الفصل الرابع: المسيح مكمّل نبوات الوحي الإلهي
إن أسفار العهد القديم تحتوي على الكثير من المظاهر والإشارات والنبوات التي وجهّت المؤمنين وحضّرتهم لمجيء المسيح إلى عالمهم البشري. هذا واضح جداً لدرجة أن الوحي الإلهي يبدو وكأنه قد رسم في تلك السجلات طريقاً إلى استراحة نهائية بديعة. إن ظهور المسيّا الآتي يتضح تدريجياً عبر صفحات العهد القديم كالغاية النهائية لكل شيء. حين يكشف الرب الإله عن نفسه في ألمع وأكثر الصور وضوحاً فيصبح عمانوئيل، أي أن الله حلّ بين البشر.
لقد كان من الضروري أن يتخذ الأمر ذلك الشكل التدريجي في تاريخ البشر. فلو أن الوحي الإلهي كشف عن عملية التجسّد الإلهي بشكل مفاجئ لما كان في وسع الناس فهم الأمر على الإطلاق. كان لا بد لتلك الخطوات التمهيدية أن تأخذ مجراها، لأن الأمر لم يقتصر على مجرد تحضير الظروف التاريخية والاجتماعية والروحية الملائمة لمجيء المسيح، بل لأن البشر أنفسهم كانوا بحاجة إلى تحضير لكي يفهموا الظروف والأحداث ومن ثم معنى التجسّد الإلهي والقصد منه. من هنا كانت الطبيعة التدريجية لنبوات العهد القديم المختصّة بالمسيح. أما تحقيق السيد المسيح لمواصفات ومتطلّبات تلك النبوة فهو مذهل في دقتّه وتفاصيله لأنه يُعرّف المرء بأن المسيح هو وحده الذي يعطي مسار الوحي الإلهي في العهد القديم مغزاه وقصده وكماله.
ولعل المدهش في هذا الأمر هو كون نبوات العهد القديم الخاصة بقدوم المخلّص كانت قد بدأت مع بداية سجلات الوحي الإلهي نفسها، وسارت جنباً إلى جنب مع تطورات الأحداث. نرى مثلاً أنه منذ البداية وفي مطلع التاريخ البشري عندما حدث السقوط لدى عصيان أمر الله والأكل من الثمار المحرّمة للشجرة التي في وسط الجنة، وعد الرب آدم وحواء بأنه من نسل حواء سيأتي من يسحق رأس الحيّة التي دبّرت المكيدة (راجع تكوين 3: 15). إن لهذا علاقة خاصة بميلاد المسيح العذراوي من امرأة والذي تعرّضنا له في الفصل الثالث من الجزء الثاني. من هنا طبق الوحي الإلهي ذلك القول على أسلوب مجيء المسيح بالقول: ".... لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة..." (الرسالة إلى غلاطية 4: 4). كان لا بد إذاً للمسيح نسل المرأة أن يتصارع وجهاً لوجه مع الشيطان مدبّر السقوط لأن المسيح هو المخلّص من هذا السقوط. لقد واجه المسيح إبليس في مرحلة تجاربه التحضيرية قبل شروعه في خدمته العلنية (راجع لوقا 4: 1-14)، هناك دحره وأثبت تفوقه عليه. كما أنه صارع إبليس عندما أخرج أجناده من سكناهم في عشرات البشر الذين كانوا قد سيطروا عليهم واستعبدوهم. لأجل ذلك دعي محرّراً. (راجع مرقس 5: 1-20 ولوقا 4: 20-22).
لقد سبق مجيء المسيح إلى عالمنا كثيرون ادعوا بأنهم هم "المخلّص المنتظر"، كما جاء بعده كثيرون ادّعوا الشيء نفسه. لكن سرعان ما سقطت ادّعاءاتهم وذهبت أدراج الرياح بمجرّد أن كشف الواقع كيف أن المسيح وحده هو الذي انطبقت عليه أوصاف وتوقعات نبوات الوحي الإلهي. لعل هذا هو السبب الرئيسي من وراء وجود تلك التفاصيل الدقيقة في النبوات عن المخلّص المنشود. البعض يتساءلون عن أهمية تلك اللوائح الطويلة لسلسلة أنساب المسيح التي أوردها الإنجيل. لكن تلك الأهمية هي كامنة فعلاً في ضرورة التيقن المطلق من صحة هويته. فقد كان مفروضاً أن يأتي من نسل ابراهيم عبر ابنه اسحق وحفيده يعقوب بالذات، من سبط يهوذا ومن نسل داود بالذات أيضاً. كما كان من المفترض أن يولد في بيت لحم وأن يقضي بعضاً من طفولته في مصر وتكون نشأته في الجليل. كل هذه كانت أدلة وبراهين تاريخية توفّرت فيه.
