الفصل الثالث: ألقاب وصفات المسيح الألوهية
أولاً: الألقاب المنسوبة للمسيح
"يسوع" هو الاسم الذي يعني مخلّص أو منقذ وهو ما نسبه الملاك للمسيح عندما كشف حقيقة مجيئه لكل من يوسف ومريم. قال الملاك ليوسف: "وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم" (متى 1: 21) وقال لمريم: "ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع" (لوقا 1: 31). "يسوع" هو الصيغة اليونانية للاسم العبري "يشوع" الذي يعني "يهوه هو الخلاص". أما وقد دعي المسيح بـ "يسوع" فإن ذلك إنما عبّر عن مركزية المهمة الخلاصية التي جاء لينجزها.
واسم المسيح يعني الممسوح وكان اللقب الرسمي للمخلّص. وكثيراً ما استعمل كاسم علم، وهو يأتي من الأصل العبري "مشيح" أي "مسيّا" والذي أصبح "كريستوس" في اليونانية التي هي اللغة الأصلية للعهد الجديد. فاللقب "مسيح" يعني الممسوح من قبل الرب وهذا له أساس قوي ومتواصل في تاريخ الشعب العبري عندما كان يتم احتفال تتويج ملوكهم بالمسح بالزيت (راجع صموئيل الأول 9: 16و10: 1 وسفر صموئيل الثاني 19: 10). فالملك كان يدعى أحياناً "مسيح يهوه" (راجع سفر صموئيل الأول 24: 6). إذن لقب "المسيح" هو للتذكير بأن الملك هو من أعلى طراز، أما الاسم المركب "يسوع المسيح" فالمقصود منه هو "المخلص الممسوح" أي المخلّص المتمتع بأسمى مكانة من وجهة نظر الله.
تبين لنا سجلات العهد الجديد حقيقة هامة هي أن يسوع تقبّل من الناس ما أسدوا عليه من أسمى الألقاب. فقد سمح لهم بأن يصفوه بما يوصف به الله. وعندما منع الآخرين من تقبّل ألقاب مثل "المعلم" أو "السيد" (متى 23: 8-10) نجده قد قبل لنفسه بأن يدعى بتلك الألقاب (يوحنا 4: 31و9: 2)، بل إنه أكثر من ذلك امتدح من أعطوه إياها إذ قال: "أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأني أنا كذلك" (يوحنا 13: 13). وعندما كانوا يهيئون دخوله للقدس في موكب رسمي أرسل المسيح اثنين من تلاميذه ليأتيا بجحش وأمرهم بأن يقولوا لصاحبه بأن "الرب محتاج إليه" (مرقس 11: 3). ويدعى المسيح عبر صفحات العهد الجديد "سيدا" ليس بمجرد المعنى الذي فيه يقدم للبشر قسطاً من السلطة والشرف أو المكانة، بل بمعنى كونه حقّاً السيد الأسمى ومطلق السيادة في ملكوته. وهو ربّ المسيحيين المؤمنين به مثلما كان اليهود يؤمنون بأن يهوه هو الرب في أيام العهد القديم.
قيل عنه في الإنجيل حسب (لوقا 2: 11و6: 5) "يولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب" و"ابن الإنسان هو ربّ السبت". وفي الرسالة إلى فيليبي (2: 11و4: 5) "... يعترف كل لسان بأن يسوع المسيح هو ربّ لمجد الله الآب"، ثم "الربّ قريب".
في الرسالة الأولى إلى كورنثوس (2: 8) ذكر: "رب المجد" وورد في الإنجيل حسب (متى 15: 22) "ارحمني يا سيد" وكتب بولس الرسول في الرسالة إلى رومية (10: 9) "لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت". ومن سفر أعمال الرسل (10: 36) "يبشر بالسلام بيسوع المسيح هذا هو رب الكل". ويضيف سفر الرؤيا في (4: 8و4: 11و19: 16) ما يلي: "قدّوس، قدّوس، قدّوس الرب الإله القادر على كل شيء الذي كان والكائن والذي يأتي". "أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة لأنك أنت خلقت كل الأشياء وهي بإرادتك كائنة وخلقت".
"وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب، ملك الملوك ورب الأرباب".
إذن اعتبر الوحي المقدس المسيح ربّاً للجميع كما للذين في السماء وعلى الأرض. له يجب أن تسجد جميع المخلوقات اعترافاً بسلطانه المطلق. وحده له الحق فينا والسلطان علينا لأنه الخالق والفادي.
استعمل الرسول بولس عادة اصطلاحاً تقديمياً في رسائله هو "الله أبونا والرب يسوع المسيح" كشهادة إيمان مسيحية لله (راجع الرسالة إلى رومية 1: 7 والرسالة الأولى إلى كورنثوس 1: 3والرسالة الثانية إلى كورنثوس 1: 2والرسالة إلى غلاطية 1: 3)، الصيغة المركبة هذه هي إشارة للإله الذي يعبده المسيحيون، وهي تشير لكل من الآب والابن في مساواة مطلقة. هكذا فإن الآب والابن هما متحدان معاً، دونما أي انفصال أو تفريق بينهما في وحدانية جوهرهما، ومع ذلك فإنهما يتمتعان باستقلال ذاتي، فبعض الأعمال تنسب للواحد دون الآخر، مثلاً في الرسالة إلى غلاطية (1: 1) نقرأ عن "يسوع المسيح والله الآب وربنا يسوع المسيح، الذي بذل نفسه لأجل خطايانا". أما البركة الرسولية فهي كما يلي: "نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين" (2كورنثوس 13: 14). ففيها يبقى اسم الرب يسوع المسيح مرتبطاً في مساواة مطلقة مع اسمي الله الآب والروح القدس كمصدر لكل بركة روحية.
