الفصل الخامس: سفر نشيد الأنشاد
اعتبر المسيحيون هذا السفر مجازاً منذ الأجيال الأولى. وورد ضمن قانون أسفار العهد القديم في الزمن الذي تمت فيه ترجمة أسفار موسى الخمسة سنة 240 قبل الميلاد ولا يزال من ضمن القانون إلى عصرنا الحاضر. وصبغته الرمزية، أو بعبارة أخرى أسلوبه الغزلي، أسر قلوب الكثيرين.
وضعت السيدة أدلايد نيوتن كتاباً في معاني هذا السفر يهذب النفس ويقربها إلى حضرة رب المجد. وتقول في المقدمة: نـزعة هذا السفر مخالفة على خط مستقيم لنـزعة سفر الجامعة. هذا يصف بطلان العالم وذاك يصف الحبيب الذي يفدي بمهج القلوب. وفي الإنجيل آية جامعة لهذين السفرين وهي قول المسيح للمرأة السامرية: "من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً" (الإشارة هنا إلى التمتع بأباطيل الدنيا المشروحة في سفر الجامعة)، "ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد" والإشارة هنا إلى التمتع بالحبيب المشار إليه في سفر النشيد. فهو من أجل ذلك مملوء من سيرة يسوع – لا يسوع كملك أو نبي أو رئيس كهنة – بل كعريسنا، وقد اختارنا لنفسه شعباً خاصاً وقدسنا عروساً لذاته.
إن هذا سر عظيم ولكنه من أثمن الحقائق لدى الذين يحبون الرب يسوع بضمير صالح. وأشارت إليه أسفار الكتاب جميعاً بأمثلة ونصوص، والمثال الأول آدم وحواء في جنة عدن. وزاد وضوحاً حسب اصطلاح الكتاب الرمزي حتى ظهر أكثر في العهد الذي عقده الله مع شعبه المختار على نحو العهد الذي يعقد بين العريس وعروسه. ومن النصوص الصريحة على تأييد هذه الحقيقة ما قاله الرسول بولس بلسان المجاز لجماعة المؤمنين "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح".
حالة الكنيسة في العصر الحاضر: يتضمن سفر النشيد تعليماً تمس إليه حاجة الكنيسة اليوم. ربما لم يسبق للمسيحيين في عصر من العصور الخالية أن يخصوا شخص المسيح بمباحثهم كعصرنا الحاضر. فإنهم يفيضون الكلام عن طبيعته وأخلاقه وعمله وملكوته إلى غير ذلك. ولكنا نأسف ونقشعر حالما نصغي إلى أقوال هؤلاء الباحثين لأنهم يتكلمون بدون اختبار حقيقي أو باختبار قليل لا يشفي غليلاً. أما إذا تكلم عن المسيح رجل ليس من أهل العلم ولكنه محب مخلص له وعارف به على طريق الاختبار فلا يسعنا أن نسمعه دون أن يتملكنا تأثر عميق يسري من قلبه إلى قلوبنا فنجزم على الفور "أن هذا الرجل العامي من جلساء الملك العظيم"!
لقد أمسينا في عصر لا يدرك جرم الخطية وفظاعتها، ولا يندم إذا ارتكبها. فلا عجب إذاً إن رأينا محبة القوم للمخلص آخذة في الجمود لأن "الذي يغفر له قليل يحب قليلاً". إن سمعان الفريسي دعا مخلصنا إلى ضيافته إجلالاً لمقامه، ولكنه قصَّر في واجبات الضيافة والترحيب. إلا أن امرأة بائسة دنت – وقد بتكَّتت وندمت وبكت على خطاياها – من يسوع وأراقت بسخاء محبة قلبها على قدمي يسوع. فقال لها: "إيمانك قد خلصك اذهبي بسلام".
