الفصل الثالث: سفر أرميا النبي
قد يختار الله واسطة ضعيفة لإنفاذ قصده. اختار أرميا مثلاً ولم يكن يخطر لأرميا ببال أنه سيبعث رسولاً كما تعلم ذلك من جوابه الذي أجاب به الرب عندما أرسله: "فقلت آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد. فقال الرب لي لا تقل إني ولد لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به. لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب" (أر 1: 6 – 8). أما أرميا فإن كانت هذه المأمورية التي ألقيت على عاتقه أرجفت قلبه وأدرك ما يلحقه بسببها من الاضطهاد، لم ينثن عزمه عن تأدية الواجب. وقد سجن، ووضع في المقطرة، وألقي في الجب حتى غاص في الوحل (20: 2 وص 38: 6)، وسُخر به (20: 7)، وصار عرضة للخصام والنـزاع في كل الأرض (15: 10)، واتهم بخيانة أمته (38: 4)، وكابد مقاومة الأنبياء الكذبة (23، 28)، ووقع تحت تهديد القتل (26) وطرد إلى مصر. كابد هذه الشدائد كلها، وما فرط في شيء من رسالة الله، بل بلّغها إلى الأمة بأمانة وثبات مدة أربعين سنة.
تنبأ أرميا ثماني عشرة سنة مدة حكم يوشيا. ثم تنبأ مدة حكم أربعة ملوك آخرين من يهوذا إلى ما بعد سبي أورشليم وانقراض المملكة. فيكون متأخراً عن سلفه أشعياء بمئة سنة على وجه التقريب. وكان مسقط رأسه ضيعة بأرض بنيامين تسمى عناثوث واقعة على بضعة أميال من شمال أورشليم. كان من سلالة الكهنة؛ ومن المحتمل أن والده حلقيا هو رئيس الكهنة الذي عثر على سفر الشريعة في الهيكل مدة حكم يوشيا. وعلى كل حال ففما لا شك فيه أن اكتشاف ذلك السفر أثر في نبوة النبي الشاب كما أثر في سياسة الملك الشاب أيضاً. ولا ريب أن ارميا عضد الملك في مشروعاته الخطيرة. ومع أنه قد كان له أعداء كثيرون منحه الله أصدقاء مخلصين من الملك فما دونه إلى عبد ملك الكوشي الذي أصعده من جب الحمأة.
الشجاعة: جراءة أرميا وإقدامه تلقاء الخطر يظهران جلياً في إصحاح 26 حينما أرسله الرب برسالة إلى دار الهيكل وأوصاه أن يبلغها إلى التمام. فهاج عليه جماعة الكهنة والشعب فقبضوا عليه قائلين "تموت موتاً". فقال لهم "أما أنا فهأنذا بيدكم. اصنعوا بي كما هو حسن ومستقيم في أعينكم. لكن اعلموا علماً أنكم إن قتلتموني تجعلون دماً زكياً على أنفسكم وعلى هذه المدينة وعلى سكانها لأنه حقاً قد أرسلني الرب إليكم لأتكلم في آذانكم بكل هذا الكلام.
ثلاث وقائع عظيمة: حدثت في أيام نبوة أرميا ثلاث حوادث ذات شأن. الأولى معركة مجدو بين يوشيا وفرعون ملك مصر، وفي هذه الواقعة قتل يوشيا ذلك الملك الصالح. وحزن عليه الشعب حزناً مفرطاً، ورثاه أرميا النبي. والثانية معركة كركميش بقرب موقع المعركة الأولى وحدثت بعدها بأربع سنوات في حكم يهوياقيم الذي أصبح تابعاً لسيادة الحكومة المصرية إلا أنه في هذه المعركة دارت الدائرة على المصريين واستظهرت عليهم جيوش بابل تحت قيادة نبوخذ نصر. والحادثة الثالثة خراب أورشليم والهيكل وسبي الجانب الأعظم من الشعب إلى بابل.