كانت قد نسبت أسماء متنوعة وكثيرة لله في العهد القديم نسبها العهد الجديد أيضاً للمسيح. فالبشير متى عند تسجيله لولادة المسيح نسب إليه الاسم عمانوئيل إذ يقول: "وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (متى 1: 22و23). ففي نبوة أشعياء (7: 14) نقرأ: " هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل". في العهد الجديد يبرز المسيح كملكنا وفادينا في هيئة شخصية أزلية. ويقول الرسول يوحنا في معرض وصفه للرؤيا التي رآها عن عظمة المسيح المتسلط على كل شيء: "فلما رأيته سقطت عند رجليه كميت فوضع يده اليمنى عليّ قائلاً لي لا تخف أنا هو الأول والآخر، والحي وكنت ميتاً وها أنا حي إلى أبد الآبدين آمين. ولي مفاتيح الهاوية والموت" (الرؤيا 22: 13). وفي نبوة أشعياء (44: 6) نقرأ: "هكذا يقول الرب ملك إسرائيل وفاديه، رب الجنود، أنا الأول وأنا الآخر، ولا إله غيري". وكما رأينا فإن يسوع المسيح يدعى "ربّاً" مراراً وتكراراً في العهد الجديد. لكن هذا الموقف لا ينفرد به العهد الجديد وحده، فالعهد القديم، في معرض التنبؤ عن المسيح، أشار إليه بوضوح أحياناً بنفس اللقب. هذا ما نجده في مزمور (110: 1) "قال الرب لربّي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك". (قابل هذا بما ورد في الإنجيل حسب متى (22: 44) حيث ينسب المسيح لنفسه تلك الإشارة من سفر المزامير. وكذلك نقرأ في نبوة ملاخي (3: 1) "ويأتي بغتةً إلى هيكله السيد الذي تطلبونه".
نسب العهد الجديد ليسوع اسم "الله" أكثر من عشر مرات (راجع يوحنا 1: 1و18و20: 28ورسالة يوحنا الأولى 5: 20والرسالة إلى العبرانيين 1: 8 ورسالة الرسول بطرس الثانية 1: 1وسفر أعمال الرسل 18: 26و20: 28والرسالة إلى رومية 9: 5والرسالة الثانية إلى تسالونيكي 1: 12والرسالة إلى تيطس 2: 13والرسالة الأولى إلى تيموثاوس 3: 16).
هذا ما يتفق عليه علماء تفسير الكتاب من شتى المذاهب هو أن يسوع، حسب كتاب العهد الجديد، هو نفسه ربّ العهد القديم. فكتبة العهد الجديد ينسبون للمسيح تعابير من العهد القديم هي في أصلها كانت تشير إلى "أدوناي" أو "يهوه" اسمي الألوهية في العهد القديم. (قابل نبوة أشعياء 40: 3 مع الإنجيل حسب مرقس 1: 3ونبوة يوئيل 2: 32 مع سفر أعمال الرسل 2: 24والرسالة إلى رومية 10: 13ونبوة أشعياء 45: 23 مع الرسالة إلى فيليبي 2: 10.... قابل أيضاً نبوة أرميا 9: 24 مع الرسالة الأولى إلى كورنثوس 1: 31و10: 17ومزمور 68: 18 مع الرسالة إلى أفسس 4: 8، ونبوة أشعياء 2: 19 مع الرسالة الثانية إلى تيموثاوس 4: 14وسفر الرؤيا 22: 13).
