الباب الخامس - الفصل الأول: نظرة عامة في النبوة
الباب الخامس
المسيح في الأسفار النبوية
"إن شهادة يسوع في روح النبوة" (رؤ 19: 10)
قبل الشروع في فحص كل سفر على حدته نقول كلمة موجزة شاملة للكل.
تعريف النبوة: إن الكتاب نفسه يحدد لنا مركز النبي ومهمته. "قال الرب لموسى انظر. أنا جعلتك إلهاً لفرعون. وهرون أخوك يكون نبيك" "تضع الكلمات في فمه" (خر 7: 1 و 4: 15). يستفاد من هذا التعريف البسيط والصريح للغاية أن موسى قد تعين تعييناً إلهياً في موضع الله بالنسبة إلى فرعون، وتعين هرون نبياً لموسى يتلقى عنه الرسالة ويسلمها إلى فرعون.
أهمية النبوة: للنبوة في الكتاب المقدس منـزلة رفيعة وتشغل نحو ثلث صحائفه. وكم يجب أن نعيرها التفاتنا وعنايتنا ونقرأها مسترشدين بها إلى الحقائق الإلهية ومستعينين على فهم أخبارها وأسرارها بنور الروح القدس.
النبوة إعلان من الله لأولاده عن مقاصده من نحوهم. أُوحي بها ليس فقط لقصد متعلق بزمن خاص بل أيضاً لإفادة الناس في كل زمان ومكان. يقول الرسول في هذا الصدد: "لأن كل ما سبق فكُتب كُتب لأجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء" (رو 15: 4). وإذ ليس بميسور أحدٍ سوى الله أن يعلم الغيب، فهو وحده مصدر الأنباء الأشياء قبل زمانها. قال يسوع لتلاميذه "قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (يو 15: 15). ودُعي ابراهيم "خليل الله"؛ ولما كان الله على وشك أن يسكب نار دينونته على مدينة سدوم قال "هل أخفي عن ابراهيم ما أنا فاعله". فينبغي أن لا يبرح من ذهننا، خلال دراسة الأسفار النبوية، أنه تنازلٌ من الله أن يعلن للأنبياء مقاصده "إن السيد الرب لا يصنع أمراً إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء". (عا 3: 7).
للنبوة ثلاثة مبادئ:
الأول – كان على الأنبياء أن يبلّغوا أهل زمانهم رسالة خاصة فصرفوا معظم عنايتهم في إجلال سلطان العزة الإلهية. فسواء خاطبوا أقوامهم بقسوة البرق أو بلين النسيم فباسم الله وبسلطانه تكلموا. ما كانوا ليهابوا الموت الأليم لأن جل غايتهم تمجيد الله. وكم ساءهم تفريط بني إسرائيل في قضاء حق نعمته عليهم وتقصيرهم في تكريم اسمه أمام أمم الأرض المجاورة لهم! ولكنهم على رغم هذه الظواهر المحزنة امتلأوا حماسة ورجاء بأن الفوز في النهاية هو في جانب الله.
الثاني – أنبأ الأنبياء بحوادث مستقبلة. إن معظم مشتملات أسفارهم هو من هذا النوع. والنبوات الرئيسية هي سقوط بني إسرائيل والقضاء عليهم، وكذا القضاء على الأمم المجاورين لهم، ومجيء المسيح ورفض بني إسرائيل له، ثم مجيئه في مجده ورجوع بني إسرائيل، وأخيراً إقامة ملك المسيح على كل الأرض.
ثالثاً – تتضمن الأسفار النبوية رسالة لعصرنا الحاضر. فالحق حق والباطل باطل مهما كانت العصور. من أجل ذلك، ما أحوج زماننا إلى تهديدات أولئك الأنبياء السالفين ضد الخطية، ومطالبتهم بعبادة الله دون سواه ونبذ عبادة الأوثان! ألا نرى الخطية متفشية بين معاشر المسيحيين أنفسهم، فضلاً عن أهل الأديان الأخرى، في أقبح مظاهرها؟ وكذا التعبد والسجود لغير الله من صور وتماثيل وخبز. الخ.
