Skip to main content

الفصل الثاني: شهادة الرسل لألوهية المسيح

 تقف شهادة من شاركوا في كتابة أسفار الإنجيل (العهد الجديد) في انسجام تام مع تعاليم المسيح وشهادته عن ألوهية. ظهر الملاك جبرائيل لزكريا وأخبره بأنه سيكون له ولامرأته أليصابات ابناً تسند إليه مهمة خاصة ألا وهي "لكي يهيئ للرب شعباً مستعداً" (لوقا 1: 17). والملاك نفسه عندما كشف لمريم بأنها ستكون أماً للمسيح المنتظر أخبرها بأن ذلك الطفل "يكون عظيماً وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية" (لوقا 1: 32و33). هذه المزايا لا يمكن أن تكون لأي كان ما لم يكن إلهاً بالفعل "اسمه يدعى يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (متى 1: 21). هذه مهمة لا يمكن لشخص أقل من الله بالذات أن ينجزها. والبشير متى عندما أتى على ذكر إحدى نبوات العهد القديم الخاصة بالمسيح قال: "هذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (1: 22و23) وهي النبوة مستقاة من نبوة أشعياء (7: 14). أما المجوس (حكماء المشرق) الذين كانوا قد أعطوا بصيرة روحية معجزية بعد سفرتهم الطويلة سعياً وراء الملك الموعود به، فما أن وصلوا إلى بيت لحم مكان ولادة يسوع، "خرّوا وسجدوا له" (متى 2: 11). والركوع والسجود له بهذا الأسلوب ما هو إلاّ جهل وتجديف لو لم يكن المسيح متمتعاً بطبيعة إلهية.

شهد يوحنا المعمدان عن نفسه بأنه ليس سوى مجهّز وممهّد لطريق الآتي بعده، لا وبل إنه تخطى ذلك عندما صرّح بأن الآتي بعده أعظم منه بكثير حتى أنه لم يكن مستحقاً أن يحل رباط حذائه أي أنه لم يكن مستحقاً أن يكون خادماً له. وعندما ظهر المسيح وتعمّد بالماء على يده بعد إصرار ملّح، رأى يوحنا المعمدان "السموات مفتوحة وروح الله نازلاً عليه (أي على يسوع المسيح) وصوت الله الآب من السماء قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (متى 3: 17). وفي اليوم التالي أشار يوحنا إلى يسوع قائلاً: "هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" و"... الذي يعمّد بالروح القدس"، و"هذا هو ابن الله" (يوحنا 1: 29، 33، 34).

نجد في مقدمة الإنجيل حسب يوحنا (1: 1) تصريحاً واضحاً لا يعتريه شك عن ألوهية المسيح: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله". وقد نسب الرسول يوحنا هذا (وهو غير يوحنا المعمدان) إلى المسيح يسوع أموراً لا تنسب لغير الله بكل ما في ذلك من معنى. فالكلمة وسيلة التعبير عن الفكر، ووراء كل كلمة تكمن فكرة خاصة. ونسبة الكلمة إلى الفكر هي بالذات نسبة المسيح إلى الله. الكلمة تكشف عن فكرة معينة والمسيح يكشف عن الله بالذات. فالمسيح جاء ليظهر الله للبشر: "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبّر" (يوحنا 1: 18). إن أزلية المسيح كشف عنها في مضمون التعبير "في البدء" عند بدء أو خليقة العالم كان المسيح "موجوداً". الفعل هو بصيغة الماضي التام في اللغة الأصلية (اليونانية) وهو يبرز فكرة وجود المسيح يسوع الأزلي وقد عبّر عن ذلك أحد كبار اللاهوتيين بقوله: "الكلمة كان عند الله منذ الأزل، في رفقة الأب كأقنوم مشارك في اللاهوت (أي الألوهية)، ومع أنه كان هكذا أقنوماً مميزاً لم يكن كائناً منفصلاً عن الله فالكلمة كان الله".