لكن نبوات الوحي الإلهي تطرّقت لمواصفات أخرى يجب توفرها في المسيّا المنتظر لها علاقة حيوية ومباشرة بمهمته الخلاصية كالإنسان المعصوم عن الخطأ المؤهل لأخذ مكان البشر وكالله المتجسّد الذي بوسعه إكمال المهمة المرسومة. من جهة طبيعته البشرية كان لا بد وأن يتمتع بعاطفة قوية ومحبة قلبية لبني البشر تعبيراً عن استعداده للتألم والموت عنهم، كما كان من المفروض عليه أن يبرز كإنسان فوق العادة وفريد من نوعه (راجع أشعياء 11: 2-5 و42: 2-6). أما من جهة طبيعته الإلهية فقد كان من الضروري إدراك وجوده المسبق وكونه قد "أتى" إلى عالم البشر من عالم آخر (راجع أشعياء 63: 1). كان من المفروض أيضاً أن تنطبق عليه أوصاف لا تنطبق إلاّ على الله، فيدعى "عمانوئيل" (أي أن الله حلّ مع البشر). و"يسوع" (أي المخلّص) و"الإله القدير" و"الآب الأبدي" و"رئيس السلام" (أشعياء 7: 4 و9: 6).
كان يجب أن يكون نور العالم الذي يقضي على الظلمة (قارن أشعياء 9: 2 مع يوحنا 8: 12). فلو أن بني البشر لم يكونوا على وعي بالظلمة الروحية حولهم لما كان لمجيء النور الروحي من معنى. الواقع أن أحداث وسجلات العهد القديم لم تقتصر إشاراتها في التمهيد لمجيء المسيح على النبوات الواضحة والمباشرة، لقد كان كل شيء يشير بصورة أو بأخرى لمجيء المخلّص ويمهّد له. وقد أجمع علماء الكتاب المقدس من المؤمنين على أن معاملات الله مع شعبه في العهد القديم أبرزت بوضوح إفلاس البشر الروحي وفشلهم الذريع في إرضاء الله بواسطة مجهوداتهم الدينية الخاصة، مما حتّم أن يكون الحل للمشكلة من خارج نطاق قدراتهم الشخصية. كان من الواضح إذاً أنه إذا أمكن الوصول إلى حل لمعضلة فشل البشر في إرضاء عدالة وقداسة الله، فإن ذلك لا بد أن يأتي عبر مبادرة إلهية خاصة. لكن مع كل ذلك كان على البشر أن يدركوا حاجتهم إلى تقديم ذبائح رمزية للتكفير عن خطاياهم، كما كانوا في حاجة إلى إدراك مدى الهوة الروحية التي تفصلهم عن قداسة الله مما تطلّب وجود الكهنة الوسطاء بينهم وبين الله. فلو أن المسيح جاء فجأة لتقديم نفسه كالكاهن والوسيط والذبيحة الحقيقية التي تحطّم الحاجز بين الله والناس لما فهم بني البشر مهمته على الإطلاق. لقد كان عليهم إدراك وجود ذلك الحاجز الروحي الذي أقامته الخطية بينهم وبين الله، ومن ثم حاجتهم إلى إزالة ذلك الحاجز. عندئذٍ فقط يأتي "ملء الزمان" أي يصبح كل شيء جاهزاً ومعدّاً لعملية التجسّد والخلاص.