الفداء: تظهر حقيقة الفداء في هذا السفر مكنى عنها بالجمال ولكنه ليس جمال العروس بل جمال العريس معكوساً عليها ببهائه الساطع. فقالت "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان" أي سوداء كخيام عرب البادية المصنوعة من شعر الماعز، وجميلة كأستار الهيكل. فمن أين أتاها هذا الجمال وهي سوداء؟ فأجيب: ألقاه عليها عريسها. وعلى ذلك قوله تعالى مخاطباً شعبه المختار: "خرج لك اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليك". برنا الذاتي هو في الحقيقة كخرقة بالية لا تزين ولا تستر، ولكنا لبسنا رداء بره الكامل.
يقول الحبيب خطاباً لعروسه "يا حمامتي في محاجئ الصخر" أي مستترة في معقل "صخر الدهور". "مع المسيح صلبت" فمت عن العالم. فأكد لها مكرراً "أنت جميلة" ما أنت جميلة يا حبيبتي "لا دنس فيك". "أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أن شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب" (أف 5: 25 – 27).
الحبيب: "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بيت البنين. تحت ظله اشتهيتُ أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي" (2: 3) وزكاوة الطعم وجمال اللون. هذه كناية عن محاسن المخلص العظيمة "نرجس شارون سوسنة الأودية".النرجس زهر ناصع البياض من أطيب الزهور وأثمنها، وسوسنة الأودية هي زهرة شقائق النعمان القرمزية البرية. الزهرة الأولى تمثل صحيفة المخلص النقية البيضاء، والثانية تمثل دمه المسفوك لأجلنا، دم كريم كما من حمل بلا عيب كما في ص 5: 10 "حبيبي أبيض وأحمر". بهذا الوصف، مع ما يليه، أجابت العروس بنات أورشليم على سؤالهن لها "ما حبيبك من حبيب" "معلم بين ربوة ... وكله مشتهيات هذا حبيبي وهذا خليلي".
إذا أمعنا النظر في هذا السفر نجد محبة العروس تزداد لعريسها كلما ازدادت من معاشرته. وجاء في القصة أنها انقطعت مرتين عن معاشرته إلى حين، وأدى بها هذا الهجران إلى الجد في طلبه بأوفر غيرة من قبل. وسبب فتور العلاقة بين الحبيبين إما ارتداد المؤمن عن المسيح أو تخلي المسيح عن المؤمن موقتاً ليقوده إلى عشرة أفضل، ولا يدعه يكابد أكثر من طاقته حتى تعاوده التعزية والبهجة.
"حبيبي لي وأنا له" (2: 16). الفكر الرئيسي هنا امتلاكها للمسيح. هو لي لأنه بذل نفسه من أجلي. والفكر الثانوي "أنا له" لأني مقتنى بدمه "أنا لحبيبي وحبيبي لي": الأولوية هنا امتلاك المسيح لها "أنا لحبيبي وإليّ اشتياقه" (7: 1) ومع ملكيته يتلاشى كل فكر آخر
هذه الثلاث آيات تشرح فكر الرسول المشار إليه في إصحاح 1 من رسالته إلى أفسس: المسيح ميراث القديسين والقديسون ميراث المسيح "الذي فيه نلنا نصيباً" (عد 11) "غنى مجد ميراثه في القديسين" (ع 18).
نتائج المحبة للمسيح: لا مجال للريب في سمو الحالة التي تكون عليها الكنيسة إن أحبت المسيح محبة شخصية خالصة.
1- حفظ وصاياه: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي" (يو 14: 15). إن كانت فيكم المحبة الحقيقية لشخص المسيح تسعون جهدكم في عدم تكدير خاطره وأن تكونوا متصفين فعلاً بما يعتبركم به حسباناً "بلا دنس" "بلا عيب" صالحين بالكلية.