علينا أن نلاحظ إذاً بأن المسيح يدعى في العهد الجديد بالألقاب التالية:
في الإنجيل حسب متى:
"يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم (1: 21)
"عمانوئيل، أي الله معنا (1: 23)
"المسيح ابن الله الحي (16: 16)
"ابن الإنسان (17: 9)
"معلّم (23: 10)
في الإنجيل حسب لوقا:
"يسوع الناصري، قدّوس الله (4: 34)
في الإنجيل حسب يوحنا:
"الكلمة (1: 1)
"كل شيء به كان (1: 3)
"كوّن العالم به (1: 10)
"الابن الوحيد (1: 18، 3: 16)
"ابن الله (1: 34و 49، 20: 21)
"ملك إسرائيل (1: 49)
"المسيح مخلّص العالم (4: 42)
"الخبز الحي (6: 51)
"الباب (10: 7)
"الراعي الصالح (10: 11)
"القيامة والحياة (12: 25)
"المسيح ابن الله الآتي إلى العالم (12: 27)
"الطريق والحق والحياة (14: 6)
"الكرمة الحقيقية (15: 1)
في سفر أعمال الرسل:
"القدوس البار (3: 14)
"رئيس الحياة (3: 15)
"مخلّص (5: 13)
في الرسالة إلى رومية:
"إلهاً مباركاً (9: 5)
في الرسالة الأولى إلى كورنثوس:
"قوة الله وحكمته (1: 24)
"ربّ المجد (2: 8)
"رأس كل رجل (11: 3)
في الرسالة الثانية إلى كورنثوس:
"صورة الله (4: 4)
في الرسالة إلى غلاطية:
"فادي (3: 13)
في الرسالة إلى فيليبي:
"ربّ (2: 11)
في الرسالة الأولى إلى تيموثاوس:
"ربّ الأرباب (6: 15)
في الرسالة إلى العبرانيين:
"وارث لكل شيء (1: 2)
"بهاء مجد الله ورسم جوهره (1: 3)
"رئيس الخلاص (2: 10)
"رئيس الإيمان ومكمّله (12: 2)
"وسيط (12: 24)
"رئيس كهنة عظيم (14: 4)
في رسالة بطرس الثانية:
"المخلّص (1: 1)
في سفر الرؤيا:
"الرب الكائن (1: 8)
"الكائن والذي كان والذي يأتي (1: 8)
"القادر على كل شيء (1: 8)
"الأول والآخر (1: 17)
"الحي (1: 18)
"الألف والياء والبداية والنهاية (21: 6)
ثانياً: الصفات المنسوبة للمسيح
نجد عبر صفحات العهد الجديد أن الخصائص والصفات الإلهية تنسب تكراراً للمسيح، ذلك لا يحدث على سبيل المجاملة كما في حالات امتداح مخلوقين أتقياء، بل إن ما ينسب إلى المسيح صفات هو من النوع الذي لا يمكن أن ينسب سوى إلى الله وحده. فيما يلي نتعرض لقائمة بتلك الأوصاف.
1- القداسة (الطهارة)
في الإنجيل حسب يوحنا (6: 69) نجد إقراراً مهمّاً أعلنه الرسول بطرس عن المسيح الذي آمن به: "أنت المسيح ابن الله الحي". وفي رسالته الأولى يقول بطرس عن سيده "لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر" (2: 22). ويصرح الرسول بولس بدوره فيقول عن المسيح: "لم يعرف خطية" (1كورنثوس 5: 21)، أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فيقول في المسيح: "قدّوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة..." (7: 26). وقد تحدث المسيح نفسه عن قداسته وكماله. ففي يوحنا (8: 29) يقول مشيراً إلى كمال أخلاقه وعصمته عن الخطأ بالنسبة لشريعة الله: "لأني في كل حين أفعل ما يرضيه". وفي يوحنا (8: 6) تحدّى معارضيه الذين سعوا للتشكك في نزاهته قائلاً: "من منكم يبكتني على خطية". إضافةً إلى ذلك فإن الإنجيل يحدثنا عن إقرار الشياطين ألدّ أعدائه فيقولون عنه "قدّوس الله" (مرقس 1: 24). هذه كلها اعتبارات مهمّة خاصةً وأن الكتاب المقدس لا يسمح بأن تضفى هكذا صفات من الكمال على أي من خلائق الله.
2- الأزلية
مقدمة الإنجيل حسب يوحنا لها مقامها الفريد من جهة الكشف عن أزلية المسيح. ففي العدد الأول نرى تعريفاً مهماً للمسيح ككلمة الله المتجسّد: "في البدء كان الكلمة"، في نفس السفر هناك تصاريح واضحة على فم المسيح نفسه عن أزليته، فيقول عن نفسه: "قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن" (يوحنا 8: 58). ثم في صلاته الشفاعية الخاصة صلّى المسيح للآب قائلاً: "مجدّني بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يوحنا 17: 5)، "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (العدد 24) بالإضافة إلى هذا نجد مضمون النبوات التي تحدثت عن المسيح في أسفار أنبياء العهد القديم قبل مجيئه بمئات السنين. فالنبي أشعياء دعاه في سفره "أباً أبدياً" (9: 6) والنبي ميخا قال عنه: "مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" (5: 2). إذاً المسيح هو ملك جميع الدهور.
3- مصدر الحياة: خالقها ومبدعها
تطرّق الوحي الإلهي إلى وصف المسيح كما يلي في الإنجيل حسب يوحنا:
- فيه كانت الحياة (1: 4)
- أنا هو الطريق والحق والحياة ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي (14: 6)
- أنا هو القيامة والحياة (11: 25)
- لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطي الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته (5: 26)
فليس المسيح إذاً مجرد مصدر للحياة فحسب، بل إنه هو الحياة الحقيقية ذاتها.
4- الثبات المطلق وعدم التغيّر
توجز الرسالة إلى العبرانيين وتحسم الأمر هكذا: "يسوع المسيح هو أمسا واليوم وإلى الأبد" (13: 8).
"وأنت يا ربّ (إشارة إلى المسيح) في البدء أسست الأرض والسموات هي عمل يديك، هي تبيد ولكن أنت تبقى وكلها كثوب تبلى، وكرداء تطويها فتتغير ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى" (1: 10-12).
5- المقدرة المطلقة على كل شيء
لم يتردد السيد المسيح مطلقاً في الكشف عما لديه من قدرة وجبروت في الوقت المناسب. هذا لا يقتصر على مجرد إنجاز المعجزات والعجائب، وكذلك لا غموض في تصريحاته عن هذا الموضوع: "دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28: 12)، "كل شيء قد أعطي إليّ من أبي" (متى 11: 27).
