Skip to main content

الفصل الثالث: وظائف المسيح الرسمية الثلاث - أولاً: المسيح النبي

الصفحة 2 من 4: أولاً: المسيح النبي

أولاً: المسيح النبي

إن وظيفة المسيح النبوية كانت ضمن الخواص المميزة للمسيّا الذي تنبّأت عنه أسفار العهد القديم. والواقع أن النبوة الواردة بهذا الشأن كانت إحدى النبوات الواردة في الوحي الإلهي عن مجيء المسيح وقد جاءت على لسان النبي موسى: "يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك، من أخوتك مثلي. له تسمعون" (سفر التثنية 18: 15)، أما في العهد الجديد فقد أشار الرسول بطرس ضمن إحدى مواعظه العامة مشيراً إلى هذه النبوّة ومطبّقاً إياها على المسيح: "موسى قال للآباء أن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من أخوتكم. له تسمعون في كل ما يكلّمكم به". (أعمال الرسل 3: 22).

إن وظيفة النبوّة في الكتاب المقدس تختص بأولئك الذين تكلّموا للبشر بالنيابة عن الله. من الطبيعي أن يكون المسيح ذا مكانة خاصة ضمن دائرة أنبياء الله. والواقع أن هذا أمر حيوي بالنسبة لمهمة المسيح التي جاء إلى عالم البشر لتنفيذها. العديد من الأنبياء الحقيقيين كانوا قد سبقوا مجيء المسيح وجميعهم تكلّموا بكلام الله للشعب، لكن ما أوحى الله لهم به كان ذا طبيعة تمهيدية وغير مكتملة. لقد كانوا جميعاً يرمزون للمسيح النبي الأعظم الذي كانوا قد أتوا من أجل التمهيد لمجيئه.

يعتقد البعض بأن الله أرسل مزيداً من الأنبياء الواحد تلو الآخر، لعدم نجاح الأنبياء السابقين في إتمام مهماتهم أو لسبب حاجة الناس لمن يذكرهم بما سبق وأوحى به للأنبياء الذين أتوا في أجيال سابقة. لكن ذلك ليس مفهوم الكتاب المقدس. إن أنبياء الله لم يفشلوا، ولا واحد منهم، في تحقيق ما أراد الله تحقيقه عن طريقهم. أما سبب تعدد الأنبياء وتوالي قدومهم من قبل الله في حقبة العهد القديم فمرجعه أن لكل منهم دوره في التمهيد لمجيء المسيح. من المهم للغاية أن ندرك هذه الحقيقة لأنها تعكس علينا إدراكاً صائباً لكون الوحي الإلهي عبر أنبيائه لا يعتريه تناقض أو نقصان بحيث أن الله يسعى لإصلاح ما تهدّم بإرسال مزيد من الأنبياء. الله لا يسمح بأي فشل في تأدية أنبيائه لمهمتهم ولا بأي تشويش يؤثر على ما ينقلونه منه للبشر الآخرين. لذلك لا يجوز لنا الاعتقاد بأي شيء من هذا القبيل، إلاّ إذا كنا نعتقد بأن الله غير جدّي فيما يعمل، أو أنه غير قادر على إنجاز ما يريد عمله، وهو تفكير خاطئ وغير صحيح عنه تعالى. فالله وهو كلّي السيادة، أعطى عصمة خاصة لأنبيائه حين دوّنوا الوحي كاملاً بدون خطأ. وهو في نفس الوقت، بحكمته وسلطانه، عمل على حماية ما دوّنوه، من التحريف أو الفقدان، عبر الأجيال.