بين هذه الأهوال والقلاقل قضى أرميا الحزين أيامه. وزد على ذلك أن الشعب أفسدوا طرقهم، وبلغوا منتهى الشر، وذلك من أيام منسى جد يهوشيا فصاعداً، حتى أن الإصلاحات التي قام بها يوشيا لم تفد إلا سطحياً وموقتاً. فلما مات عادت المياه إلى مجاريها وازدادوا شراً أكثر من قبل. فبعث إليهم أرميا النبي رسولاً يردهم عن فجورهم إلى عبادة الله الحين فهددهم بالويلات والرزايا العظام التي تحيق بهم وبأرضهم إن هم أصروا على حالتهم السيئة. كان في حيز الإمكان أن يتوبوا فيرتد غضب الله عنهم، لكنهم لم يتوبوا بل تمادوا في غرورهم.
إذ ذاك سخَّر الله نبوخذ نصر لينفذ قضاءه عليهم، وأمده بالقوة والسلطان والنفوذ العريض حتى دعاه بهذا اللفظ "عبدي". وأعلن الله ذلك لأرميا مقدماً فرأى أن التسليم لنبوخذ نصر أسلم عاقبة. فأشار على قومه بالتسليم فنسبوا إليه الخيانة. ونفذ قضاء الله وخربت أورشليم وسبي الشعب. أما أرميا النبي فأطلقت له الحرية وخُيّر بين الرحيل مع المسبيين وبين الإقامة مع البقية الباقية، فاستحسن الإقامة في بلاده. ثم توالت عليه أيام الظلمة وذلك انه نصح للشعب الذي تبقى من السبي أن لا يهربوا إلى مصر بل أن يقيموا في بلادهم ويطيعوا الرب إلههم فيدركهم برحمته. فلم يسمعوا لنصحه، وهربوا لمصر واخذوه معهم قسراً. وفي التقليد أنهم رجموه هناك فمات شهيداً.
مسطبة أو رصيف بمصر: لما أبى يوحانان ورؤساء الجيوش أن يطيعوا أمر الله الذي أمرهم به على يد أرميا وأصروا على الرحيل إلى مصر هم والبقية التي بقيت من السبي – رجالاً ونساء وبنين وبنات وفي جملتهم بنات الملك – نـزلوا وأقاموا في تحفنحيس. فأخذ أرميا حجارة، كما أمره الرب، وطمرها في البلاط في الملبن الذي عند باب بيت فرعون في تحفنحيس، وتنبأ أنه على هذه الحجارة يضع نبوخذ نصر كرسيه ويبسط سرادقة عليهاز إن الأستاذ فلندرز باتري، الأثري الشهير، اكتشف أطلال قصر ابنة الملك اليهودية في تحفنحيس التي هي على الترجيح حصن قديم على تخوم سوريا اعتصم به اليهود الهاربون إلى مصر. وبإزاء هذا الحصن مستوىً مرتفع من الأرض يصلح لمهام الحصن كنصب الخيام. قال الدكتور باتري: إن أرميا أشار إلى هذا كنصب الخيام. قال الدكتور باتري: إن أرميا أشار إلى هذا المستوى الواقع أمام تحفنحيس الذي لم يهتدِ المترجمون إلى معناه الحقيقي. وهو بالتمام على شكل مسطبة إنما كبيرة جداً. وعلى هذا المستوى ضرب نبوخذ نصر خيامه كما تنبأ أرميا.
القلب: كان أرميا، بين رسل العهد القديم، أعظم رسول إلى القلب البشري. لام قلوب سامعيه فنسب الحرب والجوع والوباء الذي دهم يهوذا إلى قلوبهم، ومن قلوبهم دلهم أنه يأتي الفرج. فالقلب عند أرميا سبب الضيق والفرج وهو الداء القاتل كما أنه الدواء الشافي.
