Skip to main content

الفصل الأول: دلائل بشرية المسيح

الجزء الثاني

إنسانية المسيح (ناسوته)

الفصل الأول: دلائل بشرية المسيح

في الجواب على السؤال "من هو فادي مختاري الله؟" يقول كتاب أصول الإيمان "إن الفادي الوحيد لمختاري الله هو الرب يسوع المسيح الذي وهو منذ الأزل ابن الله صار إنساناً، وهكذا كان ولا يزال إلهاً وإنساناً معاً، ذا طبيعتين متميزتين وأقنوم واحد إلى الأبد" وفي الجواب على السؤال "كيف صار المسيح إنساناً وهو ابن الله؟" يجيب: "إن المسيح ابن الله صار إنساناً باتخاذه لنفسه جسداً حقيقياً ونفساً ناطقة، إذ حبل به بقوة الروح القدس في رحم مريم العذراء وولد منها بدون خطية".

كما رأينا في الفصول السابقة إن المسيح يتمتع بطبيعة إلهية وله كل صفات وألقاب الله. ومع هذا كلّه علينا ألاّ ننسى أنه، وهو على الأرض قد تمتع بطبيعة بشرية حقيقية وكاملة. فقد كان عظماً من عظامنا ولحماً من لحمنا عاش أثناء وجوده على الأرض كأي إنسان آخر عرضةً لكل الصعوبات والتجارب والآلام. فمن جهة ناسوته أو طبيعته البشرية، هو واحد منّا تماماً كما كان متّحداً مع الله من جهة لاهوته أو طبيعته الإلهية. فعندما كان طفلاً كانت له مشاعر ومزايا الأطفال وعند نموه "تقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس".

من فم أمه تعلم أولاً أمور الله الطاهرة وعند ركبتيها كان يركع مراراً كثيرة ليصلي. لقد نما في بلدة الناصرة التي لم تكن لها مكانة معتبرة ولا شهرة ذائعة. أما يوسف ومريم قد احتفظا بتلك العجائب التي رافقت طفولة يسوع ومن المرجح أن أمه لم تخبر بها إلاّ الفريق المقرّب من تلاميذه بعد قيامة المسيح. أما رفقاء وأقرباء ومعاصري المسيح فلم يلاحظوا على الأغلب أنه خلال نموه كان يتمتع بمزايا فائقة للطبيعة. ومن المرجح أن يوسف الذي كان خطيب أمه عندما كانت حبلى به كان قد مات قبل أن يشرع يسوع في خدمته الجهارية. وبما أن يسوع كان الابن البكر فإن مسؤولية إعالة أمه وبقية أسرته وقعت على عاتقه، وكنجّار كان يعرف معنى الكد اليومي. ومع أن الكتاب المقدس يسمي المسيح "آدم الثاني" فإنه لم يأت إلى عالم البشر كإنسان بالغ، بل مرّ بكل مراحل الاختبارات البشرية من طفولته حتى رجولته. لقد عاش يسوع المسيح حياة بشرية في كل لحظة وساعة ويوم من وجوده في عالم البشر.

إن حقيقة كون يسوع المسيح قد تمتع بطبيعة بشرية أصيلة وعاش حياة بشرية اعتيادية هي بالغة الوضوح والبيان عبر صفحات الكتاب المقدس. لقد تضمن أول مواعيد الوحي الإلهي بمجيء المخلّص كما يذكره سفر التكوين (3: 15) عن حقيقة ناسوت المسيح للتأكيد على أنه سيكون نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية. هناك إذاً في مطلع سجلات الوحي الإلهي دلالة قاطعة على أن الله قصد أن يستخدم نائباً بشرياً للقيام بمهمة الفداء. أما الوعد المعطى لإبراهيم فيدل أيضاً على أن العهد الأبدي المقام معه من قبل الله سيتحقق في نسله (تكوين 17: 19و22: 18). ذلك هو الموعد الذي تحدث عنه الوحي الإلهي على لسان الرسول بولس عندما قال بأنه لم يتم في الشعب اليهودي عامةً بل في المسيح بالذات (غلاطية 3: 16و17). أما داود فكان قد وعد بأن نسله سيجلس على عرشه من بعده إلى الأبد (صموئيل 7: 12-16) و(أخبار الأيام الثاني 6: 16)، هذا ما ورد في قول المزمور (132: 11) "من ثمرة بطنك اجعل على كرسيك". أما النبي أشعياء الذي تحدث في نبوته عن مجيء الفادي بتفصيل عجيب فإنه تنبّأ بأن المسيح كان سيولد من عذراء بطريقة معجزية (أشعياء 7: 14)، والنبي ميخا ذكر بأن المخلص كان سيولد في بيت لحم (ميخا 5: 2).