إن التاريخ يشهد بشكل قاطع لواقعة الصلب، كما أن النبوات كانت قد سبقت وتحدثت عنها بالتفصيل (راجع نبوة أشعياء 53)، لكن الكتاب المقدس بعهديه يطرح الأمر على شكل ضرورة ملحّة ومحتومة لاسترجاع تلك العلاقة الروحية المفقودة بين الله الخالق وبني البشر المخلوقين. فمجيء الأنبياء ونزول الشرائع الإلهية وكافة متضمنات الوحي الإلهي لهم، جميعها لها أدوارها الخاصة في التحضير لمجيء المسيح. إضافةً إلى ذلك فإننا نجد بأن مسار التاريخ البشري حول محيط شعب الله في العهد القديم، ابتداءً من عبوديتهم في مصر وخروجهم منها إلى تأسيس مملكتهم تحت قيادة الملك داود وابنه سليمان وتطورها التدريجي وصولاً بتحطمها وسبيّ الأمة بأسرها إلى بلدان نائية. كل هذا إنما أشار باتزان وانسجام وترابط كامل إلى ضرورة تدخّل الله المباشر وإنجازه لعملية الخلاص.
لكن دور النبوات التي قدمت إشارات ومواصفات مباشرة عن المخلّص الآتي يبقى جوهرياً في العملية كلها. لقد كان من الضروري أن يعطى البشر الأدلّة القاطعة والعلامات الفارقة التي تمكنهم من التمييز ما بين من ادعوا كذباً بأنهم المسيّا المنتظر وما بين صدق المسيّا الحقيقي. فلو أن الأمر ترك لهم للتخمين لفقدت سجلات الوحي الإلهي مقصدها وحيويتها وانسجامها ولكان الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام كل مدّعي بالنبوة أن يطبق على نفسه مواعيد الله بقدوم المخلّص.
إن الأنبياء أنفسهم الذين أوحى لهم الله بتفاصيل قدوم المخلّص الدقيقة اعتبروا أنفسهم أدوات طيعة في التمهيد لذلك الحدث الذي كان سيقع في "الأيام الأخيرة" أو في "ملء الزمان". فعبر صفحات الكتاب المقدس لم يبدر على لسان أحدهم ولا حتى تلميح واحد على أنه هو أفضل الأنبياء أو خاتمتهم. كل واحد منهم أدى دوره في التمهيد لمجيء المسيح بدون تردد أو رغبة في تحسين مركزه الشخصي أو تجميع أتباع له. عندما تحدّث موسى عن مجيء المسيح قال للشعب: "له تسمعون" (تثنية 18: 15) وعندما تحدث داود دعاه "ربي" (مزمور 110: 1) حتى يوحنا المعمدان قال عن المسيح: "الذي يأتي بعدي قد صار قدّامي، الذي لست بمستحقٍ أن أحلّ سيور حذائه" (يوحنا 1: 27)، "هذا هو ابن الله" (يوحنا 1: 34)، "هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يوحنا 1: 29). كثيرون غيرهم من الأنبياء كان السيد المسيح نفسه قد أشار لأقوالهم مصرحاً: "إنه مكتوب في الأنبياء ويكون الجميع متعلمين من الله. فكل من سمع من الآب وتعلم يقبل إليّ. ليس أن أحداً رأى الآب إلاّ الذي من الله. هذا قد رأى الآب. الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية. أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المنّ في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد والخبز الذي أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يوحنا 6: 45-51). إذاً السيد المسيح نفسه رأى أن دور كل الأنبياء وكل متضمنات الوحي الإلهي كانت لأجل التحضير لمجيئه. عندما تذكرت المرأة السامرية أقوال الأنبياء قالت للمسيح: "أنا أعلم أن مسيّا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء"، كان رد يسوع عليها: "أنا الذي أكلمك هو" (يوحنا 4: 25-26). وعندما قال له اليهود "ألعلك أعظم من أبينا ابراهيم الذي مات. والأنبياء ماتوا. من تجعل نفسك؟" لم يتردد يسوع في أن يكشف عن تفوقه وعظم مكانته فوق كل الأنبياء فأجابهم: "أبوكم ابراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح... قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن" (يوحنا 8: 53-58).
خلاصة القول إذاً هي أن المسيح لم يحقق نبوات العهد القديم فحسب، بل إنه كان محور وقصد كل متضمنات الوحي الإلهي.
- عدد الزيارات: 3411