Skip to main content

الفصل الثالث: وظائف المسيح الرسمية الثلاث

إن الانسجام الكامل في طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية الذي تعرضنا له في الفصل السابق له موقع مركزي وحيوي فيما خصّ تحقيق جميع المقاصد الإلهية المتعلقة بعالم البشر وليس فيما خص عملية الخلاص وحدها. لكن تنفيذ عملية الخلاص هو جزء لا يتجزأ من مجمل تلك المقاصد. صحيح أن فداء بني البشر هو المحور الأساسي الذي ترتكز عليه مجموعة مخططات الله. وهذا طبيعي، لأن سقوط بني البشر بسبب عصيانهم لشريعة الله هو المحك الذي أوجب ليس فقط عملية التجسد والخلاص بل أيضاً جميع التأثيرات الفرعية التي لزم أن يخطط الله لاستئصالها أو إصلاحها أو إعادة بنائها. أما تحقيق المسيح لجميع هذه المقاصد الأزلية وعلى رأسها فداء البشر فقد جرى ضمن نطاق وظائف أو أدوار رسمية ثلاث، إذ توجب عليه أن يكون نبياً وكاهناً وملكاً.


أولاً: المسيح النبي

إن وظيفة المسيح النبوية كانت ضمن الخواص المميزة للمسيّا الذي تنبّأت عنه أسفار العهد القديم. والواقع أن النبوة الواردة بهذا الشأن كانت إحدى النبوات الواردة في الوحي الإلهي عن مجيء المسيح وقد جاءت على لسان النبي موسى: "يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك، من أخوتك مثلي. له تسمعون" (سفر التثنية 18: 15)، أما في العهد الجديد فقد أشار الرسول بطرس ضمن إحدى مواعظه العامة مشيراً إلى هذه النبوّة ومطبّقاً إياها على المسيح: "موسى قال للآباء أن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من أخوتكم. له تسمعون في كل ما يكلّمكم به". (أعمال الرسل 3: 22).

إن وظيفة النبوّة في الكتاب المقدس تختص بأولئك الذين تكلّموا للبشر بالنيابة عن الله. من الطبيعي أن يكون المسيح ذا مكانة خاصة ضمن دائرة أنبياء الله. والواقع أن هذا أمر حيوي بالنسبة لمهمة المسيح التي جاء إلى عالم البشر لتنفيذها. العديد من الأنبياء الحقيقيين كانوا قد سبقوا مجيء المسيح وجميعهم تكلّموا بكلام الله للشعب، لكن ما أوحى الله لهم به كان ذا طبيعة تمهيدية وغير مكتملة. لقد كانوا جميعاً يرمزون للمسيح النبي الأعظم الذي كانوا قد أتوا من أجل التمهيد لمجيئه.

يعتقد البعض بأن الله أرسل مزيداً من الأنبياء الواحد تلو الآخر، لعدم نجاح الأنبياء السابقين في إتمام مهماتهم أو لسبب حاجة الناس لمن يذكرهم بما سبق وأوحى به للأنبياء الذين أتوا في أجيال سابقة. لكن ذلك ليس مفهوم الكتاب المقدس. إن أنبياء الله لم يفشلوا، ولا واحد منهم، في تحقيق ما أراد الله تحقيقه عن طريقهم. أما سبب تعدد الأنبياء وتوالي قدومهم من قبل الله في حقبة العهد القديم فمرجعه أن لكل منهم دوره في التمهيد لمجيء المسيح. من المهم للغاية أن ندرك هذه الحقيقة لأنها تعكس علينا إدراكاً صائباً لكون الوحي الإلهي عبر أنبيائه لا يعتريه تناقض أو نقصان بحيث أن الله يسعى لإصلاح ما تهدّم بإرسال مزيد من الأنبياء. الله لا يسمح بأي فشل في تأدية أنبيائه لمهمتهم ولا بأي تشويش يؤثر على ما ينقلونه منه للبشر الآخرين. لذلك لا يجوز لنا الاعتقاد بأي شيء من هذا القبيل، إلاّ إذا كنا نعتقد بأن الله غير جدّي فيما يعمل، أو أنه غير قادر على إنجاز ما يريد عمله، وهو تفكير خاطئ وغير صحيح عنه تعالى. فالله وهو كلّي السيادة، أعطى عصمة خاصة لأنبيائه حين دوّنوا الوحي كاملاً بدون خطأ. وهو في نفس الوقت، بحكمته وسلطانه، عمل على حماية ما دوّنوه، من التحريف أو الفقدان، عبر الأجيال.