خدمته إنذار وخصام عام. وقف أرميا وحده في وجه ملوك يهوذا ورؤساء الشعب والكهنة والأنبياء الكذبه واعظاً ومنذراً. شد حقويه بمنطقة الحق وبلغهم ما يحل بهم من قضاء إلهه الرهيب. ما ارتاع من وجوههم لأن الرب جعله أمامهم كمدينة حصينة وعمود جديد وأسوار نحاس يطاردهم بإنذاراته المخيفة من مكان إلى آخر: في دار الهيكل والبلاط الملوكي والطرق، سواء سمعوا أو امتنعوا. وبالجملة كان نبياً يتنبأ عن حقائق إلهية لا بد منها ولو كانت ثقيلة على مسامعهم، فناصبوه العداوة غير أنهم هابوا جانبه واتقوا غضبه.
كانت مأمورية أرميا أن يعمل على رد بني جنسه إلى عبادة الله والخضوع لشريعته المقدسة. فتنبأ عن سبعين سنة هي مدة الأسر البابلي محرضاً إياهم أن يهتموا بحياة أورشليم ويطلبوا سلامتها. وأكد لهم أنهم سيعودون من السبي وأن محبة الله من نحوهم ومقاصده لا تتغير. ونرى أرميا في وقت حصار أورشليم، وهو سجين، يشتري حقل ابن عمه حنمئيل الذي في عناثوث كما أمره الرب إقناعاً لهم بأن أرضهم ستعمر ويرجع سبيهم.
الانباء بالمستقبل: في إصحاح 50 و 51 أنباء وافية بمستقبل بابل. وهنا نقول إن جماعة المنتقدين أنكروا نسبة هذين الإصحاحين إلى أرميا لعدم اعتقادهم بإمكانية الأنباء بالغيب. وزعموا أنه قد كتبهما كاتب آخر قلد عبارة النبي أرميا ونهج مناهجه الخاصة في أساليب التعبير فأفلح وكان ذلك حوالي الوقت الذي سقطت فيه بابل. ولنا على بطلان زعمهم البراهين الآتية: أولاً تسليمهم بأن لغة الإصحاحين المذكورين كلغة بقية السفر، وعليه يلزم أن يكون أرميا كتب الكل. ثانياً إن ذينك الإصحاحين مشهود لهما بنوع خاص أنهما من قلم أرميا لأن الإصحاح الخمسين يبتدئ بهده العبارة "الكلمة التي تكلم بها الرب عن بابل وعن أرض الكلدانيين على يد أرميا النبي"، وينتهي الإصحاح الحادي والخمسون بهذه الشهادة الصريحة: "إلى هنا كلام أرميا". والطعن في الشهادتين المشار إليهما طعن في أمانة الكاتب. ثالثاً تأخير كتابة الإصحاحين المذكورين إلى الوقت الذي أوشكت فيه بابل على السقوط لا يبطل وجه الإعجاز من النبوات الواردة فيهما وذلك لأنها تتضمن تفصيلات دقيقة لم تكن تخطر على البال عند حصار بابل وسقوط سوارها. وكثير من هذه التفصيلات لم يتم ويتحقق إلا من بعد مرور سنين عديدة على سقوطها. ومن تلك التفصيلات أن ينقرض من أرضها الزارع والحاصد ويهجرها أهلها قاعاً صفصفاً ويبسط عليها الخراب الدائم ظلاله إلى غير ذلك.