إن سقوط الإنسان كان الفرصة التي فيها جاءت النبوة الأولى المتعلقة بمجيء المخلص العظيم من نسل المرأة. وعبودية الشعب المختار أوجبت إرسال موسى في مقام نبي؛ وكذا صموئيل النبي قام في الزمن الذي رفض فيه الشعب أن يكون الله ملكاً عليهم وأرادوا ملكاً من بني البشر. وجاء إيليا وأليشع يزجران الشعب عن المروق إلى الوثنية ويردانه إلى عبادة الله. ولما انجرف الشعب وراء الآلهة الكذبة قامت "كوكبة" الأنبياء ينادون ويناشدون ويحذرون ... يقول بطرس الرسول متكلماً عن النبوة "عندنا الكلمة النبوية وهي أثبت". ثم يشبهها بالسراج المنير فيقول: "تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم" (2 بط 1: 19).
النبوة شيء والعرافة شيء آخر: ليست النبوة ضرباً من ضروب التنجيم والكهانة. يقول الكتاب المقدس إنها ليست من مجهودات البشر، بل صادرة من قوة روح الله القدوس إلى روح النبي "كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر" (لو 1: 70). والأنبياء لا ينسبون "الرسالة النبوية" لأنفسهم؛ بل إنهم ينسبون إلى الله ذات الألفاظ التي بها يؤدّون الرسالة، ويستهلون الرسالة "هكذا يقول الرب" أو "فكانت كلمة الرب إليّ". وعبارة بطرس الرسول في هذا الموضوع تؤيد ما قلناه "لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2 بط 1: 21). وقال الله لأرميا النبي "ها قد جعلت كلامي في فمك" (1: 9). وقال لحزقيال: "وتتكلم معهم بكلامي" (2: 7). وأما الأنبياء الكذبة – كالعرافين والمنجمين – فإنما يتكلمون من أنفسهم (انظر أر 14: 14 و 23: 16).
أهل العرافة يدَّعون أنهم ينبئون بالغيب في أي موضوع كان بلا شرط ولا قيد؛ أما الأنبياء الحقيقيون فلا يتنبأون إلا لبسط أو استيفاء الحقائق المتعلقة بتاريخ الفداء إظهاراً لمقاصد النعمة الإلهية. وأنباء العرافين خالية من هذا الموضوع، وخالية أيضاً من المبادئ الأخلاقية. فما هي إلا تكهنات وتحرصات ص236 بالمستقبل دفعهم إليها حب الغرابة.
وكذا أعلم أن النبوات الحقيقية، وإن تكن مدهشة بحكم الضرورة حين تتم وقائعها، قد كتبت إعلاناً لمقاصد الله من جهة خلاص الجبلة البشرية. وهي تدور حول المسيح وخلاصه العجيب "الخلاص الذي فتَّش وبحث عنه أنبياء. الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها. الذين أعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التي أُخبرتم بها أنتم الآن بواسطة الذين بشّروكم في الروح القدس المرسل من السماء. التي تشتهي الملائكة أن تطلع عليها" (1 بط 1: 10 – 13 و أع 26: 22 و 23).