كتب الرسول بولس بوحي من الروح القدس في رسالته التعليمية إلى المؤمنين في أفسس: "وأخضع (أي الله الآب) كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة" (أفسس 1: 22). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فيعرّف المسيح هكذا: "... حامل كل الأشياء بكلمة قدرته...." (1: 3). وفي سفر الرؤيا يخبرنا الوحي أن المسيح هو "الرب الكائن والذي يأتي القادر على كل شيء" (1: 8)، والنبي أشعياء تنبأ عنه قائلاً فيه "الإله القدير" (أشعياء 9: 6).
لكن الأمر لم يقتصر على مجرد بيانات، إنما ما قيل في المسيح سواء على فمه هو أو على فم غيره بوحي من الله كان دائماً مدعماً بالأعمال الخارقة للطبيعة والتي أجريت علناً وشهد لها الجميع، الأصدقاء والأعداء على السواء. فقد أقام الموتى (راجع يوحنا 11: 43و44 ولوقا 7: 14). وكشف أنه هو الذي سينجز عملية القيامة الأخيرة لجميع الأموات عندما قال: "فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة" (يوحنا 5: 28و29).
6- العلم المطلق بكل شيء
قال التلاميذ للسيد المسيح: "الآن نعلم أنك عالم بكل شيء..." (يوحنا 16: 30). والإنجيل المقدس يكشف لنا حقيقة علم المسيح بما يجري في عقول وأفئدة البشر. فعندما صرّح للمفلوج بغفرانه لمعاصيه كشف في نفس الوقت عن الاشمئزاز الصامت لمعارضيه بتصريحه هذا: "فعلم يسوع أفكارهم فقال لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم" (متى 9: 4).
وهذا ما يسجله أيضاً البشير يوحنا: "لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع، ولأنه لم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان" (2: 24و25).
"لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه" (6: 64).
"فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه" (18: 4).
وورد في رسالة بولس إلى المؤمنين في كولوسي أنه "... المدّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (2: 3). وقال المسيح عن نفسه: "وليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن" (متى 11: 27). إن ما يكشف عنه المسيح هنا هو في غاية الأهمية. فهو يفهمنا حقيقة أمر تفهّم ألوهية من الأساس، ذلك أن ذاته وكيانه اللاهوتيين هما على درجة شاهقة من العظمة حتى أنه لا يمكن لأحد غير الله نفسه استيعابهما، ليس ذلك فقط بل أوضح المسيح لنا من جهة أخرى بأن طاقة معرفته اللاهوتية هي غير محدودة كمعرفة الله الآب الكاملة والتامة.
كشف الإنجيل بكل تأكيد أن يسوع كان يتمتع بعلم وحكمة مطلقتين لا حدود لهما. قال أحد المفكرين بهذا الأمر: "إن أعظم الدلائل على قدرة المسيح الخارقة في فحص وتحليل وقراءة ما يتضمنه قلب الإنسان من أسرار هي ما كشف عنه بخصوص كل من نثنائيل والإمرأة السامرية وتلميذه الخائن يهوذا وتلميذه المغرور بنفسه بطرس. أخبر المسيح وأشار إلى وقائع المستقبل فتحدث عن موته وقيامته وعودته إلى الأرض". إن مسيرة التاريخ كانت مفتوحة أمام عينيه فهو قد تتبع متضمنات ما سبق وصار، وهو رأى مسبقاً الأعمال المعجزية الخارقة التي كان سينجزها تلاميذه، كما أنه أخبر عن هزيمة إبليس العتيدة وانتصار ملكوت الله الذي يلازم ذلك. فالأرض والسماء، الأزل والأبد، الله والإنسان كل شيء مكشوف أمام عينيه.
7- الوجود الكلي الذي لا يحده مكان ولا زمان
عرّفت بشارة يوحنا المسيح على أنه "الابن الوحيد الذي في حضن الآب" (1: 18). في ذلك تأكيد ليس فقط على أن المسيح ذو علاقة لاهوتية مباشرة بالله، بل أيضاً هنالك تشديد على أنه بالرغم من تجسده ووجوده على الأرض بين البشر فإن صلته الوثيقة ولحمته الحميمة مع الله بقيت دون تغيير أو تحوير. فعند تجسده لم يكن يعبر عن مجرد علاقته السابقة بالله، أي أنه كان مع الله، بل إنه بقي أيضاً مع الله. هذا في الواقع ما يعنيه العدد الأول من بشارة يوحنا والذي يقول دون إبهام: "في البدء كان الكلمة (أي المسيح) والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله". فالمسيح إذاً كان مع الله وبقي عند تجسده في صورة بشرية "كائن" مع الله. ويلقي يسوع نفسه ضوءاً على تلك الحقيقة في قوله: "وليس أحد صعد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (3: 13). قال المصلح الشهير يوحنا كالفن بصدد هذا النص من الإنجيل: "المسيح تجسد ولكنه لم يحصر أو يحجز ولم تقل قيمته، فابن الله نزل من السماء بطريقة معجزية خارقة للطبيعة في نفس الوقت الذي فيه بقي موجوداً في السماء. لقد اختار أن يولد من عذراء بطريقة عجيبة لكي يعيش على الأرض ويعلق على الصليب. لكنه في الوقت ذاته لم يكف عن أن يملأ الكون بوجوده كما كان الكون معمراً بوجوده منذ البداية".