في مقدمة الإنجيل حسب يوحنا اعتبر "الكلمة (المسيح)" كائناً قبل التاريخ. ليس ذلك فقط بل نرى "أن كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (العدد الثالث). أما في العدد الرابع عشر فنقرأ: "والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً". والبشير يوحنا نفسه في رسالته الأولى (2: 4) قال عن المسيح "قد جاء في الجسد"، فهو يريدنا أن ندرك بأن المسيح لم يكن مجرد رفيق الله الأزلي، بل إنه هو الله الأزلي بالذات. استعمل يوحنا كلمة "جسداً" ليشير بصورة عامة إلى الطبيعة البشرية بما تتضمنه من محدودية وضعف. كشف في مقدمة الإنجيل بكل بساطة عن حقيقة الله الأزلي وهو يأخذ وجوداً يشارك فيه الاختبار البشري العادي مع البشر. وبإيجاز فإن الله تجسّد في الإنسان يسوع المسيح "عظيم هو سرّ التقوى الله ظهر في الجسد" (1تيموثاوس 3: 16).

وعندما جهر الرسول بطرس بشهادته العظمى لم يكن يعبّر عن مجرد معتقده الشخصي بل إنما كان يعبّر عن معتقد غالبية التلاميذ حين قال ليسوع: "أنت المسيح ابن الله الحيّ" (متى 16: 16). وهكذا نرى أنه مع مواصلة يسوع الكشف عن ماهية الله للبشر فإن توما أكثر التلاميذ تشككاً وصل إلى مرحلة السجود عند قدمي المسيح والاعتراف بالقول: "ربّي وإلهي" (يوحنا 20: 28). هذا القول قبله المسيح بلا تردد، ولذلك يمكن اعتباره تأكيداً مباشراً من المسيح نفسه وجزءاً لا يتجزأ من قناعته الشخصية بألوهية، وإن قيام الرسل بالمعجزات هو دليل إضافي على ألوهية المسيح. فالمعجزة التي شفى بها بطرس الرجل الأعرج الواقف على باب الهيكل، فعلها بطرس باسم المسيح إذ قال للرجل: "باسم يسوع المسيح الناصري قم وامشِ" (أعمال الرسل 3: 6) وبالفعل مشى الرجل وزالت علّته. لكن ذلك أغاظ زعماء اليهود الذين اعتقلوا بطرس ورفيقه يوحنا وباشروا بمحاكمتهم. وفي معرض ردّ بطرس على اتهاماتهم واعتراضاتهم قال: "إن كنا نفحص اليوم عن إحسان إلى إنسان سقيم فبماذا شفي هذا؟ فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم والذي أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً" (أعمال الرسل 4: 9و10). وعندما أخرج الرسول بولس الروح الشرير من امرأة قال: "أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها" (أعمال الرسل 16: 18). أما استفانوس أول شهيد مسيحي شهد قبل موته قائلاً: "أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله" (أعمال الرسل 7: 56).

شهد بولس في تعليمه مراراً وتكراراً لألوهية المسيح. وحالما اهتدى إلى المسيح ذهب إلى مجامع اليهود في دمشق وشرع يبشر بالمسيح قائلاً: "إن هذا هو ابن الله" (أعمال الرسل 9: 20). وقد كشف في رسالته إلى أهل كولوسي عن كون المسيح "صورة الله غير المنظور" (كولوسي 1: 15). كما أنه صرح بأن "فيه يحل كل ملء اللاهوت (أي الله) جسدياً" (كولوسي 2: 9). كذلك ذكر بولس إلى أهل كورنثوس بأن "الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه" (كورنثوس 5: 19). وفي رسالته إلى أهل رومية عندما أشار إلى كون اليهود أنسباء المسيح ذكر موضوع ألوهية المسيح فقال: "ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد" (9: 5). كذلك نجد بولس يحث المسيحيين في مقاطعة فيليبي على إتباع مثال المسيح في التواضع والخدمة ويقول: "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً الذي إذ كان في صورة الله (أي مشاركاً كلياً في الطبيعة الإلهية أي للصفات التي يتمتع بها الله)، لم يحسب خلسةً أن يكون معادلاً لله (أي أنه لم يختر عن أنانية أن يبقى في تلك الحالة المباركة بينما يظل البشر تحت وطأة الخطية والبؤس). لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فيليبي 2: 5-11). وهكذا أصبح إنساناً قابلاً لنفسه محدودية الطبيعة البشرية، قدّم نفسه وهو الإله المتجسّد كبديل عن شعبه. وهكذا أيضاً أنجز عمله الخلاصي في حمله للعقاب المفروض على خطاياهم (ألا وهو الألم والموت بالنيابة عنهم). ويضيف: "لذلك رفعه الله أيضاً (أي أن المسيح الإله المتجسّد رفع وليس المقصود هنا إضافة لطبيعته الإلهية فهي كاملة لا ينقصها شيء، بل أن الطبيعة البشرية المتواضعة التي أخذها المسيح على نفسه هي التي أعطي لها المجد والإكرام). ويتابع الرسول فيقول بأن الله الآب "أعطاه اسماً يفوق كل اسم" ألا وهو اسم "يسوع" (أي مخلص) "لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان بأن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (التعبير رب يدل هنا على الربوبية أو الألوهية المطلقة). فإن أولئك الذين أوحى إليهم الله بكتابة العهد الجديد أشاروا إلى المسيح بتعابير وأوصاف وأسماء العهد القديم نفسها التي استعملت بشأن الله، فهم أشاروا إليه كـ "أدوناي" وهو الاسم العبري الذي يعني "رب" وكلمة رب تستعمل أيضاً عندما يكون الاسم العبري "يهوه" الذي يعني "الرب الإله".

