Skip to main content

الفصل الرابع: وجود المسيح الأزلي قبل التجسد

في سلسلة من البيانات المتتابعة والهامة جداً يبلغنا السيد المسيح أموراً جوهرية عن نفسه. لقد حرص كل الحرص على أن يعرفنا بأن وجوده لم يبدأ عند ولادته في بلدة بيت لحم، إنما هو "أتى" أو "نزل" من السماء إلى الأرض، وأنه "أرسل من قبل الآب". فمن الواضح أنه كان موجوداً قبل ذلك. تلك البيانات التي نحن بصددها لا تمثّل مجرد شهادة فريدة لمهمته الإلهية على الأرض، بل إنها تشهد أيضاً لأصله السماوي. إنها تطرح المسيح علينا ليس فقط كأعظم بني البشر بل كمن سبق وجوده عملية تجسده. إن إشارات أزليته وسرمديته هي واضحة، وتؤكد أنه لم يكن لوجوده بداية ولن تكون له نهاية، إنه هو البداية والنهاية. إن تصريحات السيد المسيح هذه نبعت عن وعيه وإدراكه لوجوده الأزلي. هذه القناعة عنده لم تكن في حاجة لأي دعم يتعدى ذلك القادم "من السماء" أو "من الآب". أما تلك الحقيقة فيدعمها الاستعمال الدائم للقب "ابن الإنسان" ضمن تلك البيانات، ذلك اللقب الذي استنتجنا في الفصل الثالث بأنه يشير فيما يشير إلى وجود المسيح السابق للتجسّد، وهكذا فإن المسيح يضع نفسه في مكانة أعلى وأهم من مكانة أصله البشري والأرضي. وهذا ما يفسر لنا كلام المسيح للبشر عن الأمور الروحية السامية طالباً إليهم أن يكيفوا حياتهم بمقتضى تعاليمه الهامة. وهذه بعض النصوص الكتابية التي تدعم ما أتينا على ذكره:

- لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمّل.

- لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً. فإني جئت لأفرق الإنسان ضدّ أبيه والابنة ضد أمها، والكنّة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته. (متى 5: 17و10: 34-36). ليس المقصود هنا تسبيب الخصام بحد ذاته بل إن حياة الإيمان الجديدة تتسبب في عداء ومعارضة لأصحابها لدرجة أنهم يصبحون منبوذين من قبل أهلهم ومجتمعهم غير المؤمن.

- لنذهب إلى القرى المجاورة لأبشّر هناك أيضاً لأني لهذا خرجت.

- لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى. لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة.

- لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.(مرقس 1: 38و2: 17و10: 45).

- لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك. (لوقا 19: 10).

ومن بشارة يوحنا النصوص الكتابية التالية:

- ليس أحد صعد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء.

- الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والذي من الأرض يتكلم. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع- وما رآه وسمعه به يشهد... لأن الذي أرسله الله بكلام الله يتكلم. فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً...

- لأني أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب... لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني.

- أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم.

- خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم وأيضاً أترك العالم إلى الآب. (3: 13، 3: 31-34، 6: 62، 8: 14و16، 8: 23، 16: 28).

وتجدر الملاحظة بأن يسوع المسيح لم يصرح فقط عن وجوده قبل مجيئه إلى العالم، بل أيضاً بأنه كان موجوداً منذ الأزل. هذا ما نره في النصوص الإنجيلية التالية حسب يوحنا:

- قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن.

- والآن مجدّني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم.

- ... لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم.... (8: 58، 17: 5، 17: 24).

هنا نجد دلالة قاطعة بأن علة وجوده هي من ذاته وليست من مصدر خارجي. هذا ما يذكرنا بما ورد في التوراة في سفر الخروج (3: 14) "أهيه الذي أهيه" وهو تعبير يشير إلى عظمة الله وجلاله وليس فقط إلى وجوده. "أهيه" أو "يهوه" هو الاسم العبري لله والمترجم في العربية بـ "الرب". والترجمة الحرفية للتعبير "أهيه الذي أهيه" هي "الكائن الذي هو كائن". وهو الاسم الذي يشدد على كون الله هو وحده الكائن الأزلي بمطلق ما في ذلك من تعبير. فهو وحده الذي يتصرّف بحرية واستقلال مطلقتين. هذا ما أراد الله أن يعرّف نفسه به لعبده موسى. ويسوع هنا ينسب لنفسه ذات الاسم "الكائن الذي هو كائن" أي الله الكائن بذاته منذ الأزل. نجد نفس المعاني فيما ينسبه سفر الرؤيا للمسيح حيث يتكلم يوحنا الرائي على لسان يسوع فيقول: "أنا الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر" (سفر الرؤيا 22: 13).

لم يكشف يسوع إذاً عن وجوده السابق للتجسد فحسب، بل إنه أيضاً كشف عن أن ذلك الوجود هو أزلي. هذا يطابق تماماً بيانات الآخرين عنه في الإنجيل (العهد الجديد)، فيوحنا المعمدان قال عن المسيح: "يأتي بعدي رجل صار قدّامي لأنه كان قبلي" (يوحنا 1: 3). بالطبع لم يكن المقصود هنا أن يسوع ولد قبل يوحنا المعمدان لأن يوحنا كان قد ولد قبل يسوع ببضعة أشهر، ولكن المقصود بالتعبير "صار قدّامي" الإشارة إلى رتبة المسيح الأكثر سموّاً وارتفاعاً عن رتبة يوحنا. هذا ما قصد به تماماً استعمال تعبير "كلمة" في إشارة الإنجيل المبدئية للمسيح كما ذكرها البشير يوحنا. فهو ذو الكيان السابق المعادل للآب من جهة كل شيء بما في ذلك عملية الخلق. يسوع المسيح هو الأساس الذي "صار جسداً وحلّ بيننا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً" (يوحنا 1: 14).