ثم أننا نلاحظ بأن المسيح نفسه قد كشف عن حقيقة وجوده الكلي وغير المحدود عندما قال: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" (متى 18: 20). وكذلك في قوله: "ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر" (متى 28: 20). إن نص الإنجيل الأخير هذا ورد على لسان يسوع عندما كان مجتمعاً برسله على جبل الزيتون بعد قيامته من الأموات. وهو هنا يطمئنهم ويؤكد لهم استمرارية وجوده وقوته معهم، حتى أنه أزاح الستار على أنّ تأثيره عليهم ومعهم لن يكون تأثير معلّم أو نبي ميت ومقبور بل هو تأثير من هو حاضر وحي أبداً. أما كونه موجوداً في كل مكان فهذا يعني بأنه يبقى دائماً قريباً وسهل المنال قادراً على حماية وتعزية شعبه حتى لا يصيبهم أذى أو أسى غير ما يراه هو ويسمح به لأجل صالحهم ومنفعتهم. إنها لحقيقة عجيبة التي يبرزها لنا الإنجيل المقدس بأن حضور المسيح مع تلاميذه بعد قيامته من الموت كان أكثر وضوحاً من وجوده الجسماني قبل موته. فبعد قيامته أصبحت قناعتهم وعلاقتهم به قوة انتصارية دافعة بينما كان اعتبارهم له قبل موته دائم التأرجح والتشكك. أشار الرسول بولس إلى حقيقة وجود المسيح المطلق في كل مكان على هذا النحو: "ملء الذي يملأ الكل في الكل" (أفسس 1: 23).
8- الخلق
مرة أخرى نجد أن تقديم الإنجيل حسب يوحنا للمسيح واضح ومختصر ومفيد: "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (1: 3)، "كوّن العالم به" (1: 10). ما أوحى به الروح القدس عبر كتابة الرسول بولس ليس أقل شأناً في الشهادة للمسيح الخالق: "فإنه فيه (في المسيح) خلق الكل ما في السموات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل" (كولوسي 1: 16و17). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فكتب عن الأمر مذكراً بما كان أنبياء العهد القديم قد سبق وقالوه عن المسيح القادم إلى العالم: "وأما عن الابن (فقال الله على لسان داود) كرسيك يا الله إلى دهر الدهور..." (عبرانيين 1: 8). وهذا كان قد ورد في المزمور (45: 6). وفي (1: 10) يتابع كاتب الرسالة إلى العبرانيين اقتباسه من أقوال الأنبياء عن المسيح: "وأنت يا رب في البدء أسست الأرض، السموات هي عمل يديك، هي تبيد ولكن أنت تبقى..." وهذا ما ورد في مزمور (102: 25). وكاتب هذه الرسالة هنا سعى ليس لمجرد تذكيرنا بما يقوله العهد القديم في المسيح بل أيضاً لإيقافنا على حقيقة كون العهد القديم يقول في المسيح ما لا يقال سوى في الله بالذات، فهو كان قد سبق وقال في المسيح: "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عبرانيين 1: 3) وهذا ما ينطبق تماماً على ما ورد في رسالة الرسول بولس الأولى إلى المؤمنين في كورنثوس: "... ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء" (8: 6).
لقد كتب بصدد هذا الموضوع أحد كبار المفكرين المسيحيين يقول: "يخبرنا الكتاب المقدس بأن المسيح هو خالق الكون بأسره، ما هو منظور وما هو غير منظور. هذا لا يتضمن فقط ما في الكون الطبيعي والمادي من شموس ونجوم لا تحصى، بل أيضاً جميع أنواع الحياة الشخصية بما في ذلك الملائكة والبشر، الجميع مدينون له بوجودهم، وهو يشرف على كافة أرجاء الكون، حامياً بنيته من التفكك والانحلال والخراب. وتفيدنا كلمة الله بأن المسيح هو مصدر كل الأشياء ما يرى وما لا يرى، وهو الغاية النهائية لكل الخليقة. إذاً ليس المسيح هو خالق كل الأشياء فقط بل إنها جميعاً خلقت لأجله هو، فهو الآخر كما هو الأول، وهو النهاية كما هو البداية.
9- السلطان والحق في مغفرة الخطايا
عندما شفى يسوع المفلوج وغفر له خطاياه تململ الكتبة متسائلين في سرّهم: "لماذا يتكلم هكذا بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ الله وحده" (مرقس 2: 7). لكن يسوع عرف ما في قلوبهم وبادرهم قائلاً: "ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا..." (مرقس 2: 10). وأما المفلوج فقد أمره يسوع، بعد أن غفر له خطاياه، أن يحمل سريره ويذهب إلى بيته. وهكذا فإننا نرى أن المسيح ربط ما بين صلاحيته لمغفرة خطايا البشر وقدرته الإلهية على شفاء أمراضهم. وهو لم يتكلم عن مجرد السلطة على مغفرة خطية الآخرين، بل أكدّ أنه هو نفسه البديل الذي يحمل عقاب الخطية عنهم. وأعلن لتلاميذه بعد قيامته من الموت "بأن يبشّر باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم" (لوقا 24: 47). أما شهادة يوحنا المعمدان الذي جاء ليمهد الطريق لمجيء المسيح فقد كانت واضحة وجلية أمام الجميع: "هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يوحنا 1: 29)، والرسول بطرس بشّر الأمم قائلاً: "له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا... " (أعمال الرسل 10: 43)، وكتب بولس الرسول بدوره: "... لنا فيه الفداء، بدمه غفران الخطايا... " (كولوسي 1: 14). وكتب الرسول يوحنا في رسالته الأولى: "... ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية..." (1: 7). ليسوع المسيح إذاً المقدرة على مغفرة خطايا الآخرين لأنه هو نفسه كان مزمعاً أن يدفع ثمن ذلك الفداء الثمين.
