الفصل الرابع: تواضع المسيح
يخبرنا الرسول بولس في رسالته إلى فيلبي (2: 8) بأن المسيح "وضع نفسه" عند إنجازه لعملية الفداء. وقد عبّر كتاب أصول الإيمان عن هذا الموضوع كما يلي: "كان اتضاع المسيح بولادته وذلك في حالة متدنية وبجعله تحت الشريعة وبتحمله مشقات هذه الحياة وغضب الله والموت اللعين على الصليب وبدفنه ومكوثه تحت سلطان الموت إلى حين".
بحسب هذا البيان فإن المرحلة الأولى في اتضاع المسيح كانت في ولادته. فكونه رئيس المجد الذي يشترك في بهاء وجلال الله الآب قد تنازل لكي يتخذ (في وحدة شخصية ومستمرة مع ذاته) طبيعة هي أدنى للغاية من طبيعته الأصلية. حتى لو أنه دخل العالم كملك متسربل بالأرجوان ومتوّج بالذهب لكان ذلك تنازلاً كبيراً. أما أن يكون قد ولد كطفل عاجز يتكل بالكلية على أمه وأن يكون فقيراً لتلك الدرجة المؤثرة بحيث لم يكن له موضع ليسند رأسه، وأن تكون حياته معرضة للخطر بسبب اضطهاد هيرودس لدرجة أن والداه فرّا هاربين إلى مصر. هذه الأمور تعتبر في حد ذاتها تصرفاً يكشف بجلاء عن تنازله الكلي واتضاعه المطلق لصالحنا. وهذا ما يصعب على عقولنا إدراكه. فمع أنه كان مصدر الشريعة نفسها، فقد اعتاد في نموه على محدودية كيانه البشري وأخضع نفسه لمتطلبات الختان. وهكذا أخذ مكانه تحت الشريعة كما لو كان يهودياً عادياً. لنلقي نظرة عما يذكره أحد علماء اللاهوت البارزين من أن المسيح سكن في بيت حقير ضمن قرية وضيعة ومحتقرة تدعى الناصرة، وسط جيران خشنين وأفظاظ وفي محيط ضيق ومنكمش ومن أكثر الأماكن تجاهلاً من قبل ذوي الشأن. ومع أنه رب الجميع فإنه كان خاضعاً ليوسف ومريم كطفل بشري اعتيادي. كما وأنه كدّ في حانوت النجار وأخضع نفسه لمشقات المساكين والمتضعين. لقد دفعته خدمته الجهارية للاتصال بكل صنف ولون من البشر، ابتداءً بالضعفاء والخطاة نزولاً بالسفلاء والمنحطين فلم يتردد عن التوقف للتعامل معهم جميعاً. ومع أنه كان إلهاً قدوساً طاهراً فقد عاشر هؤلاء يوماً بعد يوم وكأنه واحداً منهم. وكان يأكل مع العشارين المحتقرين ومع الفريسيين المتكبرين. لقد تعرّض للجوع والعطش وشعر بهما مرات كثيرة. لم يكن له موضع ليسند رأسه حتى إنه لم يكن لديه ما في جعبة أدنى الأدنياء في مجتمعه. فقد قاسى عداوة مرّة واضطهاداً كاسراً على أيدي زعماء اليهود. ومع أن اتضاع وتألم المسيح استمرا بشكل أو بآخر عبر كافة مراحل حياته الأرضية فلقد ازدادت وطأة آلامه لدى اقتراب خدمته الخلاصية من نهايتها. لقد تعرّض في المرحلة الأخيرة من حياته على الأرض لاختبار أعمق وأقسى، ألا وهو اختبار الذل والبغض من قبل أعدائه. لقد وصلت المذلة إلى ذروتها عندما جرّ محتقراً ومذلولاً من قبل أعدائه وسط صيحات اللامبالاة القاسية وعواطف الشعب الهائجة ضدّه والمنادية بجهل وغباء منقطع النظير "اصلبه... اصلبه...". إنه في ذلك الوقت بالذات كانت بداية حمله للدينونة الهائلة التي كان قد سبق فرآها آتية لا محالة على كافة الأمة اليهودية، تلك الأمة التي كان ينتمي إليها ويحبها. جميع تلك الأمور كانت عبئاً عليه. إن تألمه وموته على الصليب إنما كانا أشدّ أنواع الموت وأكثرهما رهبةً وعذاباً عبر تاريخ الجنس البشري.
لم تكن الآلام الجسدية كل ما كان عليه تحملّه على الصليب. فبما أنه كان يقوم بعمله الخلاصي عن شعبه، أي يبذل نفسه فدية، فإنه عومل كما لو كان هو بالذات قد أخطأ واستحق العذاب. حتى أن حضور الآب الذي كان يلازمه في كل لحظة من لحظات حياته حجب عنه في تلك اللحظات تماماً كما يحجب الظلام نور الشمس. أما نفسه الحساسة فقد تركت لتتألم وحدها، في خصام عنيف مع قوى الشرّ الغاشمة التي سعت باستماتة يصعب وصفها في هذا الظرف الأخير، آملةً في إسقاطه وإحباط عمله الفدائي. أما صراخ عذابه "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" فما هو إلاّ دليل على شدة تألمه. أما نحن فلا يمكننا أن نتفّهم ولو جزئياً مشقة ما تحملّه وهو معلّق على خشبة الصليب. ولكننا نعلم أنه لم يعمل أية خطية ولم يكن للموت أي حق فيه. لقد أخذ مكاننا باختياره وتحمل العقاب الذي استحققناه نحن. وهكذا عمل لنا كفارة عن خطيتنا. لذلك لا يمكننا مجرد طرح مسؤولية صلبه على يهود ورومان ذلك العصر، بل ما يمكننا فعله هو أننا بالتوبة والاتضاع نعترف بمظهر الجريمة الأوسع، فخطيتنا نحن وخطيتهم هم هي التي جلبت عليه تلك الآلام المبرحة. لقد تألم بصورة خاصة لأجل المعذبين أفراداً وجماعات بغضّ النظر عن العصر الذي يعيشون فيه لأنه حمل عنهم ذلك الحمل.
ثم إن اتضاع المسيح تمّ بدفنه في مقبرة أعدّت لبشر لم يكن موتهم متوقعاً فحسب بل كان أمراً محتوماً، ففي دفنه اشترك نهائياً مع كل البشر الذين يموتون ويدفنون والذين تنحل أجسادهم وتزول. ولكن جسده لم ينحل بل بالأحرى قام من الأموات أمجد قيامة بعد ثلاثة أيام.
- عدد الزيارات: 4412