أما بولس الرسول فيعطينا ما يمثل قمة الحق الإلهي المكشوف للبشر فيقول: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلّص الخطاة" (1تيموثاوس 1: 15). ويكتب أيضاً إلى المؤمنين في كولوسي فيقول: "فيه (أي في المسيح) خلق الكل، ما في السموات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل" (كولوسي 1: 16و17)، وكتب بولس أيضاً عن المسيح إلى تلميذه تيموثاوس قائلاً: "الله ظهر في الجسد" (1تيموثاوس 3: 16).

أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فيقول: "يسوع المسيح هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد" (عبرانيين 13: 8)، فالمسيح بقي "هو هو" دون تغيير مع كل تغيير طرأ على غيره. "هو هو" في هذا الجيل الحاضر كما في الماضي القريب أو البعيد. "هو هو" في المستقبل أيضاً، في هذا المسيح الثابت، الذي لا يعتريه تغيير ولا ظل دوران، يجد المؤمن سنده وملجأه الأبدي الأكيد.

هذه البيانات لا تقتصر على كتابات العهد الجديد (الإنجيل). هناك نبوءات كتب الأنبياء في العهد القديم بخصوص المسيح المنتظر والتي سبقت مجيئه بمئات السنين، تلك النبوءات لم تتحدث عن مجرد ولادته المتوقعة كإنسان كامل بل إنها أيضاً أكّدت حقيقة وجوده قبل مجيئه إلى الأرض. لكنها أيضاً أظهرت أن وجوده السابق يرجع إلى الأزل وقبل أن يوجد الزمن نفسه. هذا ما وضّحه النبي ميخا الذي كتب سفره حوالي سبعمائة عام قبل مجيء المسيح. ففي معرض نبوته عن مكان مولد المسيح يقول: "أما أنت يا بيت أفراته وأنت صغيرة بأن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" (ميخا 5: 3). والنبي أشعياء الذي عاش في نفس الفترة التي عاش فيها النبي ميخا تحدث واصفاً ذلك المسيّا (المسيح المنتظر) فقال بأنه يكون "عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام" (أشعياء 9: 6).

يبرز يسوع المسيح عبر كل التاريخ البشري كالمنتظر مجيئه قبل مئات السنين. لم تكن هناك نبوءات ولا توقعات لغيره من الشخصيات التاريخية لأنه لم يكن كالإسكندر الكبير أو نابليون أو واشنطن أو غيرهم من القادة الذين لم ينتظرهم أحد في أوقات وأمكنة ظهورهم. وحتى قبل وجود الأنبياء أنفسهم قطع الله الوعد بمجيئه، فبمجرد أن وقع أبوانا الأولين آدم وحواء في خطية العصيان وكسرا وصية الله جاء الوعد بقدوم المخلّص... فقد أخبر الله إبليس المتمثل بالحية الخادعة بأن نسل حواء "هو يسحق رأسك" (تكوين 3: 15). وهذا ما تحقق في عمل المسيح الكفاري وانتصاره التاريخي الساحق على إبليس. ولكن على مر الزمن تتالت المواعيد والبيانات عبر أنبياء الله بمجيء المسيّا والمخلّص المنتظر، حتى أنه في عصر ولادة المسيح من مريم العذراء ومجيئه إلى العالم كان هناك شعور وتوقع عام بقرب مجيئه، حتى أن أسلوب وموضع ولادته كانا واضحين لمنتظري تحقيق مواعيد الله.

وهكذا فإن يسوع المسيح كان يقدّم دائماً كمن كان موجوداً قبل أن يأتي إلى عالم البشر. فقد وصف في الأسفار المقدسة كمن "نزل" من السماء إلى الأرض، وكمن شارك الآب في مجده منذ الأزل لا وبل كمن "خرج من عند الآب" (يوحنا 16: 28). أي كمن هو في أوثق وأهم المعاني واحد مع الله. كلماته ذاتها لا تترك مجالاً للشك في أنه يعتبر نفسه زائراً للأرض من عالم أسمى وبأنه جاء في مهمة سماوية خاصة على الأرض لإنقاذ وفداء بني البشر. إذاً وباختصار وتحديد واضح جاء المسيح لخلاص قوم ضالين وهالكين.

جليّ إذاً أن موضوع وجود المسيح الأزلي قبل التجسد له ارتباط حيوي للغاية بأي مفهوم لائق لشخصه. هذا ما عبّر عنه أحد كبار المفكرين واللاهوتيين عندما قال: "في دراستنا ليسوع المسيح من المهم جداً أن نتفهم حياته على ضوء وجوده السابق لقدومه لعالم البشر. إن أهمية ذلك هي في أن نضع دائماً نصب أعيننا أن حقيقة كون تجسده لم تكن مجرد ولادة رجل عظيم، لأن تجسد المسيح يعني دخول الله إلى حيّز ومحيط الوجود البشريين. وهكذا نكون على إدراك مستمر بأنه في يسوع المسيح نلتقي وجهاً لوجه مع الإله المتجسد. ومن جهة أخرى فإن وعينا إلى هذا الأمر من شأنه أن يولد فينا تقديراً لائقاً للخدمة التي جاء للقيام بها من أجلنا. إنه من باب المستحيلات أن يكون مفهومنا للمسيح يتفق مع عظمة ما قام به ما لم ندرك بأن ابن الإنسان قد جاء ليس لأن يُخدم بل ليخدم ويقدم حياته فدية عن كثيرين.

  • عدد الزيارات: 6146