المرئيات بعين النبوة: التنبؤ بحوادث المستقبل بشبه رؤية الأشياء من بُعد. مثال ذلك ترى سلسلة جبال من مسافة بعيدة كأنها متماسكة لا فرجة بينها، ولكن لما ترقى إليها تجدها متباعدة بعضها عن بعض بأميال كثيرة. وهكذا الحال مع المرئيات النبوية، فلا يسع النبي من مركزه القاصي أن يقدِّر المسافة بين الحادثة والأخرى بل يراهما متواصلتين كحادثة واحدة. ومن هذا القبيل تنبأ الأنبياء عن مجيء المسيح الأول في اتضاعه، والثاني في مجده كأنهما مجيء واحد؛ وقصرت باصرتهم عن إدراك القرون الكثيرة التي بين الحادثتين. ولا عجب في ذلك فإنهم يرون هذه المرئيات باقتباس من علم الله الذي ليس للزمان اعتبار عنده. وما أحسن ما قيل في هذا المعنى: يوم واحد عند الرب كألف سنة كيوم واحد!
تفسير النبوة: من الواضح أن الأنبياء أنفسهم لم يكونوا يفهمون على الدوام ما أتوا به؛ كما صرح بذلك الرسول بطرس في ما ذكرناه آنفاً (1 بط 10 – 13). وتظهر هذا الحقيقة في مواضع أخرى من الكتاب المقدس. راجع (دانيال 7: 28 و 8: 15 – 27 و 10: 7 – 15؛ رؤيا 1: 17 و 7: 13 و 14 و 17: 6). ويلزم من ذلك أن نفس الكلمات قد أوحيت إليهم؛ وبالتالي تصبح النبوة دليلاً لا يقبل الطعن في نسبة الكتاب المقدس إلى مصدر إلهي.
ولفهم النبوات على الوجه الصحيح يجب أن نطالعها في نور العهد الجديد الذي يشرحها شرحاً مدققاً في شخص المسيح. فأسفار الكتاب، والحالة هذه، تشبه عقداً من الدرر المسيح سلك نظامه، أو بعبارة كتابية، تشبه بناءَ حجر الزاوية فيه هو المسيح. ويجب أيضاً الاستعانة على فهمها بإرشاد الروح القدس الذي أملاها على الأنبياء لأنه أعلم بمراده. وغني عن البيان أن التاريخ شارح محسوس للنبوات ينسخها من جديد على صحائف الزمان بياناً لطالب البيان وبرهاناً لطالب البرهان. إلا أن التاريخ لا يعلمه إلا فئة قليلة من الناس، والنبوات كتبت لإفادة الجميع. فلزم كما تقدم أن نفهمها بإنارة العهد الجديد وإرشاد الروح.
وكم لام المسيح تلاميذه لقلة فهمهم الوقائع التي أصابته مع سبق بيانها في أسفار الأنبياء "فقال لهما أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده. ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" (لو 24: 25 – 27). وعلى هذا الحال يكون مجيئه الثاني، فقد سبقت وأخبرت به الأسفار، ولذا فسيلحقنا مثل هذا الملام إن كنا نلهو عن انتظاره "لذلك كونوا أنتم أيضاً مستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان" (مت 24: 44).
وصرح المسيح أنه ينبغي للأمة اليهودية أن تعترف به لأنهم قرأوا عنه في أسفار أنبيائهم قائلاً "إنكِ لو علمتِ أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أُخفي عن عينيك ... لا يتركون فيك حجراً على حجر" (لو 19: 42 – 44). وقال استفانوس في هذا المعنى خطاباً لليهود "يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان أنتم دائماً تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم كذلك أنتم. أيُّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار الذي أنتم الآن صرتم مسلِّميه وقاتليه" (أع 7: 50 و 52). وقال الرسول بولس "لأن الساكنين في أورشليم ورؤساءهم لم يعرفوا هذا. وأقوال الأنبياء التي تقرأ كل سبت تمموها إذ حكموا عليه". "فانظروا لئلا يأتي عليكم ما قيل في الأنبياء انظروا أيها المتهاونون وتعجبوا واهلكوا لأنني عملاً أعمل في أيامكم. عملاً لا تصدِّقون إن أخبركم أحد به" (أع 13: 27 و 40 و 41؛ انظر 2 بط 3).