لقد أدّى كل من هؤلاء الأنبياء دوره بكل أمانة وجدارة، مدعومين بقوة الله، في التحضير التدريجي لمجيء المسيح. فلو أن الله كشف عن كل شيء دفعة واحدة لما كان من المكن لبني البشر استيعابه. من هنا كانت ضرورة الطبيعة التدريجية والتقدمية للوحي الإلهي. كما أن ذلك هو السر الحقيقي وراء ذلك الترابط والتكامل بين أدوار الأنبياء المعكوس في أسفار الكتاب المقدس. إن المرء الذي يتأمل بالتدقيق في مسيرة هؤلاء الأنبياء لا بد وأن يدرك كيف أن الوحي الإلهي قد أخذ شكل هرم متدرّج الأطوار بنى فيه كل نبي على ما سبق وبناه أقرانه من قبله. أما قمة الهرم فيقف عليها المسيح مكمل الوحي وخاتمته. ليس هذا صورة خيالية أو تخميناً بشرياً بل نجده مدوناً ضمن ما أوحى به الله نفسه إذ قال عن مؤمنيه على لسان الرسول بولس: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدّساً في الرب" (الرسالة إلى أفسس 2: 20و21).

بيد أن هناك اختلافاً جوهرياً آخر ما بين دور المسيح كنبي وبين أدوار أنبياء الله. لقد تكلم الأنبياء كبشر مسوقين من عند الله وليس من عندياتهم، بينما تكلّم المسيح كالله. كانوا دائماً يصحبون رسالتهم بتعابير مثل "هكذا يقول الرب" ولم تكن لديهم السلطة ولا القدرة على قول أي شيء بالنيابة عن الله إلاّ ما كان قد أوحى به الله إليهم. أما يسوع فقد كان يؤكد في رسالته على الدوام بأنه إنما يقول ما يقوله بسلطته هو. عندما أشار لأقوال الأنبياء قال: "قيل لكم"، لكن عندما أشار إلى ما يقوله هو قال: "أما أنا فأقول" أو "الحق الحق أقول لكم". الأنبياء تحدثوا بالنيابة عن الله، أما المسيح فتحدّث بالنيابة عن نفسه وانطلاقاً من سلطته الشخصية، والواقع أن ذلك ما أدهش معاصريه الذين لاحظوا أنه يختلف عن الأنبياء ورجال الدين، "لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (متى 7: 29 ومرقس 1: 22)، "لأنه بسلطان يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه" (مرقس 1: 27 ولوقا 4: 36). هذا وقد صرّح يسوع أكثر من مرة بأن له سلطان يفوق ما هو لأي بشر (متى 9: 6 ومرقس 2: 10 ولوقا5: 24)، ثم إنه أعطى رسله الذين أوحى لهم بكتابة الإنجيل بواسطة الروح القدس، أعطاهم السلطان في مهماتهم النبوية. (راجع متى 10: 1 ومرقس 6: 7 ولوقا 9: 1). إذاً فهو في مهمته النبوية عبّر عن سلطة لم تكن للأنبياء البشر، بالإضافة إلى الحق الذي عبّر عنه في إعطاء السلطة للأنبياء البشر.

