهي تصغي متكلماً إليها عن أموره وأمور أبيه. فالآب الذي أرسله أعطاه وصية فبماذا يقول وبماذا يتكلم (يوحنا 12: 49). إنه امتياز لا يوصف لمريم أن تصغي إلى الرسالة التي سلمها الآب إلى ابنه (قارن أشعياء1: 4).

وفضلاً عن ذلك فإن الكلمة التي تكلم بها كانت إعلاناً عن نفسه، فعندما قال اليهود "من أنت؟" أجاب أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً به، وهذا معناه أن كلماته تُعبر عن نفسه تماماً. ولكن علينا أن نتذكر أن الآب أعلن فيه وبواسطته، بكلماته وبأعماله. كما قال لفيلبس الذي رآني فقد رأى الآب. ونحن لا نفترض بأن مريم فهمت كل هذا لأن الروح لم يكن قد أُعطِي بعد لأن يسوع لم يكون قد مجد بعد. وعلى كل فإننا الآن نكون أكثر إدراكاً لما تتضمنه الأقوال التي كان يتكلم بها، وكم كانت البركة غنية لمريم إذ سمح لها أن تجلس عند قدمي الرب ونحن أنفسنا نتشجع حسناً في إتباع المثال الذي اتخذته. فإذا فعلنا ذلك فإننا سنسر قلبه ونجد أنفسنا في مكان البركة التي لا ينطق بها ولا يسبر غورها. لقد تبرهن لنا أن هذا هو سر نمو كل روحي والسرور بالرب نفسه وبالأمور السماوية.

وإذا تأملنا للحظة أن ما أحدثته مرثا من اضطراب فإنما سيعزز تقديرنا لتقدير الرب لمشغولية مريم به. كانت مرثا مرتبكة في خدمة كثيرة، وخدمة بطريقتها الخاصة، إذ فكرت بالأسلوب الذي يوافق نفسها باعتبارها مُضيّفة لغريب. أرادت أن تعطيه أكثر مما تأخذ منه، أرادت أن تكرمه بحسب أفكارها عن واجبات الضيافة. وبالتالي لم تكن مسرورة بأن مريم لم تساعدها في هذه الخدمة. ولذلك جاءت وقالت "يا رب أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها أن تعينني". إن الرب كان يحب مرثا كما نعلم، ونحن متأكدين أنها كانت تحب الرب. وما لم تكن عندها هذه المحبة ما أمكنها أن تخاطر للتكلم إليه بهذه الطريقة الحادة بل والمستبدة. تفكر في هذا يا قارئي أن رب الحياة والمجد جلس في هذا البيت بيت عنيا كإنسان غريب، وفي تنازله اللانهائي ونعمته سمح لمرثا أن تتكلم له بهذه الكلمات وأن تتوقع منه أن يجلس صامتاً في الغرفة لكي يرضيها! كلا بل إنه سمح لها أن تعاتبه لأنه ترك مريم عند قدميه. ولكن كم فاضت إجابته بالمحبة اللانهائية والنعمة لكي يفتح عيني مرثا إلى ما يقوله: "مرثا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها".

ونحتاج أن نلفت في هذا المشهد إلى شيء آخر، فكلمات الرب توضح نفسها. فكلمة "أمور كثيرة" تؤخذ في مكانها وفي وقتها فإذا طبقناها على أنفسنا فإنها لا تجعلنا نضطرب أو نهتم ولكن النقطة هنا أن مريم اختارت النصيب الصالح – هذا النصيب هو جلوسها عند قدمي الرب وسماع كلمته. فما نالته في ذلك اليوم كان أبدياً في صفته ولا يمكن أن ينزع منها. وبالنسبة لمرثا فإن بزوغ يوم جديد وما يحمله من مشاغل كثيرة يملأ ذهنها كان يتكرر مع بداية كل يوم. أما مريم كانت تستيقظ وفي داخل نفسها أفكار السماء لأن المسيح يملأ قلبها. وطريق مستقبلها يتلألأ بحضرته وبالتمتع بمحبته وهي تواجه مسؤولياتها اليومية بأفضل صورة وبالأكثر بحسب الله إذ تقبلها من يدي الرب. وباسمه تتمم مسؤولياتها بينما يفيض قلبها بالشكر لله. إن مرثا هي بلا شك صورة لفئة كبيرة من المؤمنين ولكن دعونا ألا ننسى أن الرب وضع ختم المصادقة على النصيب الصالح الذي اختارته مريم وكذلك كل الذين ينهجون خطواتها.

  • عدد الزيارات: 5168