الفصل الخامس: سفر حزقيال النبي
كما جعل الرب أرميا النبي عمود حديد في أرض يهوذا جعل حزقيال بين قومه في أرض السبي على نهر خابور صلباً كحجر الماس (3: 9). امتازت نبوته بالقوة التي من مادتها اشتق اسمه. عاصر أرميا حيناً من العمر لأن حزقيال بدأ بنبوته في السنة الخامسة من سبي يهوياقيم ولبث يتنبأ لا أقل من اثنتين وعشرين سنة 1: 2 و 29: 17) ونسج على منوال أرميا في الأنباء عن مستقبل الشعب المختار مع بسط المقال وإفاضه الشرح.
بيت المقدس: كان حزقيال كاهناً كأرميا. والمرجح أن سنة ثلاثين التي يؤرخ بها رؤياه في بدء سفره إنما هي السنة الثلاثون من عمره أي الوقت الذي يبتدئ فيه الكاهن بممارسة خدمته المقدسة.
استرجع الله ظهوره من هيكل أورشليم وصار يظهر من الآن فصاعداً بين شعبه المسبيين في بابل في ذلك الهيكل الروحي الصغير. فتأمل في لطف الله ومحبته! كم مرة ننساه وهو لا ينسانا، ونتركه وهو يتتبع آثار خطواتنا حتى إلى دار منفانا! في ذلك المنفى البعيد قرعت كلمات النعمة الإلهية آذان أولئك المسبيين بما معناه أن الله لا يحصر مجده في بقعة خاصة من الأرض ولو كانت هيكل سليمان بل حيث يكون شعبه هناك هيكله. فإن كان الأمر هكذا يكون حزقيال كاهناً لخدمة ذلك الهيكل الروحي.
يقسم سفر حزقيال إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول من ص 1 – ص 24 يشتمل على شهادات الله في حق الشعب المختار على وجه عام وأورشليم على وجه خاص.
القسم الثاني: من ص 25 – ص 37 يتضمن الأقضية المحكوم بها على الأمم المجاورين للشعب المختار.
القسم الثالث: من ص 38 – ص 48 يرجع إلى ذكر الشعب المختار ويتنبأ عن رجوعهم من السبي وانسكاب البركات عليهم.
يقسم حزقيال سفره إلى أربعة عشر قسماً، ويصدر كلاً منها بتاريخه الخاص. ويبدو أن موضوعه الرئيسي هو تعزية المسبيين في غربتهم، وتحذيرهم من الانقياد إلى العبادة الوثنية المحيطة بهم، وإنباؤهم بآمال مجيدة مذخرة لهم إن أخلصوا لله ورجعوا إليه بكل قلوبهم. وسعة الرجل في مادة التعبير والاستعارة جعلت لسفره رونقاً وطلاوة خاصة.
يجب أن نستعين على فهمه بإرشاد الروح القدس متأكدين "أن كل ما سبق فكتب كتب لأجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء".
رؤيا الكروبيم: وقف حزقيال موقف المتفاني في خدمة الله. فأهّله الله لخدمته بان أراه رؤيا عظيمة مضاعفة: رأى أربعة حيوانات رهينة أمر الله "كل واحد كان يسير إلى جهة وجهه. إلى حيث تكون الروح لتسير تسير. لم تَدر عند سيرها" (1: 12). فاتباع كهذا لا يشوبه تردد ولا زيغ في ما يطلبه الله من عبده حزقيال، وما يطلبه من كل منا أيضاً. الأسد أقوى الحيوانات، والثور أصبرها، والنسر أعلى الطيور ارتفاعاً في الجو، والإنسان مخلوق على مثال الله أي أفضل أنواع المخلوقات الحية التي على وجه الأرض. فهذه الحيوانات الأربعة – بأجنحتها وبكراتها المملوءة عيوناً، وطيرانها بانتظام إلى وجهة واحدة بسرعة البرق الخاطف وسط نار متقدة – تمثل لنا، بصورة محسوسة، تنفيذ مشيئة الله بالضبط والسرعة كما سينفذها قديسوه حينما يرونه كما هو، وكما يقصدون أن ينفذوها في الوقت الحاضر وإن حال الضعف البشري دون قصدهم في بعض الأحيان.
