الفصل الحادي والعشرون: طقوس ورموز نظام العهد القديم
نأتي الآن إلى الكلام عن موضوع طقوس ورموز أيام العهد أو النظام القديم. فمع أننا لا نعيش في ظل ذلك النظام بل منحنا الله بأن نحيا في ظل نظام العهد الجديد, إلا أنه يتوجب علينا أن نكوّن فكرة صائبة عن موضوع طقوس العهد القديم ولاسيما نظام الذبائح الذي كان يُعمل به في تلك الأيام. فعندما نقرأ الكتاب المقدس تجد أن قسماً كبيراً منه يبحث في هذه المواضيع أي ذبائح العهد القديم والطقوس والرموز الدينية التي كانت سائدة آنئذ. فإن كان الله قد أمر بها في أيام موسى, فلماذا لا نقوم بعملها في هذه الأيام؟ وماذا كانت قيمتها في أيام ما قبل المسيح؟ هذه أسئلة هامة وسوف نجابهها بكل صراحة آخذين بعين الاعتبار سائر تعاليم الوحي الكتابي ومتذكرين واجبنا بأن نُفسّر كل شيء من أمور نظام العهد القديم على ضوء تعاليم نظام العهد الجديد.
كثيرون من الذين يبدأون بقراءة مواضيع الكتاب التي أُوحيَ بها في أيام العهد القديم ولاسيما أسفار موسى الخمسة, يصابون بحيرة شديدة عندما يقفون على ذلك النظام المزخرف بذبائحه وتقدماته وطقوسه واحتفالاته العديدة. ما معنى هذه الأمور الغريبة هنا نحن الذين نعيش في ظل النظام الجديد؟ قبل كل شيء يتوجب علينا أن نذكر هذا المبدأ الهام المنطبق على أيام ما قبل المسيح (أي أيام نظام العهد القديم): كانت تلك الأيام أيام الرموز. فقد كان بنو إسرائيل قد تحرروا منذ عهد قريب من عبودية فرعون, وكانوا في غالبيتهم لا يُجيدون القراءة ولا الكتابة. وقد اعتاد بنو إسرائيل أثناء إقامتهم الطويلة في أرض مصر أن يروا جميع أمور ديانة المصريين القدماء تلك الديانة التي كَثُرَت فيها الطقوس والمهرجانات الدينية. ورأى بنو إسرائيل أيضاً كيفية كتابة المصريين القدماء للغتهم بالطريقة التصويرية أو الهيروغليفية. وكان الله عليماً بجميع هذه الأشياء وبأن إمكانيات بني إسرائيل كانت محدودة من ناحية التعبير عن الأمور الروحية, فلذلك نراه تعالى يعطيهم التعاليم المختصة بالإنجيل (أو البشارة الخلاصية التي تُعلّمنا عن خلاص الإنسان من الخطية والشر) بواسطة صور وطقوس دينية.
وكما أن الأطفال في كثير من البلدان يبدأون حياتهم المدرسية فيما يُسمّى بحديقة أة روضة الأطفال حيث تلعب الصور دوراً رئيسياً في التعليم, هكذا كانت أيام النظام القديم أياماً تحضيرية تَعلّم فيها بنو إسرائيل وسائر الذين انضموا إليهم من الأفراد – تَعَلّموا جميعاً مواضيع الديانة المقبولة لدى الله بواسطة طقوس ورموز دينية كانت ملائمة تماماً لإمكانياتهم الروحية والثقافية. وعلينا أن نتذكر بهذا الخصوص أن بني إسرائيل لم يُعطوا فقط نظاماً رمزياً وطقسياً بل أن الله تكلّم معهم بواسطة الأنبياء وأعطاهم تعاليم أخلاقية وروحية بطريقة مباشرة. لذلك لا يمكننا وصف نظام العهد القديم بأنه كان نظاماً رمزياً وطقسياً بشكل مطلق.
كان يُقصد من النظام الكهنوتي وكل ما كان يتعلّق به أن يُركّز اهتمام الشعب على هذا الموضوع الهام: أي مجيء المسيح المنتظر والعمل الكفّاري والفدائي الذي كان سيقوم به. كان نظام العهد القديم المتعلّق بالذبائح يُعلّم شعب الله أنه هناك طريقة فعّالة لغفران الخطايا وللاقتراب من الله وعبادته عبادة مرضية. ولكن جميع هذه الطقوس والرموز زالت تماماً ونهائياً عندما جاء مُتممها السيد المسيح. وما كان يشاهده الآباء في أيا النظام القديم إنما كان يُرى من بُعد وبشكل رمزي, بينما نحن الذين نعيش في ظل النظام الجديد نرى أمور الكفّارة والخلاص قد صارت واضحة بشكل تام – إذ أن المسيح قد جاء وتمّمها فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من التاريخ. وليس ذلك فقط ب أضحت الحد الفاصل بين تاريخ العالم القديم والحديث إذ أن كل شيء يُؤرَّخ الآن فيما إذا تمّ قبل المسيح أو بعد المسيح. ولم يكن الكهنوت والطقوس الدينية لدى بني إسرائيل يُشكّل الأمور الجوهرية بل شكلها العابر. وقد أدّت عملها ووظيفتها بشكل جيد حتى قدوم ذلك الذي كانت ترمز إليه. فدَم الثيران والتيوس لم يكن له قوة ذاتية على إزالة الخطية, وذبائح تلك الحيوانات إنما كانت أمثلة للذبيحة الكاملة التي قدّمها السيد المسيح في ملء الزمن.
وكتب صاحب الرسالة إلى العبرانيين عن موضوعنا هذا وبوحي من الله: "وأما المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة – فباسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد (أي الذي ليس من هذه الخليقة) وليس بدم تيوس وعجول, بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءاً أبدياً. لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلةٍ مرشوشة على المُنَجَّسين يُقَدّس إلى طهارة الجسد, فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروحٍ أزلي قدّم نفسه لله بلا عيب يُطهِّر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي؟ (9: 11 – 14).
كان على الحيوان المستعمل في أيام العهد القديم (أي المعّد للذبيحة) أن يكون كاملاً بدون لطخة أو عيب. وقد قال الله بهذا الخصوص: "إذا قرّب إنسان منكم قرباناً للرب من البهائم فمن البقر والغنم تُقرّبون قرابينكم. إن كان قربانه محرقة من البقر فذَكراً صحيحاً يُقرّبه". (سفر اللاويين 1: 2 و3) وكان التشديد أيضاً على دم تلك الذبيحة: "لأن نفس الجسد هي في الدم, لأن الدم يُكفّر عن النفس". (لاويين 17: 11). فكل إنسان كان يأتي بذبيحته معترفاً بذلك أنه يستحق الموت, ولكنه يطلب من الله بأن يرحمه برحمته وأن يقبل الذبيحة كبديل عنه. وكانت الذبائح عند بني إسرائيل تقدم يومياً على مدار السنة وكانت تُعلَّم بكل وضوح أنه ليس مغفرة بدون سفك دم, ولكنها كانت ترمز أيضاً إلى الذبيحة الطاهر والكاملة التي كان سيقدّمها المسيح المنتظر لدى قدومه إلى العالم. وهكذا نخلص إلى القول أن طقوس ورموز العهد القديم كانت تعليمية وأنها زالت تماماً عندما جاء الذي كانت تشير إليه فتم كل ما رتّبه الله بخصوص فداء الناس.
- عدد الزيارات: 4923