2- رعاية غنمه: قال ثلاث مرات لبطرس "هل تحبني؟ ... ارع غنمي ... ارع خرافي". يظهر من هذا السفر الرغبة في جلب البركة إلى الآخرين وذلك من اهتمام العروس برعاية القطيع كما في اصحاح 1، ومن عنايتها بغرس الجنات والفراديس (ص 4 و 6) وحرصها على الكرم (ص 7 و 8).
3- الثمرة لأجل مجده: قال المسيح "بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير". نرى في سفر النشيد تحقيق هذه الآمال بدليل قوله "أختي العروس جنة مغلقة عين مقفلة ينبوع مختوم" (4: 12). هذا تشبيه جميل يمثل ميراث المسيح في القديسين: جنة يخيم عليها السلام والسكينة، مملوءة من كل خير وثمر، محبوسة على ذمته "استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب. هبّي على جنتي فتقطر أطيابها. ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (4: 16). فيجيب العريس قائلاً: "قد دخلت جنتي يا أختي العروس. قطفت مري مع طيبي. أكلتُ شهدي مع عسلي. شربتُ خمري مع لبني" (5: 1). ثم يدعو الآخرين أن يشاطروه في الفرح قائلاً: "كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحباء". إرادة السيد أن تعم بركات كنيسته الشعوب الآخرين. "العين المقفلة" التي في وسط الجنة هي محفوظة تحت طلبه أولاً، حيث يقول "أعطيني لأشرب"، وبعد ذلك يريد أن تفيض لسقي الآخرين "ينبوع جنات بئر مياه حية وسيول من لبنان" (4: 15). فيا للموافقة الغريبة بين هذا الوصف وبين الماء الحي المشار إليه في إنجيل يوحنا! إنه يشتهه في ثلاث خصال: أولاً "من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد". لا يروي عطش النفس سوى ذلك الذي هو الينبوع. ثانياً "الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية". هنا الإعالة الدائمة في نفس المؤمن. "من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي" "سيول من لبنان" تفيض من المؤمن إلى العالم الظمآن.
مشرقة ومرهبة: الكنيسة المفرزة حقاً عن العالم لربها تمثل سطوته للعالم الأثيم. "من هي المشرقة مثل الصباح جميلة كالقمر طاهرة كالشمس مرهبة كجيش بألوية"؟ هذا وصف حسن للكنيسة القائمة بواجباتها. فهي منارة عظيمة تنير دياجير الظلام في ليل غياب سيدها. "مرهبة كجيش بألوية" كنيسة غالبة منصورة تحطم حصون العدو، لا بسيف ولا بنار، بل بقوة رب الجنود. "أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون". ولكن بالأسف أن كنيسة هذا الزمان لن تقم بالواجب الذي عليها لسيدها وفاديها، بل شوشت عليها محبة العالم فانحجب ضوءها إلا قليلاً. انكسفت تلك الشمس المشرقة فلم ترسل إلى العالم المظلم إلا نوراً ضئيلاً. وعوضاً عن أن تأخذ مقام المهاجم الذي يهدم حصون الأعداء لم تحفظ مركزها الذي حصلت عليه بأتعاب السالفين وغدت حصونها عرضة للأخطار.
"المحبة قوية كالموت. الغيرة قاسية كالهاوية. لهيبها لهيبُ نارِ لظى الرب" (8: 6). بهذه الغيرة النارية يلتهب قلب المسيح شوقاً إلى كنيسته وبها يقدمها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها.
مراقبة ظهوره: الكنيسة التي لم يسلها عن سيدها التسليات العالمية لا شك أنها تنتظر قدومه بفروغ صبر. بهذا الرجاء ينطوي سفر النشيد "اهرب يا حبيبي وكن كالظبي أو كغفر الأيائل على جبال الأطياب" (8: 4). وبهذا الرجاء عينه ختم الكتاب المقدس "الروح والعروس يقولان تعال ... يقول الشاهد بهذا نعم. أنا آتي سريعاً. آمين. تعال أيها الرب يسوع".
- عدد الزيارات: 3702