رؤيا الرب: ليس علينا أن نجهد كثيراً حتى نجد صورة المسيح مرتسمة أمامنا. رآه النبي في رؤياه الواردة في الإصحاح الأول لأنه لا يخالجنا أقل شك أن الإنسان الذي رآه جالساً على العرش ليس هو إلا الابن الوحيد "صورة الله غير المنظر". وهذه الرؤيا بمثابة بدء إعلان سر التجسد المقدس. وأما تفاصيلها، كما رآها النبي المنفي على ساحل نهر خابور – فتحاكي تفصيلات رؤيا منفي جزيرة بطمس. وبين السفرين مشابهات تتجاوز الثمانين. وكما أن يوحنا قد رأى المسيح في الرؤيا التي حصلت له في جزيرة بطمس، هكذا رأى حزقيال مجد الله في شخص ربنا يسوع المسيح. رأى حزقيال "شبه عرش كمنظر حجر العقيق الأزرق وعلى شبه العرش شبه كمنظر إنسان عليه من فوق" ورأى يوحنا "وإذا عرش موضوع في السماء وعلى العرش جالس". ورأى كلاهما قوس قزح علامة العهد. ورأيا بهاء الحضرة الإلهية ممثلة بالبلور النقي: رآه حزقيال كذات السماء في النقاوة، ورآه يوحنا كبحر زجاج شبه البلور. وكذلك كلاهما نظرا مصابيح روح الله المتقدة، وسمعا صوت الحيوانات يشبه صوت خرير المياه الكثيرة (حز 1: 24 ورؤ 19" 4 – 6). وكلاهما أخذا من يد الجالس على العرش المتوج بقوس قزح سفراً، وأُمرا بأكل السفر ثم بالذهاب والتنبؤ (1: 28 و 2: 1 و 8 – 10 و 3: 1 – 4 ورؤ 10: و 2 و 8 – 11).
"هذا". أشار حزقيال بقوله "هذا" إلى "شبه مجد الرب" (1: 28). وإذا تصفحنا ما كتبه في سفره عن "مجد الرب"، نرى إعلان الحضرة الإلهية، كما هي معلنة في الابن الأزلي الذي في ملء الزمان "صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب".
رؤية يسوع على الصليب حاملاً خطايانا تسبب لنا الخلاص، ورؤيته على العرش معمداً بالروح القدس تطلق حريتنا للخدمة. قال حزقيال إن الروح دخل فيه، وأنه سمعه يكلمه. هذا بعض من الأدلة الكثيرة الواردة في هذا السفر على أقنومية الروح القدس.
رجل رهين الخدمة الإلهية: أرسل الله حزقيال نبياً ورسولاً إلى بني إسرائيل سواء سمعوا أو امتنعوا "فإنهم يعلمون أن نبياً كان بينهم". وكثيراً ما نقرأ قوله "وكانت يد الرب عليّ. وأصعدني الروح. هل علمنا – نحن معاشر خدام الإنجيل – أن يد الرب معنا، وروحه يرقبنا ويستخدمنا حسبما يشاء؟ كان حزقيال مطيعاً وأميناً. تكلم حيث أمره الله بالكلام وصمت حيث أمره بالصمت "حتى يعلموا أنك تبلغهم كلمتي".
إرسال حزقيال إلى قومه: قد يكون أسهل على الإنسان أن يرسل إلى البعيد كالهند والصين مثلاً من أن يرسل إلى أقاربه وأعضاء كنيسته. ولكن لا مناص من التكلم مع الأهل والأصحاب إن قال لنا الله ما قاله لحزقيال "لأنك غير مرسل إلى شعب غامض اللغة وثقيل اللسان .... امض اذهب إلى المسبيين إلى بني شعبك" (حز 3: 5 و 11). كان على حزقيال أن يبلّغ رسالة الله إلى أناس قساة – إلى أنبياء وشيوخ ورؤساء ورعاة؛ إلى أورشليم وبيت إسرائيل؛ إلى الأمم الوثنية؛ إلى الجمادات على سبيل المجاز: إلى العظام البالية، والريح، والطير، والوحش، والحرش.