10- مؤسس الخلاص
لدينا مجموعة بيانات وتصريحات في الكتاب المقدس تعلمنا بأن السيد المسيح هو مؤسس ومنبع الخلاص. وهذه البيانات والتصريحات وضعت بهكذا قوة وسلطان لتدعو الناس إلى الإيمان الحق بالإله الحقيقي الوحيد. وغاية الإيمان الحياة الأبدية. وورد في الإنجيل حسب يوحنا (3: 36) ما يلي: "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله". هذه شهادة يوحنا للمسيح أنه في الإيمان الخلاص وفي الخلاص الحياة الأبدية. أجاب بولس وسيلا في أعمال الرسل (16: 31) على رغبة سجانهما المتلهفة لمعرفة الحق: "آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك". أما المسيح نفسه فكلماته لم تكن أقل وضوحاً بهذا الشأن إذ يقول: "أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي" (يوحنا 14: 1).
يؤكد يوحنا أيضاً أن المؤمنين يرثون الحياة الأبدية، ولم يكن هذا ليحل لولا محبة الله الآب. "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية... الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يوحنا 3: 16و18). ويخبرنا يوحنا أيضاً بلسان السيد المسيح عن السبب الجوهري للإيمان. فما هي المحبة وما هو الخلاص والحياة الأبدية إن لم يؤكد لنا يسوع أنه حي إلى الأبد؟ فالإيمان به هو الأمل الوحيد للانتصار على الموت حيث يصرّح لنا السيد بهذا البيان الجبار كما ورد في يوحنا (11: 25و26) وهو كما يلي: "أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد...".
ولهذا، فالإيمان بالمسيح هو مرتبط تماماً بالإيمان بالله، وكلمة الله لا تفرق بينهما. ففي الإنجيل حسب يوحنا (12: 44و45) يأتي قول المسيح: "الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني"، وفي (6: 28-40) من نفس الإنجيل المقدس ترد هذه العبارات: "فقالوا له ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟ أجاب يسوع وقال لهم هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي أرسله... أنا هو خبز الحياة، من يقبل إليّ لا يجوع ومن يؤمن بي لا يعطش أبداً... لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير". كذلك ورد في يوحنا (15: 5و6) ما يلي على لسان يسوع: "أنا الكرمة الحقيقية وأنتم الأغصان. الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير. لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً. إن كان أحد لا يثبت فيّ يطرح خارجاً كالغصن فيجف ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق". وأيضاً في (10: 9) يقول: "أنا هو الباب، إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى". وفي (10: 27و28) يقول: "خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي. أما الصلاة الشفاعية المدونة في يوحنا (17: 3) ففيها قال السيد المسيح: "والحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته".
راجع أيضاً هذه الآيات ذات السلطة الفائقة التي وردت في الإنجيل حسب متى (10: 32و11: 27و28).
- كل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضاً به قدّام أبي الذي في السموات.
- وليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن ومن أراد الابن أن يكشف له.
- تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.
ومن يوحنا (8: 24) التالي: "إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم".
ومن سفر الرؤيا (2: 10) "كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة".
ومن أعمال الرسل (4: 12) "وليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص".
إن اسم "يسوع" هو من مصدر إلهي وهو يعادل "يشوع" بالعبرية ومعناه "يهوه المخلّص" أو "الله هو المخلّص". فقبل أن يأتي المسيح إلى عالم البشر وصفه الملاك الذي بشّر به هكذا "تدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم" (متى 1: 21) حتى أن يوحنا الرسول طرح بوضوح القصد الحقيقي من كتابته في قوله: "وأما هذه (أي الأمور المختصة بيسوع) فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يوحنا 20: 31).
إن هذه التصريحات تحمل في طياتها أعظم وأثمن وأكرم التعهدات. إنها بكل تأكيد لا تدع مجالاً للشك في أن الإيمان بالمسيح أمر ضروري للخلاص، وأنه بمعزل عنه لا يوجد أمل في الخلاص. إنه من المستحيل لأي كان الإتيان بتصريحات ساطعة وباهرة كالتي صرح بها السيد المسيح بخصوص شخصيته ومفعوله على حياة الآخرين. لقد قال أحد عظماء اللاهوتيين ما يلي بهذا الشأن: "من الواضح أن الله بالذات في عدم محدوديته لا يسعه أن يعد ولا أن يقدم شيئاً أعظم قدراً ولا أسمى منزلةً مما يهب السيد المسيح لشعبه، فهم موجهون للتطلّع إليه كمصدر كل بركة وواهب كل عطية صالحة وخالصة الكمال. إنها لأروع الصلوات وأكثرها تعبيراً تلك التي ختم بها الوحي الإلهي الرسالة إلى مؤمني مقاطعة غلاطية والتي تقول: "نعمة ربنا يسوع المسيح مع روحكم أيها الأخوة... آمين".
