الفصل الثاني: التجسّد
جواباً على السؤال: "كيف صار المسيح إنساناً وهو ابن الله؟" يجيب الكتاب المختصر لأصول الإيمان: "إن المسيح ابن الله صار إنساناً باتخاذه لنفسه جسداً حقيقياً ونفساً عاقلة، إذ حبل به بقوة الروح القدس في رحم مريم العذراء وولد منها ولكن بدون خطية".
خلق الإنسان، خلافاً لكل الحيوانات، على صورة الله. وأعطي طبيعة روحية وعقلية ونفساً حية. يقول الرسول بولس بأن الله "ليس بعيداً عن كل واحد منا، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد" (أعمال الرسل 17: 27و28). ومع أن العنصرين الإلهي والبشري متميزان واحدهما عن الآخر، ليسا أجنبيين أحدهما عن الآخر وليسا أيضاً متضادين أو متعارضين. فالإنسان هو شرارة من نار عظيمة أو إناء فارغ بحاجة لأن يمتلئ من النبع غير المحدود، لذلك فلا معنى لوجوده سوى في صلته بالله. وبما أن الإنسان مخلوق على صورة الله أعطي سلطة على مخلوقات وموجودات الأرض. (راجع سفر التكوين 1: 28) إنه في الواقع يتميع بمركز إلهي مصغّر ومحدود. ويقول الوحي الإلهي عن البشر: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم" (مزمور 82: 6)، وهذا ما اقتبسه المسيح عندما وجّه كلامه لليهود قائلاً: "أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت أنكم آلهة" (يوحنا 10: 34). إذاً الترابط ما بين العنصرين الإلهي والبشري هو في الواقع من متضمنات ونتائج خلق الله للإنسان. وبما أن الإنسان خلق على صورة الله بالذات فإن كلمة الله الأزلي أمكنه وهو كامل الألوهية، أن يصبح ابن الإنسان، ذلك لأن الإنسان هو بالطبيعة ابن الله. لم يكن ممكناً للمسيح، وهو كلّي الألوهة، أن تصبح له طبيعة أجنبية عن طبيعته ولا أن يصبح على صورة مغايرة لصورته هو.
لم تكن عملية التجسد غاية في حد ذاتها، بل كانت وسيلة للغاية الأسمى لأن الإنسان بسقوطه في خطية العصيان وعدم الثقة في قول الله قد فصل نفسه عن الله وأفقد نفسه كل القدرة على تدبير خلاصه بنفسه. لهذا السبب أخذ الله على نفسه ذلك العاتق أي عملية خلاص الإنسان. ومن أجل ذلك صارت عملية التجسد. فالله الذي تجسّد في جسم بشري أخذ مكان الإنسان تجاه المتطلبات للشريعة والعدالة الإلهيتين. فقط من هو حقيقة إله يمكنه أن يعطي قيمة غير محدودة لذلك الألم والموت. إذاً فإن الغاية القصوى لتجسّد الرب هي أن يموت. "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت.... ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية.... من ثم كان ينبغي أن يشبه أخوته في كل شيء لكي يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً في ما لله حتى يكفّر خطايا الشعب" (عبرانيين 2: 14-17).
وبما أن النص الذي أورده الوحي الإلهي في رسالة الرسول بولس إلى فيليبي (2: 5-11) هو الأكثر وضوحاً في عقيدة التجسد، يشير هذا النص بأن المسيح "كان في صورة الله"، لكنه "أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس". وقد وردت في رسائل الرسول بولس الموحى بها من الروح القدس إشارات أخرى لموضوع التجسّد أمثال ذلك هو ما ورد في (كورنثوس الثانية 8: 9) حيث يقول: "ربنا يسوع المسيح.... من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره". وفي (غلاطية 4: 4) يقول: "لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني". وفي (كولوسي 1: 19) يقول الوحي الإلهي عن المسيح: ".... فيه سُرّ أن يحل كل الملء". وفي (2: 9) من نفس الرسالة يقول: "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً". المسيح إذاً، في ولادته من امرأة أخذ على نفسه طبيعة بشرية ومع أنه بقي على سموه الإلهي إلاّ أنه صار إنساناً حقاً، فإن حلول "كل ملء اللاهوت" في جسد المسيح إنما يعني أن كل ألوهية الله، كل ما يجعل الله الإله الحق حلّ في المسيح... لبس لباساً جسدياً.... كل من يتطلّع إلى يسوع المسيح يرى بدون شك جسداً وإنساناً، ولكن بينما يبدو ذلك واضحاً للعيان فإنه من الضروري أن نتذكر بأننا في المسيح نرى الله بالذات بكل كمال لاهوته في لباس إنساني. يسوع المسيح هو إذاً "الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس الأولى 3: 16).