بالرغم من أن يسوع أشار إلى نفسه كنبي لديه رسالة خاصة من الله الآب (راجع لوقا 13: 33 ويوحنا 8: 26-28، 12: 49و50، 14: 10و24)، إلاّ أن أعماله النبوية الخاصة لم تكن في حاجة إلى تأكيد شفوي على مركزه النبوي، فقد تنبّأ عن المستقبل (متى 24: 3-35، لوقا 19: 41-44). ثم إن تعاليم المسيح كانت ذا طبيعة نبوية في صبغتها الغالبة. كان من الطبيعي إذاً أن يشير إليه الناس كنبي (متى 21: 11و46، لوقا 7: 16، 24: 19، يوحنا 6: 14، 7: 40و 9: 17). وبالرغم من أن مواصفات النبوة الشائعة في حقبة العهد القديم انطبقت عليه من جهة علاقة تصريحاته بالماضي والحاضر والمستقبل (راجع خروج 7: 1، تثنية 18: 18، عدد 12: 6-8، أشعياء 6، أرميا 1: 4-10، حزقيال 3: 1-4و17). إلاّ أن المسيرة النبوية الجوهرية التي طغت على خدمته كمنت في مقدرته الدائمة على تفسير الشريعة الإلهية وتطبيقها على الحياة اليومية المعاصرة. أما تفسيره للشريعة الإلهية فقد كان مدعوماً دائماً بحياته الطاهرة وسلوكه الذي لم تشوبه شائبة أخلاقية. في هذا لم تنطبق عليه مواصفات النبوة فحسب بل توّجته ورفعته على كل الأنبياء. فالنبوة في مفهوم الوحي الإلهي ليست مجرد إدعاء بالحصول على وحي أو رسالة من الله، إنها دائماً، وعبر صفات الكتاب المقدس مصحوبة بقوة معجزية خارقة تدل على أن الله هو مصدرها، ثم إنها أيضاً مصحوبة بحياة نقية طاهرة يتحلّى بها النبي، دلالة قاطعة على أن تكريسه للنبوة هو من الله. هذا بالطبع مغاير لإدعاءات الكثيرين من الأنبياء المزيفين قبل وبعد المسيح، فهؤلاء اتسمت إدعاءاتهم بخلائها من القيمة المعجزية الإلهية. ومع أنهم ادعوا المقدرة على القيام بالمعجزات فإن سجلاتهم تشهد بأن المعجزات التي ادعوا بترتيبها كانت من نسج خيالهم ولم تكن من مصادر موثوق بها تدعم ادعاءاتهم. لأن المعجزات الحقيقية التي مصدرها قوة الله لا تحصل في الخفاء بل في العلن وإلاّ لما كان لحصولها أي معنى. بيد أن الحياة الأخلاقية للأنبياء الكذبة عبر التاريخ تتسم بفساد جنسي ورغبة قوية في التسلط على الآخرين، بالإضافة إلى الخوف الدائم من المعارضين والسعي للبطش بهم. أما الأنبياء الحقيقيين والذين كان يسوع مثالهم الأسمى فإن تقواهم الحقيقية لم تكن تخفى على أحد، ثم إنهم عبروا عن ثقة دائمة في الله وعن رغبة دائمة في إطاعة شريعته وأوامره الخاصة حتى وإن قادهم ذلك إلى الموت. أما ثقتهم في الله فقد دلت عليها حياة التضحية التي مارسوها كل يوم، لأنه لم يكن يهمهم إرضاء البشر على الإطلاق بل إرضاء الله في كل ما يقولونه ويعملونه ويفكرون به. أما المعجزات التي صحبت خدمتهم فلم يستعملوها لنيل ربح شخصي، بل على العكس نراهم يقشعرون ويهتزون عندما يقوم أحد على إعطائهم سلطة إلهية أو عندما يعتقد البعض بأن معجزاتهم تلك ناتجة عن مقدرة كامنة فيهم.