استحالة تمام النبوات على طريق العرض والاتفاق: إن الذين يقولون بتمامها على هذا الوجه يجهلون ناموس الاتفاق، ولا يميزون بين البسيط منه والمركب. فنقول لأمثال هؤلاء إن النبوة المشتملة على مادة واحدة يحتمل أن تتم ويحتمل العكس. وعلى هذا القياس تتم نبوة من اثنتين. وأما إذا كانت النبوة ذات مادتين فتمامها بالعرض أبعد وقوعاً من ذات المادة الواحدة. وكلما ازدادت موادها بَعُد وقوعها عرضاً. والنبوات التي نحن بصددها ذات تفاصيل مدققة تتناول مسائل كثيرة وشؤوناً متنوعة سواء كانت متعلقة بما قضي به على بني إسرائيل أو على الأمم الذي حولهم. ويزيد عن ذلك تفصيلاً وتنوعاً النبوات التي وردت من قبيل المسيح. فتتميمها على سبيل الصدفة ضرب من المحال كما هو ثابت عند المحققين. وإتمام نبوات كتابنا دليل قاطع على صحته، ومعجزة لم يشاهد العالم نظيرها. وهي سارية في الكتاب من أوله إلى آخره سريان الدم في الجسم.
أمثلة النبوات: ونأتي الآن على ذكر أمثلة من النبوات قد تمت. إن عمل الفداء بأجمعه قد لُخص في جملة ذات فقرتين وعد بها الله آدم. وأوجز نوح في ثلاث عبارات تاريخ الجنس البشري، فجاء كلامه مطابقاً لآراء المتأخرين من علماء هذه المباحث (انظر إصحاح 10 من سفر التكوين).
وأُعلن لابراهيم تاريخ ذريته من إسحق ومن إسمعيل. كما أُعلن له الضيق الذي يقع على ذريته أربعمائة سنة في أرض مصر. وأُعلن له أن كل أمم الأرض تتبارك بنسله الخ. وقد رأى ابراهيم ويعقوب وموسى يوم المسيح وفرحوا به. وأعلن لأشعياء وأرميا ليس فقط الضيقات والنجاة التي تلحق شعبهما في الزمن القريب، بل أيضاً سر التجسد والكفارة. ورؤيا دانيال المدهشة كشفت له حجاب الغيب عن سلسلة الوقائع العظيمة، أو بعبارة أخرى، لمحة عن الأحداث الكبرى التي ستتم – مع الضبط والترتيب – من زمانه إلى انقضاء الدهر: سقوط بلشاصر؛ ثم قيام كورش، وفتوحاته، وعظمة ملكه؛ ثم قيام كمبيز وسمروس وداريوس، وما كان عليه زركسيس من الخلق والقوة. وأنبأ ببسالة اسكندر المقدوني، وفتوحاته العجيبة وموته الفجائي وتقسيم مملكته، ثم ملك البطالسة والسلوقيين. وأنبأ بقيام الإمبراطورية الرومانية، ووصف ما تكون عليه من الخصال. ثم أنبأ بخراب أورشليم على يد تيطس، ثم انحطاط هذه الإمبراطورية وانقسامها، ثم قيام البابوية وسيرها واضطهادها الوحشي لقديسي الله. أعلن دانيال كل هذا وأكثر منه في رؤياه لأنه كان رجلاً محبوباً عند الله. وأنبأ غيره عن سوريا ومصر وآرام وهور وصيدا وموآب وفلسطين وقيدار وعيلام وبابل وجوج وماجوج فضلاً عما تنبأوا عنه بالتفصيل عن يهوذا وأفرايم.
إتمام نبوات الأمة اليهودية: تكلمنا سابقاً عن النبوات الرئيسية المتعلقة بهذه الأمة، فراجع كلامنا عن سفر العدد. ولكن لا بأس من زيادة التفصيل هنا عن النبوات التي تمت.