الحارس: أرسل الرب حزقيال للحراسة وأمره أن ينذرهم بالخطر بلا خوف، وإن لم ينذرهم يطالَب بدمهم (3 و 18). الإصحاحان المشار إليهما يهددانا بالمسؤولية الشخصية التي تترتب علينا إن نحن قصرنا عن تحذير الخطاة بسوء عاقبتهم. كان بولس شديد الحرص على تأدية واجب التحذير حتى ساغ له أن يقول "إني بريء من دم الجميع" (أع 20: 26).
آية: أرسل الرب حزقيال آية "ويكون حزقيال لكم آية" (24: 24 و 4: 3 و 12: 11). تصوير حصار أورشليم نبه أذهانهم فإن الله يأتي بالعلامات في أوقاتها المناسبة. ولكي يكون حزقيال آية الله للشعب ضحى مصالحه الشخصية. وسلم نفسه لله حتى أنه كان على استعداد تام أن يعمل أي شيء يأمره به الله: أن يضرب بيده أو يخبط برجله، أن يخرج إلى الخلاء أو ينحبس في داره، أن يضحي مقام ظهوره بين الناس (5: 1) أو ياكل خبز الضيق. وكانت أصعب تضحية وامتحان حين أمره الرب أن لا يبكي.
لا يكلفنا الله ما كلف به حزقيال من الأمور الغريبة ولكن مما لا شك فيه أن إتباع آثار من كان محتقراً ومخذولاً من الناس لهو شيء تأباه الطبيعة البشرية ومعارض لمشرب العالم. فهل الله واجد بيننا من هو سهل الانقياد لمشيئته كما كان حزقيال؟ فإنه طالبٌ مثل هذا الرجل: "وطلبت من بينهم رجلاً ... يقف في الثغر أمامي عن الأرض لكيلا أخربها فلم أجد" (22: 30 و 13: 5).
مجد الرب: الفكرة الأساسية في سفر حزقيال هي مجد الرب أي إعلان بهاء حضرته القدسية. وقد كرر ذكر هذا المعنى اثنتي عشرة مرة في الأحد عشر إصحاحاً الأولى؛ ثم لم يعد إلى ذكره إلا من الإصحاح الثالث والأربعين. إن مجد الرب هجر هيكل أورشليم بسبب ما حل فيه من عبادة الأصنام من نفس شعبه. وما كان الرب ليرجع عن حمو غضبه ويعود إلى اتخاذ مقر لمجده في الهيكل الجديد إلا بعد تدمير الهيكل الأول وقلب المدينة. وهذا كان وجه احتجاجه على شعبه، "من أجل أنك قد نجست مقدسي بكل مكرهاته وبكل أرجاسك فأنا أيضاً أجزّ ولا تشفق عيني وأنا أيضاً لا أعفو". وكثيراً ما أنذرهم النبي بالويلات جزاء لهم على مكرهاتهم التي دنسوا بها هيكله المقدس كما نرى في الإصحاح الثامن الذي فيه انتقل النبي بالروح في رؤياه من أرض الكلدانيين إلى أورشليم ورأى أمثلة الرجاسات التي أغاظوا بها الله ومن جملتها أنهم سجدوا للشمس وهم في الهيكل وولوا وجوههم نحو الشمس وظهورهم نحو الهيكل.
نرى فيما يلي كيف أن مجد الرب أخذ في الاحتجاب تدريجاً فترك أولاً الجانب الداخلي من الهيكل واستقر على الكروبيم، تلك الكائنات التي تعمل حسب أمره. فلما ارتفعت عن وجه الأرض ارتفع معها مجد الرب هاجراً المدينة منتقلاً إلى الجبال.