لم تكن غاية الله من التجسد أن يوفر الفداء لبني البشر فحسب بل كانت الغاية أيضاً الكشف عن ذاته للبشر بصورة أكثر كمالاً من مجرد سجلات الوحي الإلهي عبر الأنبياء. وهذا يعني أن الحق والسمو يصبحان المبادئ الرئيسية التي تسيّر الحياة الداخلية لعدد متزايد من البشر عبر الأجيال. في فترة العهد القديم كلّم الله البشر عبر الأنبياء كاشفاً لهم شيئاً عن طبيعته وعن حالة الإنسان الخاطئة التعيسة، وأيضاً عن مخططه الإلهي للخلاص. لكن فترة العهد الجديد التي نعيش فيها تتميز بذلك المجد الكامن في الحقيقة وهي أنّه في المسيح جاء الله شخصياً، وفي شخص المسيح وعمله أعطى الله للبشر وحياً عن نفسه وعن مخطط الخلاص. فالإله الأكبر العظيم الذي خلق هذا العالم جاء فعلاً إلى العالم وعاش بينه. هذا هو سر التجسّد أن البشر بأعينهم المجردة رأوا من هو في الحقيقة الله بالذات.
المسيح هو نهاية وكمال الوحي الإلهي للبشر، "الله لم يره أحد قط" (يوحنا 1: 18) لكن في المسيح، الله الذي هو الروح غير المحدود، كشف عن نفسه للبشر في كونه قد صار على هيئة البشر المحدودة حتى أنه في استطاعة البشر المحدودين أن يعوه في نطاق قدرتهم المحدودة. ومن المهم أن نلاحظ بأن المسيح عندما دخل في تلك العلاقة الحيوية الشخصية مع الطبيعة البشرية أضفى عليها بركة لا تحصى وذلك نتيجة لتداخل اللاهوت فيها عبر عملية التجسد. وبهذا فإن الطبيعة البشرية أصبحت ذات مكانة أسمى من مكانة الملائكة نفسها، لأن الله لم يختر أن يقترب بهكذا علاقة شخصية حميمة مع أي من خلائقه سوى مع بني البشر. "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما.. لأنه حقاً ليس يمسك الملائكة بل يمسك نسل ابراهيم" (عبرانيين 2: 14-16). كما أن الطبيعة البشرية التي اتخذها المسيح لنفسه في التجسد ستبقى له إلى الأبد. لقد أحضرها معه حين قام من الموت وعاد بها إلى الآب. ففي السماء ظهر ليوحنا كشبه ابن إنسان في صورة بشرية (رؤيا 1: 13)، كذلك فإن استفانوس وهو يستشهد رأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله في مركز الإكرام والعظمة والقوة (أعمال الرسل 7: 56)، وهكذا فإنه بقيامة المسيح وصعوده وجلوسه على عرش العظمة رفع معه الطبيعة البشرية وأوصلها فوق كل مكانة في الكون. إن الإقامة القصيرة التي قضاها على الأرض لم تكن مجرد حضور إلهي أو ظهور وقتي لله في صورة بشرية، بل كانت تجسّداً حقيقياً ودائماً. بعض شخصيات العهد القديم كانوا قد شاهدوا ظهورات إلهية، مثال أولئك، ابراهيم (تكوين 18: 1-33) ويعقوب (تكوين 32: 24-30) وموسى (خروج 24: 9-11، 34: 5و6) ويشوع (يشوع5: 13-15) ووالدي شمشون (قضاة 13: 2-22) وأشعياء (أشعياء 6: 1-5) وأصدقاء دانيال الثلاثة شدرخ وميشخ وعبدنغو (دانيال 3: 2-22). لكن تجسد المسيح كان يختلف عن تلك الظهورات اختلافاً جوهرياً. ففي التجسد ولد الله كطفل في بيت لحم، ولمدة ثلاث وثلاثين سنة استمر ذلك الوصل ما بين الله والطبيعة البشرية بصورة بدت فيها الطبيعة البشرية واضحة جلية.
عقيدة التجسّد المسيحية لا يمكن المغالاة في تقدير أهميتها، فإن صحة واستقامة المسيحية كالدين الفدائي والخلاصي الموحى به من الله تثبتان أو تسقطان مع هذه العقيدة بالذات. ولعلّ أوضح بيان لهذا الواقع هو ما ورد في رسالة يوحنا الأولى والتي أوحي بها في وقت تزايد فيه عدد المرتدين وناكري الإيمان، وقد كان القصد منها ترسيخ إيمان المؤمنين ضد الضلالات التي انتشرت بكثرة وشراسة. أما إحدى تلك الضلالات الرئيسية فكانت ضلالة نكران تجسّد المسيح، لذلك نجد بأن يوحنا لم يصر على الاعتراف بحقيقة كون يسوع قد أتى إلى العالم بالجسد فحسب، بل إنه يجعل من هذه الحقيقة أساساً من أساسات الإنجيل. يقول البشير يوحنا "كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي والآن هو في العالم" (4: 3)، ثم يضيف قائلاً: "كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله.... من له الابن فله الحياة ومن ليس له الابن فليست له الحياة.... ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية" (رسالة يوحنا الأولى 5: 1-20).
- عدد الزيارات: 4469