من هنا وجب علينا أن نتذكر بأن يسوع لم يكن مجرد نبي اعتيادي. إن تفوقه المعجزي والأخلاقي الخارق لم يكن الفارق الجوهري الوحيد، لأنه بعكس باقي أنبياء الوحي الإلهي تمتع بمركزه وخدمته النبويتين من قبل مجيئه إلى عالم البشر. إن "روح المسيح" هو الذي دلّ الأنبياء وقادهم وأوحى إليهم من قبل مجيئه (راجع رسالة بطرس الأولى 1: 10-12)، بل إن المسيح كان قد سبق وحمل رسالة نبوته التبشيرية المعزية إلى أرواح المائتين قبل تجسّده (راجع رسالة بطرس الأولى 3: 18-20).

كما أن مهمة المسيح النبوية امتّدت إلى المستقبل، حتى بعد عودته إلى يمين العظمة في السماء لأنها كانت ذا فعالية قبل وأثناء تجسّده. فهو إذ صعد إلى السماء واصل خدمته النبوية عبر رسله الأطهار (راجع أعمال الرسل 1: 1). ثم إنه لا يزال يقوم بمهمته النبوية تلك عبر الروح القدس المعزّي الذي أرسله إلى كنيسته لينعشها ويقويها ويطبق في حياتها متضمنات كلمته الطاهرة (يوحنا 14: 26، 16: 12-14).


ثانياً: المسيح الكاهن

إن وظيفة المسيح الكهنوتية كانت بدورها أيضاً ضمن الخواص المميزة للمسيّا الذي تنبأت عنه أسفار العهد القديم، فقد قيل عنه: "أنت كاهن إلى الأبد" (مزمور 110: 4). كما قالت النبوة إنه: "يبني هيكل الرب ويحمل الجلال ويجلس ويتسلّط على كرسيه ويكون كاهناً على كرسيه" (نبوة زكريا 6: 13). أما الوصف الكامل لمركزه وخدمته الكهنوتية فقد ورد قبل مجيئه إلى عالم البشر بنحو سبعمائة سنة وذلك على لسان النبي أشعياء في الفصل الثالث والخمسين من نبوته الذي يعتبر من أجمل سجلات الوحي الإلهي.

إن وظيفة الكهنوت في الكتاب المقدس يمكن اعتبارها الوظيفة الموازية لوظيفة النبوّة. فبينما يقوم النبي بنقل رسالة من الله إلى البشر أو بالتكلم للبشر بالنيابة، فإن الكاهن هو الشخص الذي يقوم بتمثيل البشر أمام الله، وذلك إما بتقديم ذبائحهم لله بالنيابة عنهم وإما بنقل صلواتهم وطلباتهم إلى الله. إن ذلك بالطبع يعود لفقدان البشر المقدرة على الوقوف أمام الله بأنفسهم بسبب فسادهم وخطيتهم. لأجل هذا السبب رتّب الله لوجود تلك الفصيلة من بني البشر الذين أهّلهم وأعدّهم للقيام بتلك المهمة الكهنوتية. فالشخص العادي لم يكن بوسعه الاقتراب من قدس الأقداس داخل الهيكل حيث تقدم الذبائح والصلوات الشفاعية الخاصة. فالإنسان في حالته الساقطة مفصول أخلاقياً وروحياً عن الله وهو ذو طبيعة مغايرة لطبيعة الله الطاهرة، لذلك ليس باستطاعة الإنسان القدوم إلى محضر الله بنفسه. أما الكهنة الذين أقامهم الله عبر أجيال حقبة العهد القديم فقد أُعطوا الحق في تمثيل بني البشر أمام المحضر الإلهي، فكان الكاهن يأخذ على نفسه مهمة إعادة تلك العلاقة الطبيعية التي كانت بين الله وبني البشر إلى ما كانت عليه قبل السقوط ولو بشكل جزئي ومؤقت. فالكاهن تقع عليه مسؤولية الاعتراف العلني بخطية وعصيان من يمثّلهم أمام الله، كما أنه يقوم بتقديم الذبائح الرمزية التي تعبّر عن الرغبة في التوبة عن حالة التمرّد تلك والتكفير عنها. إذاً تقع على عاتق الكاهن مهمتين: تمثيل بني البشر والتشفّع فيهم أمام الله. في العهد الجديد نرى بأن كهنة العهد القديم لم تكن مهمتهم رغم عظمتها وفعاليتها وجديّتها سوى مهمة رمزية، ترمز إلى الكاهن الأعظم الذي سعى هؤلاء الكهنة للتشبّه به. إن المسيح هو المرموز إليه في الذبائح والصلوات التي قاموا بتقديمها. لعل أوضح ما ورد في الوحي الإلهي عن هذا الأمر هو في المضمون الكلي للرسالة إلى العبرانيين التي أكدت تفوّق مركز المسيح الكهنوتي وألوهيته وتفوّق مركزه النبوي على كافة الأنبياء. فبينما أشارت كتب العهد الجديد الأخرى إلى عمل المسيح الكهنوتي (راجع مرقس 10: 45، يوحنا 1: 29، رومية 3: 24و25، كورنثوس الأولى 5: 7، غلاطية 1: 4، أفسس 5: 2، رسالة يوحنا الأولى 2: 2، رسالة بطرس الأولى 2: 24و3: 18)، فإن دور الرسالة إلى العبرانيين الخاص هو في شرح ذلك العمل وتوضيح أهميته. كما أنها لا تدع مجالاً للشك في أحقيّة المسيح للقبه الكهنوتي المجيد. في الرسالة إلى العبرانيين دعي المسيح "رئيس كهنة الله" (3: 1) و"رئيس كهنة عظيم" (4: 14) و"كاهن إلى الأبد" (5: 6) و"رئيس كهنة إلى الأبد" (6: 20) و"رئيس كهنة.... قدّوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات" (7: 26) و"رئيس كهنة... قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات، خادماً للأقداس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب، لا إنسان" (8: 1و2).