الذبائح والمحرقات: اعترض المنتقدون على العبارة الآتية "لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحة. بل إنما أوصيتم بهذا الأمر قائلاً اسمعوا صوتي فأكون لكم إلهاً وأنتم تكونون لي شعباً" (7: 22 و 23). لا يؤخذ من عبارة النبي ما يضاد تصريحات أسفار موسى الخمسة من جهة الذبائح والمحرقات، ولا فيها دليلٌ على ما يحتجون به من أن تلك الأسفار الخمسة لم تكن في حيز الوجود في عصر أرميا، بل إنما العبارة اصطلاح جرى عليه كتبة أسفار العهد القديم والجديد للتعبير عن المقابلة الصحيحة بين شيئين قابل بينهما الناس خطأ فيصدر أحدهما بأداة نفي لا لينفي حقيقته بل ليظهر فضل الآخر عليه. ومن أمثلة ذلك قوله "إني أريد رحمة لا ذبيحة ومعرفة الله أكثر من محرقات" (هو 6: 6). وقال يوسف بن يعقوب لإخوته "ليس أنتم أرسلتموني لي هنا بل الله" (تك 45: 8) وهو لا يقصد بهذا التصريح أن ينفي وقائع القصة المعروفة بل أن يرد علم إخوته إلى مسبب الأسباب أي الله. وقال موسى لقومه "ليس علينا تذمركم بل على الرب" يعني أن هذا التذمر كان على الله أكثر مما هو عليه وعلى أخيه هرون (خر 16: 8). وقال الرب لصموئيل "لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا" (1 صم 8: 7) أي رفض إسرائيل الرب أكثر مما رفضوا صموئيل. وجاء في الأمثال (إصحاح 8: 10) "خذوا تأديبي لا الفضة. والمعرفة أكثر من الذهب المختار".
ومن أمثلة ذلك في العهد الجديد "اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية" (يو 6: 27) وقوله "لا تفرحوا بهذا إن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري إن أسماءكم كتبت في السموات" (لو 10: 20) وقوله "الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني" (يو 14: 24). في كل هذه المواضع لا يراد بأدة النفي سوى المقابلة بين شيئين من حيث السبب أو الأفضلية، وترجيح أحدهما على الآخر.
ثم نقول إن جوهر العهد الذي أخذه الله على شعبه المختار في جبل سيناء إنما هو الطاعة "إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب" (خر 19: 5) والشريعة اللاوية من ضمن الطاعة التي هي جوهر العهد.
أرميا مثال للمسيح: لا عجب إن كان بعض اليهود حسبوا رجل الأوجاع ومختبر الحزن هو أرميا النبي قام من بين الأموات (مت 16: 14)، للمشابهة بين الاثنين في الحزن على خطايا الناس، فكما بكى يسوع على أورشليم بكى أرميا، وكل من الاثنين ناله ما ناله بسبب توبيخ الخطاة على خطاياهم بدون محاباة ولا خوف. أرميا يكني عن نفسه بإحدى كنى المسيح الشهيرة حيث يقول "وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح" (11: 19).
المسيا المنتظر: لم يبين لنا أرميا حقائق كثيرة عن المسيا المنتظر كما بيَّن أشعياء، غير أنه لمح إليه تلميحات تستحق الاعتبار. فكنى عنه بينبوع المياه لحية (2: 13) وبطبيب (8: 22) وبالراعي الصالح (31: 10؛ 33: 4) وبغصن البر (23: 5) وبداود الملك (30: 9) وبالوالي أي الفادي (50: 34) ودعاه بهذا الاسم "الرب برنا" (23: 6). ومما يستحق العجب أن يتنبأ أرميا عن الملك الذي يجلس على كرسي داود في حين أن كرسي داود تداعت أركانه وتقلص سلطانه وباد العدل وساد الظلم بين الناس حيث يقول "وأُقيم لداود غصن بر فيملك ملك وينجح ويجري حقاً وعدلاً في الأرض. في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمناً وهذا هو اسمه الذي يدعونه به الرب برنا" فهذا الوصف ينطبق على مخلصنا: أما كونه غصن بر لداود فيدل على ناسوته وولادته من ذرية داود، وأما كونه يدعى "الرب برنا" فيدل على لاهوته.
العهد الجديد: قال الله على لسان عبده أرميا أنه سيعقد عهداً مع بيت يهوذا وإسرائيل (31: 31 – 37). ويوجه الرسول بولس هذا ليهود العصور المقبلة (رو 11: 26 و 27 وعب 8: 8 و 13). وأما وسيط هذا العهد الجديد فهو يسوع المسيح (عب 12: 24). وتشير النبوة إلى زمن الإنجيل وتشمل لا اليهود فقط بل كل الذين يؤمنون بيسوع أنه الوسيط الوحيد بين الله والناس وتشرح لنا روحانية العهد الجديد الذي فيه تكتب وصاياه لا على لوحين من الحجر كوصايا العهد الأول بل على صحائف القلوب، وفيه نُوعد بمعونة الروح القدس للعمل بهذه الوصايا.