إن العهد الجديد ينسب إلى يسوع المسيح مشاعر واختبارات بشرية حقيقية. فيما يلي لائحة ببعضها:

1- الولادة

- ولما ولد يسوع في بيت لحم... (متى 2: 1)

- إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص... (لوقا 2: 11)

2- النمو

- وكان الصبي ينمو ويتقوّى بالروح ممتلئاً حكمة...

- وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس. (لوقا 2: 39و52).

3- التعب

- فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر... (يوحنا 4: 6).

4- النوم

- غطت الأمواج السفينة وكان هو نائماً. (متى 8: 24).

- وكان هو في المؤخر نائماً، فأيقظوه... (مرقس 4: 38).

5- الجوع

- فعندما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً.

- وفي الصباح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع. (متى 4: 2و21: 18).

6- العطش

- يسوع... قال أنا عطشان. (يوحنا 19: 28).

7- الغيظ

- فلما رأى يسوع ذلك اغتاظ. (مرقس 10: 14).

- فنظر حوله إليهم بغضب حزيناً على غلاظة قلوبهم (مرقس 3: 5).

8- الحنو والعطف

- ولما رأى الجموع تحنن عليهم. (متى 9: 36).

- فتحنن يسوع (على الأبرص) ومدّ يده ولمسه. (مرقس 1: 41).

9- المحبة

- فنظر إليه يسوع وأحبه. (مرقس 10: 21).

- وأحد تلاميذه الذي كان يسوع يحبه... (يوحنا 13: 23).

10- الفرح

- كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم (يوحنا 15: 11).

11- الحزن والهمّ

- وابتدأ يحزن ويكتئب. (متى 26: 37).

- بكى يسوع... (يوحنا 11: 35).

- الآن نفسي قد اضطربت. (يوحنا 12: 27).

12- التجربة

- ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرّب من إبليس. (متى 4: 1).

- لأنه في ما هو قد تألم مجرّباً يقدر أن يعين المجرّبين. (عبرانيين 2: 18).

- لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا بل مجرب في كل شيء مثلنا، بلا خطيئة. (عبرانيين 4: 15).

13- الصلاة

- صعد إلى الجبل منفرداً ليصلي. (متى 14: 23).

- وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض (لوقا 22: 44).

- الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرّعات. (عبرانيين 5: 7).

14- التألم

- هو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. (أشعياء 53: 5).

- هكذا مكتوب... أن المسيح يتألم.(لوقا 24: 46).

- مع كونه ابناً تعلّم الطاعة مما تألم به. (عبرانيين 2: 10).

15- الموت

- فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح. (متى 27: 50).

- إن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. (1كورنثوس 15: 3).

وهكذا فقد أعطي لنا أن نفهم بأنه كانت ليسوع المسيح طبيعة بشرية حقيقية بما فيها من مزايا البشر الاعتيادية كما كان أيضاً عرضةً لنفس الميول البشرية الطبيعية. أما كون طبيعة الرب يسوع المسيح البشرية تامة فهو واضح من قول الوحي الإلهي "ينبغي أن يشبه أخوته (أي البشر) في كل شيء" (عبرانيين 2: 17). إن يسوع المسيح بكل وعي وعن قصد سابق دعى نفسه "إنساناً" قائلاً: "تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمتكم بالحق" (يوحنا 8: 40). وقد دعاه البعض من معاصريه "إنساناً" هذا ما قاله بيلاطس عنه: "هو ذا الإنسان" (يوحنا 19: 5).

- يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله. (أعمال الرسل 2: 22).

- يوجد وسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح. (1تيموثاوس 2: 5).