11- موضوع الصلاة والعبادة
نقرأ بوضوح في الإنجيل عن مناسبات عديدة سجد فيها البشر للمسيح وعبدوه. فالبشير متى يذكر لنا ما يلي إذ أرشد الله المجوس (حكماء المشرق) إلى مكان ولادة مخلّص البشر في بيت لحم بفلسطين، فإنهم "خرّوا وسجدوا له" بمجرد رؤيتهم للطفل يسوع (2: 11). وعندما مشى المسيح على الماء فإن الذين كانوا في السفينة جاؤوا وسجدوا له قائلين: "بالحقيقة أنت ابن الله" (14: 33)، سجدت له أيضاً المرأة الكنعانية قائلةً: "يا سيد أعنّي" (15: 25)، وكذلك تلاميذه عندما ظهر لهم في الجليل بعد قيامته "فلما رأوه سجدوا له" (28: 17).
ويذكر البشير لوقا في (24: 51و52) عن صعود المسيح إلى السماء "انفرد عنهم واصعد إلى السماء فسجدوا له".
أما يوحنا فيخبرنا عن سجود الأعمى للمسيح بعد أن أعاد إليه بصره وأمره بالاغتسال في بركة سلوام (9: 38)، وأيضاً عن تلميذه توما عند رؤيته لسيده بعد قيامته من الموت إذ سجد له قائلاً: "ربي وإلهي" (20: 28). وهو هنا لم يكتف بالسجود له بل أشار إليه كإلهه وربه الذي يتعبّد له. والجدير بالذكر أن المسيح لم يوبخه على ما تكلّم به، بل تجدر الإشارة هنا إلى أن هؤلاء الناس من ملوك إلى تلامذة وأناس عاديين ومن كانوا بحاجة إلى شفاء من مرض أو علة جسدية، جميعهم قد تساووا في السجود له معترفين بذلك بألوهية. ففي كافة الظروف والمناسبات لم يعترض يسوع المسيح بتاتاً على سجود البشر له وعبادتهم إياه، بل تقبّل تلك المواقف البشرية كأمور ضرورية ولائقة به.
أعطى يسوع شهادات مهمة جداً تتعلق بألوهية وباستحقاقه للعبادة، وإذ أراد من المؤمنين به أن يضعوا ثقتهم به ويتّكلوا عليه اتكالاً كاملاً في كل أمور حياتهم جاءهم بهذا التأكيد قائلاً: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي هناك سأكون في وسطهم" (متى 18: 20). وكذلك قبل صعوده إلى السماء قال لهم: "ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر".
إن تصريحات كهذه لا يمكن أخذها إلاً من منطلق رغبة المسيح في الكشف عن ألوهية. فمن غير الله يستطيع أن يكون في كل مكان؟ من هنا كانت محتويات أسفار العهد الجديد ومواقف الكنيسة المسيحية الرسولية الأولى التي اتفقت في إصرارها على تقديم الإكرام والعبادة المختصين بالله وحده، ليسوع المسيح: "لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب الذي أرسله" (يوحنا 5: 23). والمؤمنون عبروا عن ذلك ليس أثناء ظروف حياتهم العادية فحسب، بل حتى تحت أشد ويلات الاضطهاد كما دعا في صلاته القديس استفانوس عندما استشهد لأجل مناداته بإنجيل المسيح: "أيها الرب يسوع اقبل روحي". (أعمال الرسل 7: 59).
إن السجود والتعبد للمسيح هما من ركائز المناداة بالإنجيل ومن المتطلبات الرئيسية للذين ينتمون للمسيح ويتمتعون بخلاصه. من هنا طرح في الإنجيل أهم الأسئلة إطلاقاً: "ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟" وقد وردت عليه ردود كثيرة جميعها تفيد بضرورة الإيمان بالمسيح والتعبد له. وفيما يلي نسرد بعضاً منها:
- آمن بالرب يسوع فتخلص (أعمال الرسل 16: 31)
- إن اعترفت بفمك بالرب يسوع خلصت (رومية 10: 9)
- لأن كل من يدعو باسم الرب يسوع يخلص (رومية 10: 13)
- لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة... ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب (فيلبي 2: 10و11)
- لتسجد له كل ملائكة الله (عبرانيين 1: 6)
ثم إن هناك التصريحات الرسولية التي يصعب عدّها والتي سجلها الوحي الإلهي وكلّها تؤكد على ربوبية المسيح وكونه جديراً بأن يعبد. نورد منها على سبيل المثال ما يلي:
- ربنا ومخلصنا يسوع المسيح (2بطرس 3: 18)
- مستحق هو الخروف أن يأخذ القدرة والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة... للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين (الرؤيا 5: 12و13).