الارتداد: إن القحط الشديد المشار إليه في إصحاح 14: 1 – 9 يمثل روحياً حالة المرتدين الذين بعدما عرفوا الرب يسوع تحولوا عنه فيشبهون أرضاً يابسة بلا ماء ولا مطر ولا زرع ولا عشب. ويكون الرب "كغريب في هذه الأرض" و "كجبار لا يستطيع أن يخلص". حقاً إن هذا لسان حال القلب المرتد الذي لكثرة خطاياه وعدم إيمانه يقنط من رحمة الله تعالى. فكم يلائم هذا السفر حالة المرتدينّ فإنه يعلن لهم تعطفات المحبة الإلهية ودعوة نعمته الفائقة وماذا يكون لذلك من التأثير في قلوبهم حيث يقول "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم. ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا" (3: 22).
سؤالات : يتضمن سفر أرميا أسئلة لا توجد أجوبتها إلا في إنجيل ربنا يسوع المسيح:
"كيف اصفح لك" (5: 7 أف 1: 7)
"كيف أضعك بين البنين" (3: 19؛ يو 1: 12).
"أليس بلسان في جلعاد أم ليس هناك طبيب" (8: 22؛ مت 9: 12)
"هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه" (13: 23؛ أع 8: 37 و 2 بط 3: 14)
"كيف تعلم في كبرياء الأردن" (12: 5؛ 1 كو 15: 55 – 57)
"اين القطيع الذي أعطي لك غنم مجدك" (13: 20؛ كو 1: 28 وعب 13: 17)
آيات ذهبية: في سفر أرميا آيات في مواضيع مختلفة، جديرة بأن نمعن فيها التأمل:
"ماذا تقولين حين يعاقبك" 13: 21
"القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه" 17: 9
"اهربوا نجوا أنفسكم وكونوا كعرعر في البرية" 48: 6
"كلمتي كنار ... وكمطرقة تحطم الصخر" (23: 29)
"احرثوا لأنفسكم حرثاً" 15: 9
"غربت شمسها إذ بعد نهار" 15: 9
"عرفت الأفكار التي أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب أفكار سلام لا شر لأعطيكم آخرة ورجاء" 29: 11
"محبة أبدية أحببتك من أجل ذلك أدمت لك الرحمة" 31: 3
"وتطلبونني فتجدونني إذ تطلبونني بكل قلبكم" 29: 13
"اسألوا عن السبل القديمة ... فتجدوا راحة لنفوسكم" 6: 16
"يسألون عن طريق صهيون ووجوههم إلى هناك" 50: 5
"كان شعبي خرافاً ضالة ... نسوا مربضهم" 50: 6
"وقت معاقبتهم" 8: 7 و 12
"مضى الحصاد انتهى الصيف ونحن لم نخلص" (8: 20)
"لا يعسر عليك شيء" 32: 17
مبراة الكاتب: سفر أرميا يفيض الشرح في موضوع الوحي. فإن تصفحته من الإصحاح الأول فما بعد وأعلمتَ على كل عبارة تفيد أن الله أوحى إلى عبده – كقوله مثلاً "هكذا قال الرب" "وصارت إلي كلمة الرب" "فقال الرب لي" – لوجدت عبارات كثيرة بهذا المعنى تتجاوز العشر في بعض الاصحاحات. وفي كل هذه المواضع يصرح أرميا بدون تردد بأنه موحى إليه من الله.