أولاً – الأنباء عن رفضهم المسيح: "محتقر من الناس ... محتقر فلم تعتد به" (أش 53: 1 – 3)، "الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية" (مز 118: 22) "مكروه الأمة" أي الإنسان الذي يكرهه بنو إسرائيل (أش 49: 7).
ثانياً طول رفضهم له: سأل أشعياء النبي: إلى متى يبقى إسرائيل في ظلمة الضلال؟ فأجيبَ له "إلى أن تصير المدن خربة بلا ساكن والبيوت بلا إنسان وتخرب الأرض وتقفر ويبعد الرب الإنسان ويكثر الخراب في وسط الأرض" (أش 6: 9 – 12). ويجيب بولس الرسول على هذا السؤال قائلاً "إلى أن يدخل ملء الأمم" (رو 11: 25). فاليهودي، بذات رفضه، يثبت الدعاوي التي يحتقرها.
ثالثاً – الأنباء عن الأمة الرومانية التي يستخدمها الله لتأديب إسرائيل: "يجلب الرب عليك أمة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر أمة لا تفهم لسانها أمة جافية الوجه" (تث 28: 49 و 50؛ انظر أيضاً أرميا 5: 15). فهذه الأوصاف مستوفاة حرفياً في الأمة الرومانية التي جُلبت من بعيد، من أقصاء الأرض؛ ولغتها لا تشاكل لغة البلاد نظير لغات الأمم المجاروة بل مغايرة لها تماماً. وأغرب من ذلك كانت علامة النسر شعار الرومان المعروف. وهي أمة جافية بالحقيقة لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد لأن الوحشية التي مثلوها باليهود عند خراب أورشليم لم تف بها عبارة البشر.
رابعاً – الأنباء بعودهم إلى مصر محمولين على السفن: "ويردك الرب إلى مصر في سفن" (تث 28: 68). من اليهود الذين نجوا في هذه الواقعة ملأوا سفناً كثيرة من فوق سن السبع عشرة سنة وبعثوا بهم إلى مصر للخدمة في المناجم أسوة بالمسجونين يعملون عملاً متواصلاً ليلاً ونهاراً بلا فترة حتى يقعوا أمواتاً.
خامساً – الأنباء بحصار أسوار مدن إسرائيل: "تحاصرك في جميع أبوابك في كل أرضك التي يعطيك الرب إلهك" (تثنية 28: 52). إن فتوح الرومان لأرض إسرائيل كان بخلاف الحروب المعهودة لأنها كانت حرب محاصرات في الغالب.
سادساً – طريقة الهجوم: "حتى تهبط أسوارك الشامخة الحصينة التي أنت تثق بها" وقد هبطت بالفعل حصونهم المنيعة من أهوال منجيق الرومان.
سابعاً – شدائد الجوع: تأكل ثمرة بطنك لحمَ بنيك وبناتك" (تث 28: 53؛ أر 19: 9). تمت هذه التبوة بحروفها في حصار أورشليم.
ثامناً – الأنباء ببقاء القليل منهم: "فتبقون نفراً قليلاً ... فتستأصلون من الأرض" (تث 28: 62 و 63) "لأن المخرب يأتي علينا بغتة" (أر 6: 27). ذبح في حصار أورشليم مئات الألوف، ما عدا الذين أفناهم الجوع والوباء والحريق. وأضف إلى هذه الأعداد الكبيرة الجماهير الذين سبوهم أحياء.
تاسعاً – تشتيتهم الكلي: "ويبددكَ الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها" (تث 28: 64؛ هو 9: 17). اليهود من تلك الأيام في كل أرض من مشارقها إلى مغاربها ومن الشمال إلى الجنوب.