ومثلما تميّز يسوع كنبي من بين جميع الأنبياء تميّز أيضاً عن جميع الكهنة. هذا ما نراه في جانبي خدمته الكهنوتية بوضوح: أي في عمله الكفاري كفادي البشر والبديل الحقيقي عنهم أمام الله، وفي عمل وساطته وخدمته الشفاعية كالممثل الأوحد لكنيسته المفتدية أمام الله.

بالنسبة إلى عمل المسيح الكفاري يطرح الوحي الإلهي أمامنا حقيقة راسخة لا نزاع عليها، وهو أنه هو وحده الذي كان مؤهلاً حقيقةً لأن يكون فادي البشر الذي باستطاعته معالجة معضلة سقوطهم وخطيتهم. ذبائح العهد القديم الكفارية ما كانت سوى رموز يتذكر بها بني البشر خطيتهم ويتطلعون إلى قدوم ذلك المخلّص الذي يذبح قانونياً بالنيابة عنهم. "لأن أولئك بدون قسم صاروا كهنة كثيرين من أجل منعهم بالموت عن البقاء. وأما هذا فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد له كهنوت لا يزول. فمن ثم يقدر أن يخلّص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم. لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدّوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات. الذي ليس له اضطرار كل يوم مثل رؤساء الكهنة أن يقدم ذبائح أولاً عن خطايا نفسه ثم عن خطايا الشعب لأنه فعل هذا مرّة واحدة إذ قدّم نفسه. فإن الناموس (أي الشريعة) يقيم أناساً بهم ضعف رؤساء كهنة. وأما كلمة القسم التي بعد الناموس فتقيم ابناً مكملاً إلى الأبد" (الرسالة إلى العبرانيين 7: 21-28). إذاً ذبيحة المسيح تختلف عن ذبائح الآخرين من عدة جوانب، أولاً هي ذبيحة حقيقية. فالذبائح السابقة لم تكن لها سوى فائدة واحدة وهي أنها كانت ترمز إليه "لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا.... تلك الذبائح عينها التي لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية". (عبرانيين 10: 4-11). أما يسوع فكان إنساناً طاهراً، ولا يحل محل الإنسان سوى إنسان، "لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لي جسداً" (عبرانيين 10: 5). ثانياً إن ذبيحة المسيح هي ذات مدى غير محدود حجماً. فهو كالكاهن الإلهي غير المحدود قدّم ذبيحة غير محدودة الفعالية، لأن المسيح "لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقية، بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا، ولا يقدّم نفسه مراراً كثيرة كما يدخل رئيس الكهنة إلى الأقداس كل سنة بدم آخر" (عبرانيين 9: 24-25). ثالثاً إن ذبيحة المسيح هي أبدية الأثر. "فبهذه المشيئة نحن مقدّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة.... فبعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله.... لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين" (عبرانيين 10: 10و12و14).