أما سلسلة الأنساب التي تدل على سلالة يسوع المسيح البشرية فلها دلالاتها القاطعة على ناسوته (راجع متى 1: 1-17 ولوقا 3: 23-28). تلك اللوائح من شأنها ليس الدلالة على ناسوت المسيح فحسب بل أيضاً على كونه الوريث الملوكي والشرعي لداود. ثم إن لقب "ابن الإنسان" بغضّ النظر عمّا يحويه من معنى شاسع وعميق هو في معناه الأساسي يشير إلى طبيعة المسيح البشرية. هذا وإن الكنيسة المسيحية على مدى العصور والأجيال كانت دائماً تعتقد بأن مسيحها لم يكن إلهاً فحسب بل إنساناً أيضاً.

إن محدوديات يسوع في مجالات المعرفة تكوّن موضوعاً شيقاً للدراسة. فكما لاحظنا أنه "كان يتقدم في الحكمة وفي القامة والنعمة عند الله والناس"، وكإنسان لم يكن عليماً بكل شيء فإن الطبيعة البشرية تتصف بالمحدودية وإذ تمتع بها يسوع فقد ألحقت به المحدودية التي للبشر. من نتائج هذه المحدودية نرى أنه تعجّب من إيمان قائد المئة (لوقا 7: 9). كما أنه أبدى عدم معرفته عن وقت انقضاء العالم. ففي إحدى عظاته قبيل صلبه بأيام أخبر تلاميذه عن وعي وقصد بأنه لم يكن يعرف وقت انقضاء العالم: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا ملائكة السموات إلاّ أبي وحده" (متى 24: 36). راجع أيضاً (مرقس 13: 32).

كان يسوع يستعمل قوة معجزية فوق الطبيعة عندما كان يعالج حالات طالبي الشفاء. فعندما لمست ثوبه امرأة معها نزيف دم مزمن، سأل وهو بين الجموع عن الذي لمسه لأنه شعر على الفور بأن قوة خرجت منه (لوقا 8: 45). راجع أيضاً (مرقس 5: 25-34). كذلك عندما أخبره مبعوث أسرة لعازر بأن هذا الأخير مريض عرف يسوع على الفور أن لعازر قد مات. وكان يعرف كذلك بأن القصد من المرض "ليس الموت بل لأجل مجد الله ليتمجد ابن الله به" (يوحنا 11: 4). ورغم معرفة يسوع على التو أن لعازر مات سأل: "أين وضعوه؟" وبكى مع الأختين الثاكلتين لكنه ما برح أن أظهر قوته الفائقة للطبيعة بإقامة لعازر من الأموات بعد أن كان ميتاً لمدة أربعة أيام. (راجع يوحنا 11: 1-44). وعند عودته من بيت عنيا جاع ورأى من بعيد شجرة تين عليها ورق وعندما اقترب إليها لم يجد فيها ثمر فأيبسها بمجرد أمر منه. (راجع مرقس 11: 12-14 و11: 20).

كتب عن هذا الموضوع أحد كبار علماء اللاهوت يقول: "يسوع نفسه أخبرنا استناداً إلى البشير مرقس (13: 32)، بأنه كان يجهل وقت يوم الدينونة كما وأنه أظهر لنا مراراً وتكراراً رغبته في الحصول على معلومات من بني البشر. لقد كان بالفعل محدوداً في طبيعته البشرية ولكن بدون أي نقص في صفاته. وكان أيضاً عرضة للتجارب كما كان يشعر دائماً بحاجته للاعتماد على الله. وهو رجل صلاة ملمّ بالفرق بين ما يتعارض مع مشيئة الله وشريعته وما ينسجم ويتفق معها. لم يكن يتمتع بعقل إنسان فقط، بل بقلب إنسان أيضاً، وأكثر من ذلك إنسان بدون خطية. إنه من الضروري لنا أن ندرك بأنه قد نما تماماً كما ينمو البشر وهذا لا ينطبق على أيام حداثته فحسب بل أيضاً على كل مرحلة من مراحل حياته البشرية على الأرض. فقد تمّ نموه في المعرفة والحكمة والاحترام والإحسان والقوة الأخلاقية والطهارة والقداسة. لقد كان من الطبيعي أن ينمو يسوع المسيح نموّاً عادياً تماماً كما ينمو البشر في كافة جوانب الطبيعة البشرية".