عاشراً – الأنباء ببقائهم كأمة: "ولكن مع ذلك أيضاً متى كانوا في أرض أعدائهم ما أبيتهم ولا كرهتهم حتى أبيدهم" (لا 26: 44؛ أر 30: 11 و 46: 28). قال بعضهم في وصف اليهود: يذبحون بالألوف لكنهم يجبرون نقصهم كأنهم يسيلون من نبع غير متقطع ظاهرين في كل زمان ومكان. حيروا رجال السياسة بدوام عنصرهم بالرغم عن الشدائد والأهوال، ولقي فيهم رجل الدين موضوع إعجاب ودهشة.
حادي عشر – الأنباء بدوام عزلتهم: "هوذا شعب يسكن وحده. وبين الشعوب لا يُحسب" (عد 23: 9). "والذي يخطر ببالكم لن يكون إذ تقولون نكون كالأمم كقبائل الأراضي فنعبد الخشب والحجر". إن ميلهم الشديد إلى عبادة الأوثان مع الضغط عليهم والاضطهاد لم يكن يقوى على إزالة ما قدره لهم الله من بقائهم على دين آبائهم أمة معزولة أينما ذهبت وأينما حلت ولو تمادى عليها الزمان لأنهم من عهد السبي البابلي إلى اليوم يكابدون أنواع الاضطهاد وصنوف العذاب من كل شعب ولا زالوا باقين على دين آبائهم بمعزل عن كل الأديان والأجناس تحت السماء.
ثاني عشر – الأنباء بعدم قرارهم على حال من القلق: "وفي تلك الأمم تطمئن ولا يكون قرار لقدمك بل يعطيك الرب هناك قلباً مرتجفاً وكلال العينين وذبول النفس. وتكون حياتك معلقة قدامك وترتعب ليلاً ونهاراً ولا تأمن على حياتك" (تث 28: 65 – 67 عاموس 9: 4). فهذه الأنباء تمت فيهم حرفياً في المذابح المروِّعة التي وقعت عليهم من وقت إلى آخر.
ثالث عشر- لا تكون لهم حكومة ولا هيكل: "لأن بني إسرائيل سيقعدون أياماً كثيرة بلا ملك ولا رئيس ولا ذبيحة" (هو 3: 4). وهم اليوم بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة.
والآية التالية تقول "بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى جوده في آخر الأيام" (هو 3: 5). لا يجوز لنا أن نرتاب في كلمة الرب وقد رأينا كيف تمت بالتدقيق في القضاء على بني إسرائيل. فمن باب أولى تتم فيهم نبوة النعمة التي تصرح ببيان شاف وشرح واف. وعلى ذلك قوله تعالى "اسمعوا كلمة الرب أيها الأمم وأخبروا في الجزائر البعيدة وقولوا مبدّدُ إسرائيل يجمعه ويحرسه كراعٍ قطيعه" (أر 31: 10). "لأنه هكذا قال السيد الرب هأنذا أسأل عن غنمي وافتقدها. كما يفتقد الراعي قطيعه يوم يكون في وسط غنمه المشتتة هكذا افتقد غنمي وأخلصها من جيمع الأماكن التي تشتت إليها في يوم الغيم والضباب. وأُخرجها من الشعوب وأجمعها من الأراضي وآتي بها إلى أرضها وأرعاها ... وأقيم عليها راعياً واحداً فيرعاها عبدي داود هو يرعاها وهو يكون لها راعياً" (حز 34: 11 – 13 و 23 انظر أيضاً أرميا 30: 3).
تمام النبوات المختصة بالأم المجاورة.
صور: (حز 26: 7 – 11) يصف النبي العقاب الذي سينـزله ملك بابل بهذه المدينة. ثم يقول: "لا تُبنَينَ بعد". وكان قبل سقوطها قد بادر أهلها وهرَّبوا ثروتهم وذخائرهم الثمينة إلى جزيرة في البحر على مقربة من الساحل ولم يعودوا يهتمون ببنيانها. وحدث بعد ذلك الزمن أن اسكندر المقدوني حمل عليهم وهم في الجزيرة فلم يسلموا له فاضطر إلى يناء جسر يصل بينها وبين الساحل فأمر أن تهدم البقية الباقية من مدينة صور وتردم في المياه لبنيان ذلك الجسر. وتحققت نبوة النبي من إلقاء حجارتها وخشبها وترابها في وسط الماء وعدم إعادة بنيانها.