للمسيحي أن يحزن الروح القدس ويقاومه أو يحدد دائرة عمله ويطفئه. فكم يوجد بين المؤمنين أناس شوهوا حياتهم الروحية وأطفأوا من قلوبهم جذوة النار الأولى وذلك بعدم طاعتهم كأن لا يبلغوا لإخوانهم ما أحسوا به أنه من قبل الرب. يقدر اله أن يعمل كثيراً بشرارة ولكن المسألة أن يجد من هو صالح لتوصيل الحرارة. إننا نحزن الروح إن لم نتفغ للعشرة معه؛ ونحدد دائرة عمله إن ارتبنا في مقدرته على تجديد القلب وتطهيره وملئه؛ ونغيظه ونقاومه بوجود الأصنام في قلوبنا أو بتمردنا عليه وعدم انقيادنا لمشيئته. فإن استمر أحد على هذه الحالة أطفأ الروح.
ومن الأصنام الرئيسية التي تحزن الروح وتخرجه من هيلكه مشاكلة أهل العالم! فهي التي تستنـزف دم الحياة من شرايين الكنيسة. أما تسربت روح العالم ومحبة الذات في أشغالنا اليومية بحيث أصبحنا نعتبر الثروة والمنصب فوق ما ينبغي، ونحب الظهور بين الناس، ونعقد ميثاق الوداد مع أهل العالم، وغاب عن صوابنا قول الرسول: "محبة العالم عداوة لله"؟ أما نهجنا سبيل العالمييين نقرأ ما يقرأون، ونلبس ما يلبسون الخ في حين أنه كان ينبغي لنا أن نكون شعباً خاصاً للرب ممتازاً عن الشعوب التي حولنا؟ فالدواء الشافي لهذا الداء الوبيل – أعني به الروح العالمية – أن نتمتع برؤية مجد الرب الذي من ضيائه الباهر ينكسف مجد العالم في عيوننا وننظر إليه كشيء محتقر لا يستحق هذا العناء. إن شبعت النفس بمخلصها المحبوب لا يبقى للعامل نفوذ عليها. قال يسوع "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء". فهل يصدق علينا هذا القول "لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه"؟
الرعاة: يتضمن الإصحاح 34 إنذاراً للرعاة الخائنين الذين يطعمون أنفسهم ويجيعون الغنم. وفي ختام الإصحاح نبوة رائعة عن الراعي الصالح اقتبسها المسيح وأشار بها إلى نفسه في إنجيل يوحنا (ص 10). وأما وعده بأنه ينشد غنمه ويردهم إلى أرضهم فيشار به أولاً إلى اليهود، ولكن يسوع قال بأن له خرافاً أُخر ليست من الحظيرة ينبغي أن تسمع صوته ويجمع الكل في حظيرة واحدة تحت عناية راع واحد.
القلب النقي: الإصحاح 36 يراد به الإشارة أولاً إلى الشعب المختار. هؤلاء يرجعون إلى الرب إلههم من بعد شتاتهم في كل الأراضي والبلدان فينقيهم الله من آثامهم ويطهرهم من خطاياهم ويكونون شهوده أمام العالم. ويتضمن هذا الإصحاح، عدا ما ذكر، إشارة إلى عصر الإنجيل وقدرة المسيح أن يطهر ويخلص إلى التمام. ومن عدد 16 إلى 28 يفيد أن ليس فينا شيء يقربنا إلى الله باعتبار حالتنا الطبيعية، وإن خلاصنا بيسوع المسيح إنما هو نعمة من الله لأجل مجد اسمه القدوس الذي دنسناه بآثامنا. وكما وعدنا في العهد الجديد بأن دم المسيح يطهرنا من كل خطية وعدنا هنا بما يوافق ذاك المعنى وهو أن ابن الله ينـزع منا القلب الحجري ويعطينا قلباً لحمياً ويجعل روحه في داخلنا ليقدّرنا على عمل مرضاته.
العظام اليابسة: الإصحاح 37 يشير إلى اليهود أولاً "يا ابن آدم هذه العظام هي كل بيت إسرائيل" (37: 11)، ويكرر الوعد بإرجاعهم. ولكنه بتضمن أيضاً صورة جميلة تمثل حقيقة الإنجيل الذي هو عبارة عن إحياء الله للأموات بالذنوب والخطايا. ويوافق هذه الصورة ما قاله المسيح لنيقوديموس بشأن ضرورة الولادة الجديدة، والعمل العظيم الذي يعمله روح الله القدوس الذي يهب حيث يشاء على الأموات بالخطية فيهبهم الحياة. ويختم الإصحاح بتجديد الوعد لداود المقبل الذي سيملك على شعب الله ويرعاهم إلى الأبد.