إلى جانب الذبيحة العظمى التي قدّمها يسوع كفّارة عن خطايا الكثيرين، فإن وظيفته الكهنوتية لها جانب آخر هو شفاعته بالنيابة عن مفدييه. في هذا الصدد يقول الرسول يوحنا: "إن أخطأ أحد (أي من المؤمنين) فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار" (رسالة يوحنا الأولى 2: 2). والشفيع هو الشخص الذي يعين المذنبين ويدافع عنهم وهو محامي الدفاع أمام محكمة العدالة الإلهية. بالنسبة للمؤمنين "من هو الذي يدين. المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله الذي أيضاً يشفع فينا" (الرسالة إلى رومية 8: 34). "هو حي في كل حين ليشفع فيهم" (عبرانيين 7: 25). إنه "يظهر الآن أمام وجه الله" لأجل المؤمنين (عبرانيين 9: 24). أما عظمة شفاعة المسيح فقاعدتها هي عظمة ذبيحته الكفارية. أما نتيجة تلك الشفاعة النهائية فهي في مجيئه الثاني، "هكذا المسيح أيضاً بعدما قدّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانيةً بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه" (عبرانيين 9: 28).


ثالثاً: المسيح الملك

إنه من الطبيعي جداً أن يكون للمسيح، وهو الإلهي الطبيعة، نصيبه الأزلي في التسلّط على الكون. ذلك هو حقّه الإلهي. لكن المسيح له مكانته الملكية الخاصة بصفته الوسيط بين الله والناس، مخلّص بني البشر الخطاة. إذاً ملكية المسيح التي نحن بصددها الآن تتعلق به كابن الله المتجسّد، فهو في طبيعته البشرية إنسان أعطي سلطة خاصة لتكميل ملكوته الروحي في الكنيسة وذلك بحفظها وحمايتها وقيادته لها نحو المجد الأبدي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن المسيح أيضاً بصفته الفادي والوسيط، لديه سلطة خاصة كملك على كل المخلوقات، بما في ذلك الأبالسة والبشر غير المؤمنين. هذا بالطبع يرجع إلى ملكيته الفريدة في النهاية عندما "يضع جميع أعدائه موطئاً لقدميه" (مزمور 110)، وحين يكون قد أخضع الكل وصار الكل في الكل. (راجع رسالة كورنثوس الأولى 15: 24-28).