وعند تحقيق المسألة المطروحة أمامنا نرى الطريقة التي كتب بها أرميا سفره بالوحي. ألقى الرؤساء في السجن لكي لا يصدع خواطرهم بكلمة الرب في ما بعد. فأمره الرب "خذ لنفسك درج سفر واكتب فيه كل الكلام الذي كلمتك به من أيام يوشيا إلى هذا اليوم". فتصور أرميا في سجنه الضئيل النور، وبجانبه رفيقه الأمين باروخ يكتب ما يمليه عليه: "فكتب باروخ عن فم أرميا كل كلام الرب الذي كلمه به في درج السفر. وأوصى أرميا كل كلام الرب الذي كلمه به في درج السفر. وأوصى أرميا باروخ قائلاً: أنا محبوس لا أقدر أن أدخل بيت الرب. فادخل أنت واقرأ في الدرج الذي كتبت عن فمي كل كلام الرب في آذان الشعب في بيت الرب في يوم الصوم" (36: 4 – 6). فالسفر الذي كان بيمين باروخ وقرأه على مسامع الرؤساء والكهنة والشعب لم يكن إلا "كلام الرب".
وبعدما قرأ باروخ السفر على مسامع الشعب مثل أمام مجلس الرؤساء وأعاد عليهم السفر. فسأله واحد منهم "أخبرنا كيف كتبت كل هذا الكلام عن فمه. فقال لهم باروخ بفمه كان يقرأ لي كل هذا الكلام وأنا كنت أكتب في السفر بالحبر". فأتوا بالسفر إلى الملك وعرضوه عليه. وهنا المشهد الأخير المحزن. لم يتمثل هذا المشهد بين جدران السجن المظلم حيث كان أرميا محبوساً بل في قصر الملك الشتائي المتوفرة فيه وسائل النعيم والترف. فلما سمع يهوياقيم الملك بضع صفحات من السفر استشاط غضباً وأمر به أن يمزق ويطرح في الموقد الذي كان يصطلي عليه فمزقه كاتب الملك بمبراته وألقاه في النار. قال بعضهم نادباً حظ ذلك الملك الشقي: "لقد كانت له فرصة للتوبة وهو يسمع كلام الله. أما وقد طرح السفر في النار فلم يطرح فيها بالحقيقة سوى نفسه وبيته ومدينته وشعبه"
وشدد الملك على تعذيب النبي وباروخ "لكن الرب خبأهما". وفيما كان النبي في خلوته مع رفيقه الأمين أمره الرب أن يكتب من جديد "كل الكلام الأول الذي كان في الدرج الأول الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا" "وزيدَ عليه أيضاً كلام كثير مثله".
تعساً للإنسان غير المؤمن! فإنه قادر أن يمزق كلمة الله بمبراة ذهنه أي يزيفها بعقله ولكنه كمثل يهوياقيم لا يمزق سوى رجائه ويطرحه في النار. أما "كلمة الله فثابتة إلى الأبد" وبها يقضي عليه في يوم الدين (انظر 1 بط 1: 25 ويوحنا 12: 48).
كلمتي – نار: لم يكن يُنتظر من أرميا ذي الإحساس الرقيق أن يأتي بهذه الأنباء القاسية من عند ذاته لو لم يتحقق أنها كلام الله. فإنه كأيوب ندب اليوم الذي ولد فيه، ورثى نفسه رثاءً يذوب له الفؤاد. قال "صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بي" "كل أصحابي يراقبون ظلعي". فهل يُعقل أن يمضي أرميا قُدماً في أداء رسالته ويغرر بنفسه إلى موارد العطب والهلاك لو لم يكن على يقين تام بأنه يبلغ رسالة الله! ومن فرط ما أصابه من الضيم والهوان في أداء رسالة الله رواد نفسه أن لا يعود يذكر اسمه كما يدل على ذلك قوله "لأن كلمة الرب صارت بي للعار وللسخرة كل النهار فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه". ولكنه لم يجد مناصاً من هذا التكليف كما يقول "فكان: (كلام الله) في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الإمساك ولم أستطع". ولا غرابة في ذلك لأن الله وعده قائلاً "هأنذا جاعل كلامي في فمك ناراً" وقال "إذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون". وقال أرميا: "وُجد كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي". واعلم أن الصلاة كانت سر نجاح الرجل ومناجاته السرية.
- عدد الزيارات: 10448