الفصل الثالث: ميلاده العذراوي
في الفصول الأولى من الإنجيل حسب متى ولوقا ترد بيانات مفصلّة عن ولادة يسوع المسيح من العذراء مريم. الاعتبار الأساسي الذي يركز عليه الخبر هو كيف أن الإله الرحيم المحب يتدخل لأجل خلاص شعبه تباعاً لمواعيده وتتميماً لتنبؤات وحيه الطاهر. أما التدخل الإلهي الخلاصي فقد حمل طابعاً معجزياً. من هنا كان من المهم أن ندرك أن المعجزات التي ارتبطت بمجيء المسيح إلى عالم البشر (بما فيها ميلاده العذراوي) لم يكن حدوثها لمجرد سد حاجات فردية مختلفة ومتشعبة ولم يكن مجرد أحداث متفرقة، بل إنها كانت بكليتها مرتبطة ومتراصة معاً ضمن نطاق تتميم المخطط الإلهي للفداء والذي لا شكّ فيه أن السيد المسيح هو مركزه.
المعجزات المدونة في الوحي الإلهي سواء كانت في العهد القديم أو الجديد من الكتاب المقدس (خاصة تلك التي تختص بتجسّد المسيح وقيامته من الموت) لم تكن صنيعة ظروف تاريخية أو اجتماعية عارضة، لأننا لو وضعنا نصب أعيننا واقع كون المسيح شخصية غير اعتيادية، فإنه يسهل علينا إدراك ضرورة ارتباط تاريخية دخوله وخروجه من عالم البشر بمظاهر تاريخية معجزية غير اعتيادية. لذلك ونحن نتعرّض لموضوع ولادته المعجزية من عذراء لا بد لنا من أن نضع ضمن أساس دراستنا الظروف الاجتماعية والتاريخية التي رافقت عملية مجيئه إلى عالم البشر. في لوقا (1: 28-38)، يسجل لنا الوحي الإلهي بأن يوسف خطيب مريم كان رجلاً يعمل بالنجارة، ذا وضع اجتماعي متواضع مع أنه من عرق يهودي صافي. لكن الله اختار أن يكون حبل مريم بالمخلّص معجزي بواسطة الروح القدس، مع أن بشارة الملاك أكدت لمريم بأن المسيا المولود منها سيكون له عرش داود بالذات. سمع يوسف عن الأمر وقرّر حل خطبته من مريم بهدوء دون أن يسيء الأمر إلى سمعتها. لكن ملاك الرب منعه حتى من تنفيذ الأمر بهكذا لطف وعرّفه ببراءة مريم وبضرورة عدم تخليه عنها وبأن المولود منها سيكون من الجهة القانونية ابناً له مع أنه لم يكن له به أي علاقة جسدية. تقبّل يوسف مشيئة الله بإيمان وحلّت الطمأنينة في قلبه وزال الانزعاج. وهكذا تأمن مولد المسيا من عذراء في الوقت الذي كانت له عبر يوسف تغطية أبوية قانونية مثل باقي أقرانه.
إن سجل ولادة المسيح هذا لا شك منسجم تماماً مع مكانته العظيمة ورسالته السامية بين البشر. لقد كان مولده ضمن العائلة الروحية والجسدية لشعب الله وخاصةً في المحيط الذي تمسّك بتعاليم التوراة والأنبياء، جاء متواضعاً ومن نسل داود الذي كان مثال العظمة الدينية والروحية والملكية بين اليهود. لكن أسلوب مجيئه المعجزي هذا يعكس أمراً هاماً للغاية. فمن جهة كان يجب أن يكون إلهاً حقاً، وهذا تمّ عبر أسلوب حبل أمه به، ومن جهة أخرى كان من المفروض أن يتمتع بطبيعة بشرية حقيقية، وهذا تمً بولادته من امرأة كما هو الحال مع باقي البشر. لعل تلك الحقيقة المزدوجة هي جوهر ولبّ عملية التجسّد نفسها. فلو أن المسيح جاء بدون أحد هذين العنصرين الإلهي والإنساني لما انطبقت عليه أوصاف المسيا المنتظر ولما تمّت النبوءات التي أشارت إلى مجيئه من عذراء (راجع نبوة أشعياء 7: 14) كما أشارت إلى وجوده الأزلي السابق وإلى كونه الرب الآتي للبشر بالذات (راجع نبوة أشعياء 9: 6-7، ونبوة ميخا 5: 1-4). ثم أنه لو لم يتوفر فيه هذان العنصران، الإلهي والبشري لما كان صالحاً لأن يكون فادي البشر والوسيط بينهم وبين المحضر الإلهي. أما وأن ملامح كل من ألوهيته وبشريته قد تجلّت في ولادته العذراوية واستمرت في الوضوح عبر حياته الأرضية وحتى قيامته من الأموات بعد صلبه، فإنه لم يعد هناك مجالاً للشك في كونه هو ابن العذراء، الإله المتجسد الذي توقعت قدومه أجيال المؤمنين والمؤمنات.