عندما ننتقل إلى الرسالة إلى العبرانيين فإننا نجد بأن الكاتب ينسب الربوبية والألوهية للمسيح. يبدأ بالقول بأن الله كان قد كلّم البشر في الأزمنة القديمة (أي في أيام العهد القديم) بواسطة الأنبياء مستخدماً أساليب متنوعة، ثم يواصل فيقول بأن الله كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة (أي حقبة العهد الجديد) في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي" (عبرانيين 1: 1-3).

أما الرسول يوحنا، كاتب سفر الرؤيا فيخبرنا في معرض وصفه للمدينة السماوية المقدسة "أورشليم الجديدة" بأنها لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها لأن مجد الله قد أنارها والخروف سراجها" (سفر الرؤيا 21: 23). والتعبير أن "الله" و"الخروف" هنا هما مترادفان يتحدثان عن واحد وهو يسوع المسيح. قام جميع من أوحى إليهم الله بكتابة أسفار الإنجيل (العهد الجديد) بتسجيل تعاليم ومعجزات ومواعيد المسيح مفترضين واقع كلامه عن ألوهية وكانوا هم أيضاً أعظم وأنسب وأصدق شهود لألوهية إذ كانوا قد عرفوه عن كثب. قال عنهم المسيح: "وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء" (يوحنا 15: 27). أما سجلات التاريخ منذ نشأة الكنيسة المسيحية فكلها تظهر أنهم قد قدموا شهاداتهم لسيدهم وربهم بكل أمانة وكثيرون منهم استشهدوا في سبيل إيمانهم بالمسيح يسوع.

وفوق شهاداتهم نجد شهادات أولئك المؤمنين الذين لم ينتسبوا إلى مجموعة رسل المسيح. فمثلاً نجد قائد الكتيبة الرومانية التي أشرفت على الصلب، إذ أبصر المسيح مصلوباً أعلن قائلاً: "حقاً كان هذا الإنسان ابن الله" (مرقس 15: 39). وأما الأبالسة (الكائنات الملائكية الذين سقطوا وأصبحوا شياطين) والذين كانوا على معرفة بعظمة المسيح الإلهية قبل تجسده، فإنهم عندما أمرهم المسيح بأن يخرجوا من الأشخاص الذين كانوا قد سيطروا عليهم، قالوا فيما هم خارجون: "ما لنا ولك يا يسوع ابن الله. أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا؟" (متى 8: 29).

إن قيامة المسيح من الأموات هي البرهان القاطع الذي لا مهرب منه على كونه ذا طبيعة إلهية. لم يكن موت وقيامة المسيح رغم إرادته، بل على العكس كانا في نطاق قوته وخياره الثابتين. عندما تكلم المسيح عن حياته قال: "ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً" (يوحنا 10: 18). وهو كان قد تنبأ مراراً عن قيامته من الموت قائلاً: "وابن الإنسان يسلّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الأمم.... ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم" (مرقس 8: 31و9: 31و10: 33-34، ولوقا 18: 33و24: 7، ومتى 20: 19و27: 63). ويشير بولس إلى القيامة كبرهان جازم على لاهوت المسيح فيقول: "تعيّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات" (رومية 1: 4).

  • عدد الزيارات: 4443