الدينونة: الإصحاح 38 يتضمن واقعة حال القضاء الذي ينفذه الله في شعبه بواسطة جوج وجيشه الشمالي. والمظنون أن هذا القضاء آخر ما يحل بهم. ففي الإصحاح 21 يقول الرب أنه سيرسل سيفاً على أورشليم: "منقلباً منقلباً منقلباً اجعله. هذا أيضاً لا يكون حتى يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه". وفي الإصحاح 22 بعد الكلام عن تفريق شعب الله يقول الرب أنه يجمعهم في وسط أورشليم كما يجمع المعدن في وسط الأتون لإذابته كذلك يجمعهم هو ليذيبهم في وسط نار غضبه. على ان تلك الأهوال والمصائب العظام التي تدهم الشعب المختار في آخر الأيام تمحصهم وتعدهم للتوبة الحقيقية والرجوع إلى الرب إلههم.
الهيكل: الإصحاحات التسعة الأخيرة تتضمن رؤيا حزقيال عن الهيكل الجديد. هذه الرؤيا لم تتم بعد لأن الهيكل الذي بناه زربابل، والذي بناه هيرودس، ينقص بكثير عن الهيكل الأخير الذي أرى الملاك مثاله لحزقيال. بقي أن معنى هذه الرؤيا – كما قال بعض العلماء المحققين – غير مجزوم به. وإنما يظن أن تقسيم الأرض، وحصة الرئيس ومزارعه، والمدينة الجديدة، والهيكل المتسع، الكل يشير إلى عظمة الملك الألفيّ، وهذا لم يتم كما هو ملعوم. وأما إن كنا نصرف أقوال هذه الرؤيا إلى معنى مجازي أو روحي ونطبقها على بركات العهد الجديد التي يتمتع بها المسيحيون فلا يُصيب الحقيقة، بل ونذهب بمعنى الرؤيا على غير المراد منها.
لما تم الهيكل رأى حزقيال وإذا مجد الرب رجع من الباب الشرقي، أي من حيث ذهب، وملأ البيت. ونتعلم من ذلك أنه إذا أحزنا روح الله القدوس فترك قلوبنا يجب أن نتوقع رجوعه من الباب الذي خرج منه بمعنى أنه يجب أن نتذكر الخطية التي أحزنته وأخرجته فنعترف بها ونتوب عنها. هذا هو الطريق السلطاني الذي ينتهجه الروح في العودة إلى مسكنه الذي هجره. وبدون الطاعة لله لا يعود، كما يدل على ذلك قوله "والروح القدس أيضاً الذي أعطاه الله للذين يطيعونه". ثم نقرأ في هذا الإصحاح بكل وضوح عن عودة مجد الله واتخاذه مقاماً له في الهيكل وبقائه فيه إلى ان يملأ. وهذا ما ينتظره الله من كل مسيحي "امتلئوا بالروح" (أف 5: 18).
