الفصل الرابع: سفر مراثي أرميا
مدينة الملك العظيم: "كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب. كيف صارت كأرملة العظيمةُ في الأمم. السيدة في كل البلدان صارت تحت الجزية". عظم الحزن في قلب أرميا أكثر مما يحتمل فما تمالك أن يضبط لسانه من بث الأنين والشكوى. ونظم مراثيه، والقلب المنسحق يتقن الرثاء. وجاء في التلمود أنه بعد خراب أورشليم جلس أرميا وبكى ورثى أورشليم. ويعتقد كثير من الناس أن الكهف الذي آوى إليه أرميا واقع في وجه التل الصخري على الجانب الغربي من المدينة. في ذلك الموضع الملائم للحزن جلس أرميا ينظم نشيده على خراب الديار فجاءت مراثيه بالبيان الوافي لما مثلته بابل بمدينتهم المقدسة، بيان من يرى الوقائع بعينه ويسمع بأذنه.
ثم نرى، بعد مضي هذه الوقائع بنحو ستمائة سنة، موكباً حافلاً يزحف إلى المدينة من الجانب الشرقي يطوي معارج جبل الزيتون، وفي وسط الموكب الملك الوديع يهتف له الأولاد بالتسبيح والترحيب. ولم يبقَ لهم من الطريق إلا عطفة واحدة فيشرفوا على المدينة. فأطل مخلصنا من موقفه المرتفع على أورشليم المحبوبة وهيكلها العظيم ذي الأعمدة الرخامية والقباب الذهبية. وعلم ما سيحل بها من الدمار الأخير فبكى وقال: "إنك لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك". ويظهر هنا أن صوته اختنق بالبكاء فقطع كلامه فلما تجلد ختم حديثه بالعبارة التالية: "ولكن الآن قد أُخفي عن عينيك. فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفي زمن افتقادك".
فنرى مما تقدم أن النبي الباكي هو رمز إلى المخلص الباكي، ذاك أنبأ بخراب المدينة بجيوش بابل، وأنبأ هذا بخرابها بجيوش الرومان.
الحكم على الخطية: إذا تصفحت سفر المراثي تجده ينسب كل الخراب الذي حاق بأورشليم إلى خطية أهلها والفكرة الأساسية في السفر هي الخراب. وهو مؤلف من خمس مراثي على وفق إصحاحاته الخمسة. كل مرثاة منظومة على الحروف الهجائية العبرية الاثنين والعشرين بحيث تبتدئ كل آية منها بالحرف الذي يوافق ترتيبها. ولما وصل الكاتب إلى الإصحاح الثالث أو بعبارة أخرى إلى منتصف مراثيه بلغ منه الأسى أشده فجعل لكل حرف ثلاث آيات بدل الآية الواحدة. وانتهى في الإصحاحين الأخيرين كما ابتدأ. إلا أن الإصحاح الأخير مع كونه يتضمن اثنتين وعشرين آية على عدد حروفهم الهجائية لم يراع فيها الأسلوب المتقدم.
المرثاة الأولى: تشّبه أورشليم بامرأة أرملة وثكلى وفوها حقها من الندب والعويل ثم عادت فاعترفت أن ما داهمها من المصاب الأليم كان جزاء لها على خطاياها من الله العادل إلى أن قالت "بار هو الله الرب لأني قد عصيت أمره".
المرثاة الثانية: هي وصف شهير لخراب أورشليم على لسان أرميا.
المرثاة الثالثة: بلغ عندها النبي أشد حالات الحزن، فيشخص فيها شقاء أمته بأنه شقاؤه هو. ومن هذا الموقف الأسيف لا يقنط من رحمة الله، ويقرر بدون تردد لطفه العميم قائلاً: "لا يذل من قلبه ولا يحزن بني الإنسان".
المرثاة الرابعة: يعيد النبي وصف القضاء الذي نـزل بأورشليم
المرثاة الخامسة: الاعتراف بالخطية محكي على لسان اليهود وطلب المغفرة والنجاة من الله.
لا تجد راحة: يوصف في الإصحاح الأول خراب أورشليم بأنها "لا تجد راحة" و "لا تجد مرعى" و "ليس لها معز" (3 و 6 و 9). فما أشبه هذا الوصف بحالة النفيس البعيدة عن المسيح!
بدون المسيح | مع المسيح |
---|---|
ص 1: 3 لا تجد راحة | (مت 11: 28) أنا أريحكم |
ص 1: 6 لا تجد مرعى | (مز 23: 2) في مراعٍ خضر يربضني |
ص 1: 9 ليس لها معزٍّ | (يو 14: 17) يعطيكم معزياً آخر |
الجلحثة: بكاء أرميا المدينة يذكرنا مخلصنا. وبعض آيات مراثيه تمثل لنا الجلجثة. "أما إليكم يا جميع عابري الطريق. تطلعوا وانظروا إن كان حزن مثل حزني" (1: 12)، وقوله "يصفق عليك بالأيادي كل عابري الطريق يصفرون وينغضون رؤوسهم" (2: 15؛ مت 27: 39)، "يفتح عليك أفواههم كل أعدائك" (2: 16؛ مز 22: 13)، "حين أصرخ وأستغيث يصد صلاتي" (3: 8؛ متى 27: 46)، "صرت ضحكة لكل شعبي وأغنية لهم اليوم كله" (3: 14؛ مز 69: 12)، "أفسنتين وعلقم" (3: 19؛ مز 69: 21)، "يعطي خده لضاربه. يشبع عاراً" (3: 30؛ أش 50: 6؛ مز 69: 20).
ثم إن قوله "من أجل خطايا أنبيائها وآثام كهنتها السافكين في وسطها دم الصديقين" يذكّر بقول المسيح "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها" ويذكر أيضاً بما قاله الرسول بطرس منتهراً أمة اليهود "أنتم أنكرتم القدوس البار ... رئيس الحياة قتلتموه".
- عدد الزيارات: 4925