لقد أدّى كل من هؤلاء الأنبياء دوره بكل أمانة وجدارة، مدعومين بقوة الله، في التحضير التدريجي لمجيء المسيح. فلو أن الله كشف عن كل شيء دفعة واحدة لما كان من المكن لبني البشر استيعابه. من هنا كانت ضرورة الطبيعة التدريجية والتقدمية للوحي الإلهي. كما أن ذلك هو السر الحقيقي وراء ذلك الترابط والتكامل بين أدوار الأنبياء المعكوس في أسفار الكتاب المقدس. إن المرء الذي يتأمل بالتدقيق في مسيرة هؤلاء الأنبياء لا بد وأن يدرك كيف أن الوحي الإلهي قد أخذ شكل هرم متدرّج الأطوار بنى فيه كل نبي على ما سبق وبناه أقرانه من قبله. أما قمة الهرم فيقف عليها المسيح مكمل الوحي وخاتمته. ليس هذا صورة خيالية أو تخميناً بشرياً بل نجده مدوناً ضمن ما أوحى به الله نفسه إذ قال عن مؤمنيه على لسان الرسول بولس: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدّساً في الرب" (الرسالة إلى أفسس 2: 20و21).

بيد أن هناك اختلافاً جوهرياً آخر ما بين دور المسيح كنبي وبين أدوار أنبياء الله. لقد تكلم الأنبياء كبشر مسوقين من عند الله وليس من عندياتهم، بينما تكلّم المسيح كالله. كانوا دائماً يصحبون رسالتهم بتعابير مثل "هكذا يقول الرب" ولم تكن لديهم السلطة ولا القدرة على قول أي شيء بالنيابة عن الله إلاّ ما كان قد أوحى به الله إليهم. أما يسوع فقد كان يؤكد في رسالته على الدوام بأنه إنما يقول ما يقوله بسلطته هو. عندما أشار لأقوال الأنبياء قال: "قيل لكم"، لكن عندما أشار إلى ما يقوله هو قال: "أما أنا فأقول" أو "الحق الحق أقول لكم". الأنبياء تحدثوا بالنيابة عن الله، أما المسيح فتحدّث بالنيابة عن نفسه وانطلاقاً من سلطته الشخصية، والواقع أن ذلك ما أدهش معاصريه الذين لاحظوا أنه يختلف عن الأنبياء ورجال الدين، "لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (متى 7: 29 ومرقس 1: 22)، "لأنه بسلطان يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه" (مرقس 1: 27 ولوقا 4: 36). هذا وقد صرّح يسوع أكثر من مرة بأن له سلطان يفوق ما هو لأي بشر (متى 9: 6 ومرقس 2: 10 ولوقا5: 24)، ثم إنه أعطى رسله الذين أوحى لهم بكتابة الإنجيل بواسطة الروح القدس، أعطاهم السلطان في مهماتهم النبوية. (راجع متى 10: 1 ومرقس 6: 7 ولوقا 9: 1). إذاً فهو في مهمته النبوية عبّر عن سلطة لم تكن للأنبياء البشر، بالإضافة إلى الحق الذي عبّر عنه في إعطاء السلطة للأنبياء البشر.