إن الجانب الأول من ملكية المسيح إذاً يرتبط بعلاقته بالمفديين. فهو ملكهم الروحي وله سلطة على خلاص وفداء النفس. تلك المسؤولية كانت هي أيضاً ضمن مواصفات المسيح المنتظر التي كان قد سبق للمشورة الإلهية وقضت بها: "أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي" (مزمور 2: 6). هذا هو الوعد المعطى للملك داود الذي كان رمزاً للمسيح الملك الحقيقي. إن الوحي الإلهي يقول في هذا الصدد "أقسم الرب لداود بالحق. لا يرجع عنه. من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مزمور 132: 11). لأجل هذا السبب دُعي يسوع "ملك اليهود" و"ابن داود"، ولعل هذا هو السبب الرئيسي من وراء ما تضمنه الوحي الإلهي لتلك القوائم الطويلة عن أنساب المسيح، بسبب ضرورة إثبات صلة قرابته بالملك داود. هذا وإن الوحي الإلهي كان قد سبق ووصف المسيح بأن "تكون الرياسة على كتفه.... لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد..." (نبوة أشعياء 9: 6-7، راجع أيضاً نبوة ميخا 5: 2 وزكريا 6: 13). أما بشارة الملاك لمريم فقالت عن المسيح الموعود بقدومه: "هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية" (لوقا 1: 32-33). هذا ما أقرّت به الجماهير الغفيرة عندما هتفت قائلةً: "مبارك الملك الآتي باسم الرب" (لوقا 19: 38)، أما يسوع فقد أشار إلى طبيعة مملكته تلك عندما دحض أقوال زعماء اليهود الذين اتهموه بالتآمر على نظام الحكم الروماني، فقال: "مملكتي ليست من هذا العالم..." (يوحنا 18: 36). هذا الجانب الروحي لملكية المسيح هو في موضعه الملكي على شعبه المؤمن. وهذه الملكية تتخذ إطاراً روحياً على قلوب وحياة المؤمنين ولها بعد روحي ألا وهو خلاص الخطاة. أما وسائط هذا الجانب من ملكه فهي روحية أيضاً: فهو يحكم بواسطة كلمته وروحه. وهو يعبر عن ملكه هذا بواسطة تجميع وحكم وحماية وتكميل كنيسته. إن ملك المسيح هذا يسمى في العهد الجديد "ملكوت الله"، وقد دعي في الإنجيل حسب كتابة متى "ملكوت السموات"، ولا يخفى على بال أحد أن متى وهو يكتب أصلاً لمجموعات من اليهود أراد أن يتجنّب استعمال التعبير "ملكوت الله" لأن الكثيرين من اليهود كانوا قد تعودوا على تفضيل الإشارة إلى الأمور التي تخص الله بتعبير "السموات"، ذلك أنهم آثروا التقليل من استخدام اسم الله في أحاديثهم اليومية. ومهما تكن التسمية فإن أعضاء ذلك الملكوت الروحي الذي يملك عليه المسيح هم المواطنون أعضاء كنيسته الحقيقية المفدية التي اقتناها بدمه الطاهر (راجع أعمال الرسل 20: 28).

لكن للتأثير الروحي لمملكة المسيح، الذي هو ملكوت النور، بعد أوسع من حياة المؤمنين. فحيثما وجدت كنيسته وتزايد تأثيرها على المجتمع يلاحظ نمو غير عادي للوفاء والمحبة والعدالة وروح الطهارة والقداسة والجد والتضحية والسلام. هذا ما يعكسه مثلا الزارع والشبكة اللذين ضربهما المسيح نفسه (راجع متى 13: 24-30 و47-50). فالمسيح عندما يملك على قلب البشر ينقلهم من ملكوت الظلمة حيث هم بالطبيعة مستعبدين للشر إلى ملكوت النور حيث كل جمال وحسن وصلاح (راجع متى 12: 28، لوقا 17: 21، رسالة كولوسي 1: 13)، وإذ يرى الناس حياة هؤلاء المتغيرة والمخلوقة من جديد بواسطة روح المسيح، يمجدون الله، (متى 5: 16). من هنا كان امتداد تأثير ملكوت المسيح.

لكن ملكوت المسيح المعطى له بعد التجسّد امتد بشكل أوسع إثر قيامته، لذلك صرّح لتلاميذه قائلاً: "دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28: 18). كان هذا جزءاً لا يتجزأ من مقاصد الله الأزلية وعمله "الذي عمله في المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السموات، فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده ملء الذي يملأ الكل في الكل" (الرسالة إلى أفسس 1: 20-23). ومع أنه قبل تجسّده كان يتمتع بهكذا سلطان على كل شيء. إلاّ أنه بعد قيامته رسّخ بشكل جديد ملكه على الكل، وهو في ذلك يتحكّم في جميع ظروف مسار التاريخ البشري بأسره لأجل تكميل عمله الكفّاري ولأجل حماية كنيسته من كل خطر من شأنه عرقلة مسيرتها الروحية نحو الكمال الذي أراده لها.

  • عدد الزيارات: 17042