النبوة عن صيدون: قال الرب على لسان نبيّه: "ها أنذا عليك يا صيدون وسأتمجد في وسطك فيعلمون أني أنا الرب حين أُجري فيها أحكاماً وأتقدس فيها. وأرسل إليها وبأ ودماً إلى أزقتها ويسقط الجرحى في وسطها بالسيف الذي عليها من كل جانب" (حز 28: 20 – 23). لم يقض عليها بالانقراض كما قضي على صور بل قضي عليها بمذابح مريعة. وقد تحققت هذه النبوة في كل من الوقائع الكثيرة التي دهمت من الأرض. ولما حاصرها جيش الفرس أضرم أربعون ألفاً من أهاليها النار في بيوتهم وآثروا أن يموتوا حرقاً بالنار على أن يقعوا أسرى في يد الأعداء. وفي غير هذه الواقعة قامت مذابح كثيرة سالت فيها الدماء في الأزقة والطرقات. فلو كذبت نبوات النبي عن هاتين المدينتين مثلاً لوجد المقاومون حجة على تزييف دعوى النبي بأنه يتكلم على لسان الله.
تحقيق النبوات في شخص المسيح: قد بيّنا في أحد الأبواب الماضية شهادة الأسفار للمسيح. وبسطنا عدداً من النبوات التي تحققت في حياة يسوع وموته وقيامته وصعوده. "إن شهادة يسوع هي روح النبوة"، "في درج الكتاب مكتوب عني". وإنما تشير هذه الكلمات إلى كتاب واحد وإلى شخص واحد. ولنا في نبوات العهد القديم صورة كاملة، مفصلة، عن المسيح؛ ولنا في الأناجيل الأربعة صورة كاملة عن حياة يسوع المسيح. فمن أين لكتبة العهد القديم علم بوقائع يسوع الناصري يشرحونها تارة بالنصوص الصريحة وأخرى بالرموز وقد مضى على آخرهم أربعمائة سنة قبل أن يولد المخلص؟ وكيف اتجهت كتاباتهم نحو هذا القصد الواحد وقد كتبوا ما كتبوه في أزمنة متفاوتة وأمكنة مختلفة وظروف منتوعة؟ فلا يمكن تعليل ذلك إلا بالتسليم الكلي أن يد "الله القدير" كانت عاملة فيهم. وهذا التسليم يقودنا بحكم الضرورة إلى قبول مسيح العهد الجديد حسبما هو معلن فيه وقبول ما عمله وعلم به إلى آخر ما نص عنه الإنجيل المقدس.
إن ملاءمة مفتاح لقفل ما تحملني على الظن أن هذا قد صنع لذاك. فإن بلغ تركيبهما من التعقيد والاشكالات إلى الحد الذي لا يضاهي درجات عقول رجال الصناعة في فتح القفل بغير مفتاحه ولم يكن في العالم كله مفتاح يفتحه سوى مفتاحه نجزم قطعاً بأن صانع الاثنين معلم واحد صنع القفل للمفتاح والمفتاح للقفل. فليست نبوات العهد القديم عن المسيح أقل تعقيداً وتنوعاً من المثل المضروب ولا أقل غرابة منه لدى علماء الدهور وفلاسفة العصور. وليس لها مفتاح سوى تاريخ المسيح كما في أسفار العهد الجديد. فمن يسعه، والحالة هذه، أن يغمض عينيه تلقاء هذا الحق الواضح ولا يصرح بجرأة ويقين أن الله لا سواه علاَّم الغيوب هو الموحي بالعهدين؟
- عدد الزيارات: 6830