النهر: إن امتلأنا بالروح نفيض حتماً إلى الآخرين. وهذا يأتي بنا إلى رؤيا حزقيال للنهر (إصحاح 47). لا شك أن لنا، في هذه الرؤيا، معنى روحياً. أن يسوع يريد أن يجعل أنهار بركاته تفيض في كل نفس مخلَّصة (يو: 37 – 39). فهل نحن بالحقيقة كخدام للمسيح نخدم الغير بالروح؟
الأنهر تصدر من المقدس: هذه الأنهر تخرج من حضرة الرب فقط وقد ملأت قلوبنا بالبركة بحيث تفيض على الآخرين. عندما تكلم النبي عن النهر دل على أن متبعه من جانب المذبح الجنوبي مشيراً بذلك إلى أن البركات المكنى عنها بالنهر إنما تفيض من ذبيحة المسيح. ويؤيد ذلك قوله "وأراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلور خارجاً من عرش الله والخروف" "خروف قائم كأنه مذبوح". قال حزقيال أن النهر بلغ إلى الكعبين على ساحله، ثم بعد مسافة بلغ الركبتين، ثم إلى الحقوين – ومعنى ذلك أن الله يبتغي أن تزداد قوته فينا أكثر فأكثر – إلى أن قال "لم أستطع عبوره لأن المياه طمت مياه سباحة نهر لا يعبر". حقاً إن الإنسان يفقد ذاته إذا بلغ إلى ملء الروح. ثم يقول حيثما يجري تحيا الأسماك، وينبت الزرع على ضفافه، وتطلع الأشجار الجيدة، تنضج أثماراً للطعام، وتزهر أوراقاً تشفي الأمراض. ومعناه أن الله يود أن نكون كذلك النهر حيثما سرنا بعثنا في الأموات روحاً حياً، وأنتجنا في المجدبين ثمراً شهياً، وصنعنا خيراً إلى الذين حولنا كيفما كانت حالتهم. وقال أن البرك لا تشفى. إن الماء إذا انحبس يموت، وإذا جرى يحيا. وهكذا الحال مع القوم الذين يأخذون من بركات الله حتى يملأوا جعابهم ولكنهم لا يريدون أن يعطوا مما أخذوا. فمثل هؤلاء كمثل البرك لا يشفون ويكونون عديمي الثمر.
أنهار ماء حي: قصدُ الله أن يجعلنا أنهار ماء حي. فلا ندع الفشل يتسرب إلينا أو يسيطر علينا. ولا نتعثر بسبب الجفاف الذي يحل ببعض أعضاء الكنيسة. إن الله يشجعنا بقوله: "هأنذا صانع أمراً جديداً. الآن ينبت. ألا تعرفونه. اجعل في البرية طريقاً في القفر أنهاراً – أي في المكان الذي لا يرجى منه خير – لأسقي شعبي مختاري". (أشعياء 43: 19 و 20).
الحياة: إن قلبنا صفحات هذا السفر نرى فيه المسيح كواهب الحياة. إن الكروبيم الذين رآهم النبي، كما ورد في الإصحاح الأول، يمثلون انتعاش الحياة في القديسين؛ وإن الرجل اللابس الكتان – الذي يظن بأنه ملاك العهد ورئيس كهنتنا – رآه النبي يسم سمة على جباه الأمناء حرصاً على حياتهم لكي لا يهلكوا في جملة سكان أورشليم (9" 2). وإن أول كلمة قيلت لأورشليم المشبهة بلقيطة، طرحت يوم وُلدت على جانب الطريق هي كلمة "عيشي" (16: 6). وهكذا اعتنى بها إلى أن صارت كاملة في الجمال بفضل بهائه الذي ألقاه عليها. ومثل ذلك كانت كلمة الله التي أوصى بها حزقيال – يقولها في مقام حارس مدينة ينذر قومه – "قل لهم. حي أنا يقول السيد الرب أني لا أُسرّ بموت الشرير بل أن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا .. فلماذا تموتون (33: 11). وكانت عنايته كعناية الراعي بحياة الغنم (34). وأجاب بنفسه على سؤاله "أتحيا هذه العظام" "هأنذا أُدخل فيكم روحاً فتحيون" (37: 3 و 5). وأخيراً نقول كما تقدم "ويكون أن كل نفس حية تدب حيثما يأتي النهران تحيا".
ابن آدم: في كل هذا السفر يخاطب الله حزقيال بهذا الاسم "ابن آدم". إنه من دلائل نعمته أن يختار الله واحداً من البشر يرسله إليهم ولم يختر ملاكاً من ملائكته الواقفين قدامه. ولكن نعمته ظهرت في أعظم مظاهرها في اتحاد ابن الله بابن آدم أقنوماً واحداً ليقوم بأعباء الرسالة خير قيام "لأنه حقاً ليس يمسك الملائكة بل يمسك نسل ابراهيم". شابه إخوته في كل شيء حتى في ماهو قد تألم بقدر أن يعين المجربين.
ويختم سفر حزقيال بوعد مبارك ألا وهو حضور الله الدائم في اورشليم "واسم المدينة من ذلك اليوم يهوه شمَّه" أي "الرب هناك".
- عدد الزيارات: 9079