بالرغم من أن يسوع أشار إلى نفسه كنبي لديه رسالة خاصة من الله الآب (راجع لوقا 13: 33 ويوحنا 8: 26-28، 12: 49و50، 14: 10و24)، إلاّ أن أعماله النبوية الخاصة لم تكن في حاجة إلى تأكيد شفوي على مركزه النبوي، فقد تنبّأ عن المستقبل (متى 24: 3-35، لوقا 19: 41-44). ثم إن تعاليم المسيح كانت ذا طبيعة نبوية في صبغتها الغالبة. كان من الطبيعي إذاً أن يشير إليه الناس كنبي (متى 21: 11و46، لوقا 7: 16، 24: 19، يوحنا 6: 14، 7: 40و 9: 17). وبالرغم من أن مواصفات النبوة الشائعة في حقبة العهد القديم انطبقت عليه من جهة علاقة تصريحاته بالماضي والحاضر والمستقبل (راجع خروج 7: 1، تثنية 18: 18، عدد 12: 6-8، أشعياء 6، أرميا 1: 4-10، حزقيال 3: 1-4و17). إلاّ أن المسيرة النبوية الجوهرية التي طغت على خدمته كمنت في مقدرته الدائمة على تفسير الشريعة الإلهية وتطبيقها على الحياة اليومية المعاصرة. أما تفسيره للشريعة الإلهية فقد كان مدعوماً دائماً بحياته الطاهرة وسلوكه الذي لم تشوبه شائبة أخلاقية. في هذا لم تنطبق عليه مواصفات النبوة فحسب بل توّجته ورفعته على كل الأنبياء. فالنبوة في مفهوم الوحي الإلهي ليست مجرد إدعاء بالحصول على وحي أو رسالة من الله، إنها دائماً، وعبر صفات الكتاب المقدس مصحوبة بقوة معجزية خارقة تدل على أن الله هو مصدرها، ثم إنها أيضاً مصحوبة بحياة نقية طاهرة يتحلّى بها النبي، دلالة قاطعة على أن تكريسه للنبوة هو من الله. هذا بالطبع مغاير لإدعاءات الكثيرين من الأنبياء المزيفين قبل وبعد المسيح، فهؤلاء اتسمت إدعاءاتهم بخلائها من القيمة المعجزية الإلهية. ومع أنهم ادعوا المقدرة على القيام بالمعجزات فإن سجلاتهم تشهد بأن المعجزات التي ادعوا بترتيبها كانت من نسج خيالهم ولم تكن من مصادر موثوق بها تدعم ادعاءاتهم. لأن المعجزات الحقيقية التي مصدرها قوة الله لا تحصل في الخفاء بل في العلن وإلاّ لما كان لحصولها أي معنى. بيد أن الحياة الأخلاقية للأنبياء الكذبة عبر التاريخ تتسم بفساد جنسي ورغبة قوية في التسلط على الآخرين، بالإضافة إلى الخوف الدائم من المعارضين والسعي للبطش بهم. أما الأنبياء الحقيقيين والذين كان يسوع مثالهم الأسمى فإن تقواهم الحقيقية لم تكن تخفى على أحد، ثم إنهم عبروا عن ثقة دائمة في الله وعن رغبة دائمة في إطاعة شريعته وأوامره الخاصة حتى وإن قادهم ذلك إلى الموت. أما ثقتهم في الله فقد دلت عليها حياة التضحية التي مارسوها كل يوم، لأنه لم يكن يهمهم إرضاء البشر على الإطلاق بل إرضاء الله في كل ما يقولونه ويعملونه ويفكرون به. أما المعجزات التي صحبت خدمتهم فلم يستعملوها لنيل ربح شخصي، بل على العكس نراهم يقشعرون ويهتزون عندما يقوم أحد على إعطائهم سلطة إلهية أو عندما يعتقد البعض بأن معجزاتهم تلك ناتجة عن مقدرة كامنة فيهم.

من هنا وجب علينا أن نتذكر بأن يسوع لم يكن مجرد نبي اعتيادي. إن تفوقه المعجزي والأخلاقي الخارق لم يكن الفارق الجوهري الوحيد، لأنه بعكس باقي أنبياء الوحي الإلهي تمتع بمركزه وخدمته النبويتين من قبل مجيئه إلى عالم البشر. إن "روح المسيح" هو الذي دلّ الأنبياء وقادهم وأوحى إليهم من قبل مجيئه (راجع رسالة بطرس الأولى 1: 10-12)، بل إن المسيح كان قد سبق وحمل رسالة نبوته التبشيرية المعزية إلى أرواح المائتين قبل تجسّده (راجع رسالة بطرس الأولى 3: 18-20).

كما أن مهمة المسيح النبوية امتّدت إلى المستقبل، حتى بعد عودته إلى يمين العظمة في السماء لأنها كانت ذا فعالية قبل وأثناء تجسّده. فهو إذ صعد إلى السماء واصل خدمته النبوية عبر رسله الأطهار (راجع أعمال الرسل 1: 1). ثم إنه لا يزال يقوم بمهمته النبوية تلك عبر الروح القدس المعزّي الذي أرسله إلى كنيسته لينعشها ويقويها ويطبق في حياتها متضمنات كلمته الطاهرة (يوحنا 14: 26، 16: 12-14).

ثانياً: المسيح الكاهن
الصفحة
  • عدد الزيارات: 17039