كان من الضروري للمسيح أن يختبر كل ما هو للإنسان ولكن مع كل هذا التشديد الضروري على الدلائل المؤكدة لصحة وحقيقة وأصالة ناسوت المسيح فإنه من الواجب التشديد على الأدلة المؤكدة لأصالة وكمال طبيعته الإلهية. ففي نفس الوقت الذي يبدو فيه المسيح غير عالم بقضية معينة (راجع مرقس 13: 32) فإنه يظهر كمن هو عالم بكل شيء. (يوحنا 16: 30 و21: 17). وفي نفس الوقت الذي نرى فيه أنه رغب في الحصول على معلومات من مصادر خارجية وسأل عن أمور لا يعرفها ويتعجّب من أمور أدهشته، فإنه أظهر أيضاً أنه كان ملماً بكل ما يحدث أو ما قد حدث دون أن يخبره أحد. لقد علم بتفاصيل صلاة نثنائيل السرية. (يوحنا 1: 47). كما أنه كان على علم بخفايا حياة الامرأة السامرية (يوحنا 4: 29)، ثم إنه كان يعرف حتى أفكار أعدائه بالتمام (متى 9: 4). نعم، لقد كان على علم بكل ما في الإنسان (يوحنا 2: 25). وهذا الواقع المزدوج لم يكن بالأمر المشوش أو المزعج، بل إنه كان يمثل أعظم انسجام وأعمق تضامن. صحيح أن المبعوث أخبره بمرض لعازر ولكنه لم يكن في حاجة لمن يخبره بحقيقة كون لعازر قد مات. وعلى نفس المنوال نرى كيف أنه في الوقت الذي عبّر فيه عن ناسوته ومشاعره في بكائه على لعازر وحزنه عليه فإنه عبّر عن ألوهية بإقامة لعازر من الموت بمجرد أمر تفوه به.

إيجازاً لما سبق فإننا في كل مكان نرى هذه الحقيقة المزدوجة العجيبة في حياة يسوع المسيح، أي أنه له المجد كان يتمتع بطبيعة إلهية وبشرية في آن واحد. والذين يصلون إلى معرفة يسوع المسيح من متضمنات العهد الجديد يجدون أنه لم يكن إنساناً فحسب بل إنه كان أعظم. وكان يشعر مع من يقترب إليه من البشر. لقد تقبل بصدر مفتوح إحضار الأمهات لأطفالهن إليه كما وأنه فتح قلبه للمرأة السامرية مصغياً لها بصدق واهتمام عند لقائه بها. إنه الإنسان الذي شعر بعمق مع مريم ومرثا وشاركهما البكاء على أخيهما لعازر. لقد صادق صيادي الجليل الفقراء والذين كانت مظاهرهم الخارجية تدعو للنفور وثقافتهم المحدودة تبعدهم عن الناس.

أما نحن الذين نعيش حوالي ألفي سنة بعد قدومه إلى عالم البشر فإننا نجد أنفسنا مرتبطين به بأقوى وأوثق الروابط الشخصية من المحبة والصداقة. فلنا تماماً كما كان للمسيحيين الأولين يقول: "أنتم أحبائي" ومع أنه خالقنا وربنا ونحن نتكل عليه ونطيعه ولكننا ندعوه صديقاً لنا. فالحقيقة هي أننا لا نكون قد دخلنا بالفعل إلى حياة الشركة معه ما لم نتعرف عليه ليس فقط كربنا وخالقنا بل أيضاً كصديقنا الحميم. لقد قال لتلاميذه: "لا أعود أسميكم عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي (يوحنا 15: 15). وعبر العصور والأجيال لا زال صوته يدوي قائلاً: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (متى 11: 28).

كل مسيحي حقيقي يشعر بما قد قام به يسوع من أجله يجب أن يشعر كما اختبر التلميذ يوحنا بأنه "التلميذ الذي كان يسوع يحبه". ويا له من خطأ فادح أن يلجأ البعض لشفاعة البشر ووساطتهم أحياء كانوا أم أمواتاً كواسطة للوصول إلى المخلّص. إننا بتصرف كهذا نكون قد أبعدنا المسيح عن المؤمنين الذين أحبهم ومات عنهم مكفراً عن خطاياهم وقام في اليوم الثالث لتبريرهم. 

  • عدد الزيارات: 5208