لكن أهم جوانب ولادة المسيح العذراوية هو الجانب التاريخي لها. لم تكن الولادة العذراوية مجرد ادعاء تمسكت به مريم أو أقاربها للتأكد من تطبيق نبوءات الأنبياء على الوليد المنتظر أو لستر فضيحة صدمت العائلة. صحيح أن مريم كانت أول من عرف بالأمر لكن معرفتها جاءت قبل إتمامه. لقد أخبرها الملاك بمشيئة الله الطاهرة لها قبل أن يتم شيء. ثم إن الله كشف عن تلك الحقيقة ليوسف خطيبها وللرعاة في البرية وحكماء المشرق الذين ساروا وراء النجم غير المعتاد الذي دلّهم إلى مكان ولادة الصبي. أما أليصابات أم يوحنا المعمدان فقد أوحى لها الله بتلك الحقيقة وهي في شهرها السادس من الحمل ولم يتبق على ولادة ابنها سوى ثلاثة أشهر إذ أنها بمجرد لقاء مريم شعرت بتحرك غير طبيعي للجنين الذي تحمله. وقد تفهّمت على التو بإرشاد إلهي أن مريم هي العذراء الموعودة التي كانت ستحمل الملك المنتظر الذي يأتي ابنها لتحضير مجيئه. (راجع الإنجيل حسب لوقا 1: 23-55).
لا يخفى على بال أحد أن ولادة يوحنا المعمدان نفسه وحبل أمه به لم تكن خالية من عنصر تدخل المشيئة الإلهية المعجزي، لكن مع أن حبل أليصابات بابنها يوحنا جاء في هكذا عمر متأخر بتدخل إلهي لإصلاح عقمها هي وزوجها، فقد كان مولد يوحنا طبيعياً واعتيادياً وليس بطريقة معجزية غير معتادة كما هو الحال مع المسيح. (راجع لوقا 1: 5-23). أما عنصر عدم التشابه الجوهري بين مولد يوحنا المعمدان ومولد المسيح فقد ارتكز في ولادة المسيح العذراوية. فمع تدخل الإرادة والقوة البشرية في عملية مجيء يوحنا المعمدان إلى العالم بقي مجيئه إلى عالم الأحياء نتيجة عمل حبل طبيعية اشترك فيها والديه الاثنين. أما ولادة يسوع فجاءت نتيجةً لحبل معجزي من عمل الله المباشر لم يكن لرجل أي دور فيه على الإطلاق. فيما عدا ذلك الأمر فإن المسيح، كيوحنا وغيره من البشر، حملته أمه في بطنها تسعة أشهر، كما وأن عملية خروجه من بطن أمه جاءت على نحو طبيعي معتاد. من هنا جاء تركيز المشيئة الإلهية في توضيح فرادة مجيء المسيح إلى عالم البشر على ولادته العذراوية بالذات وذلك تشديداً ليس على انفراده بالدور الخلاصي الذي جاء لتنفيذه فحسب بل أيضاً لتمتعه بطبيعته الإلهية والبشرية. صحيح أنه كان في استطاعة الله أن يأتي إلى عالم البشر بأسلوب مختلف فيما لو كانت تلك مشيئته. لكن اختياره لوسيلة الولادة من عذراء حقق ما أراده هو بأسلوب واضح وملفت لانتباه البشر.
إن ميلاد المسيح من العذراء مريم دلّ على أمرين هامين بالنسبة لهويته. أولاً: إن طبيعته الإلهية لم يكن لها أم، وثانياً: إن طبيعته البشرية لم يكن لها أب. ابن الإنسان لم يكن ابن أي إنسان. ثم أن هذين الأمرين فصلا المسيح عن الطبيعة الساقطة الموروثة عن آدم التي يتمتع بها باقي البشر. فلولا ميلاده العذراوي لما صلح إذاً لتنفيذ عملية الخلاص كإنسان لأنه بدون ذلك يكون قد ولد في الخطية كباقي البشر، ولولا ميلاده العذراوي ما كان قد حمل تلك الهوية والطبيعة الإلهية غير المحدودة التي هي وحدها تخوّل له دور حمل خطايا عدد لا يحصى من البشر الهالكين.
- عدد الزيارات: 3285