لقد شدد الرسول بولس على عقيدة الربوبية في بداية كل رسالة كتبها وهو دائماً يذكر الاسمين "ابن الله" و"الرب يسوع المسيح" بطريقة عفوية على أساس كونهما متساويين في إشاراتهما لألوهية المسيح. فإن الرب يسوع المسيح ابن الله هو الذي يهب النعمة والسلام. ومع ذلك فإن بولس لم يدع مجالاً للشك في أنه كان متمسكاً بوحدانية الله، فهو يقول: "ليس إله آخر إلاّ واحد" (1كورنثوس 8: 4-6). هذا هو الإله الوحيد الذي قدّم بركته للمؤمنين بواسطة ما يعرف بالبركة الرسولية التي تقول: "نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين" (2كورنثوس 13: 14). وما هذه سوى صلاة موجهة إلى المسيح لأجل نعمته وإلى الآب لأجل محبته وإلى الروح القدس لأجل شركته المقدسة.
هذه الحقائق التي يضعها الوحي الإلهي بين أيدينا لا يوجد تفسير مفهوم لها سوى ذلك الذي تمسكت به الكنيسة المسيحية عبر العصور، أي أن الله هو في ثلاثة أقانيم هم جميعاً واحد في الجوهر ومتساوون في القدرة والمجد.
لكننا إذا قارنّا تلك التعابير الإنجيلية التي تنسب الصلاة والعبادة للمسيح مع الأخرى التي تبرز وحدة الله وجلاله والمجد الذي ينفرد به دون سواه لا يكون أمامنا مفر من التسليم بأن الوحي الإلهي إنما يكشف عن أن العبادة هي لإله واحد وأن المسيح هو في نفس الوقت موضع عبادة وثقة المؤمنين. فكلمة الله تقول: "التفتوا إليّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض. لأني أنا الله وليس آخر" (أشعياء 45: 22)، ثم تقول: "... ليس إله آخر إلاّ واحداً" (كورنثوس 8: 4)، وجاء أيضاً في نبوة أرميا (17: 5) "ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه".
إضافةً إلى ذلك هناك تصريحات الوحي الإلهي الكثيرة التي تدين الوثنية والتعبد لغير الله. من هنا كان الأمر بسيطاً للغاية. فهي واحدة من اثنين: إما أن ألوهية المسيح التي يعلّمها الكتاب المقدس هي حق، وإما أن الكتاب المقدس هو مضلّل وليس من الله.
تضع كلمة الله اعتراف الإنسان بألوهية المسيح والارتكان له والاتكال عليه اتكالاً مطلقاً كالمخلّص الوحيد على مرتبة عالية جداً وهذا الاعتراف اعتبر دليلاً على صدق انتماء الفرد لله.
12- ديّان كل البشر
إن موضوع الدينونة النهائية يشغل مكاناً مهماً ضمن تعليم يسوع المسيح. فهو لم يشدد على أن دينونة البشر واقعة فحسب، بل إنه أكد على أن المسيح هو بالذات الذي سيقوم بدور الديّان. فهو الذي سيصدر الأحكام النهائية على كل بشري وهو الذي يقرر المصير الأبدي لكل منهم. فقد قال: "لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن لكي يكرم الجميع الابن كما يكرم الآب... إنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون... فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة" (يوحنا 5: 22-29).
ربما يكون الفصل الخامس والعشرون من الإنجيل حسب متى أهم نص في الوحي الإلهي فيما يخص التعليم عن نهاية العالم. وهو يوجه أنظارنا إلى كون المسيح الملك الديّان، فيقول: "متى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذٍ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم... ثم يقول أيضاً للذين عن يساره اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته... فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية" (عدد 31-46).
لقد أكد السيد المسيح على تلك الحقيقة بكونه الرب الديّان الذي بيده مصير البشر منذ بداية خدمته الجمهورية فعندما ألقى عظته الرسمية الافتتاحية لتلك الخدمة (المعروفة بالموعظة على الجبل) فإنه قال لجماهير مستمعيه: "ليس كل من يقول يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون سيقولون في ذلك اليوم يا رب، يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذٍ أصرّح لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (متى 7: 21-23).
ورسل المسيح هم أيضاً أفادونا بالحقيقة عينها، فالرسول بطرس قال عن يسوع: "هذا هو المعيّن من الله ديّاناً للأحياء والأموات" (أعمال الرسل 10: 42). والرسول بولس قال: "لأنه لا بد وأننا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً" (2كورنثوس 5: 10). وهذه لم تكن قناعات الرسل فحسب بل أن الكنيسة المسيحية تمسكت بها مضيفةً إياها إلى لائحة معتقداتها الأساسية، كونها قد ضمنت منذ البداية أن المسيح آتٍ لدينونة جميع البشر.
خلاصة القول هي أنه من الواضح أن الرب يسوع عبر مختلف نشاطاته لم يتردد في أن ينسب إلى نفسه أسمى امتيازات الألوهية. فهو لم يقم بعمل ذلك فحسب بل إنه رحّب بما نسبه له الآخرون من ميزات الربوبية وألقابها الجوهرية مثل: القداسة، الأزلية، السلطان على مغفرة الخطايا، القدرة على افتداء حياة الناس، الحق في أن يصلّى إليه ويعبد، وسلطان الحكم النهائي على مصير البشر.
- عدد الزيارات: 35620