الفصل الرابع: سفر الجامعة
هذا السفر شرح مطول على آية واحدة من كلام المسيح "من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً".
عبارة "تحت الشمس" وردت في هذا السفر لا أقل من ثمان وعشرين مرة، بينما لم ترد مرة واحدة في بقية أسفار الكتاب المقدس. من أجل ذلك يناسب أن نتخذها فكرة أساسية لهذا السفر. أما عبارة "تحت السماء" فذكرت ثلاث مرات، و "على الأرض" سبع مرات، وكلمة "باطل" سبعاً وثلاثين مرة. وعلى الإجمال يردد الروح القدس ذكرى الأرض وما عليها من الأباطيل نحو أربعين مرة، ولم يتعدها إلى ذكر ما فوق الشمس إلا قليلاً عند الختام.
من يتأمل في الحياة الدنيا ولم يكن مؤمناً بالله يراها عناءً باطلاً ويرى الوجود معضلة لا تقبل الحل. وعليه فغاية السفر عرض متاع الدنيا ولذاتها على الذوق الروحي لإقامة الدليل على بطلانها وعجزها الكلي عن ترضية مطامع النفس وإشباع أشواقها الباطنية. ويمكن عرض المسألة بالشكل التالي: هل الدنيا، بمعزل عن الله، تكفي النفس؟ والجواب عليها يكون: "الكل باطل".
ما المنفعة: ليس أحد أهلاً لعرض هذه المسألة على بساط البحث مثل سليمان لأنه كان حاصلاً على منـزلة عالية تؤهله لإبداء الرأي السديد. كان يمتلك ما في إمكان الدنيا أن تنيله لطالب، ليس من الأمتعة المادية فقط بل من المواهب العقلية. سليمان – ومعناه رجل السلام – قدرت له العناية الإلهية. أن يبلغ من عظمة الملك والجاه ما وراء العقل. فإننا نقرأ عنه في صدر سفر الملوك الأول أنه كان ذا أملاك واسعة، وأراضي خصبة. واستتت في عصره الأمن والسلام في داخلية البلاد وخارجيتها؛ وتدفقت إلى خزائنه الثروة والخيرات كالسيل الجارف من زراعة وتجارة واستكشاف وهدايا. وأما عن مقدرته العقلية فحدث ولا حرج. عقل رفيع، وذكاء مفرط، وقريحة وقادة تكاد تنبئ بالغيب. وكذا كانت سجاياه الأدبية من الطبقة العالية: قلب رحيب، متعطف على بني الإنسان، راغب في العلم وتصنيف الأسفار في الحكم والأمثال ونظم الأنشاد. والحاصل أنه أدهش رصفاءه من أهل زمانه حتى أقروا له بالتفوق عليهم في كل شيء. ومن يقرأ الإصحاحات 4 و 5 و 10 من سفر الملوك الأول، والإصحاح 2 من سفر الجامعة يعلم قوة الرجل في التعبير عن أفكاره. كانت له الثروة والشباب والقوة أعواناً وأنصاراً من بداءة ارتقائه على عرش الملك، فاشتغل في بناء الهيكل مدة سنوات. وإن الهيكل لجدير بعناية ملك حكيم كسليمان لأنه هيكل الله.
كان ذا أملاك واسعة، وكان له ما تتوق إليه نفسه من مشتهيات الحياة. وكان من الجانب الآخر غزير العلم حاد الذكاء. فهو بالتالي أجدر بأن "يزن" لذات العالم بإزاء عناء الحياة ويأتي بفصل الخطاب. هنا تنجلي لنا الفلسفة والعلم في مظهريهما الحقيقيين. ظفر سليمان بأم المسائل ودوَّنها بأسلوب شائق، ولكنه لم يحلها. شخّص الداء فأصاب كبد الحقيقة ولكنه لم يصف الدواء. أتانا بسفر الجامعة أحصى فيه لذات الدنيا وصفاءها إلى الحد الذي ليس بعده مزيد، وحكم عليها بغاية الصراحة والجزم أنها باطلة وليس فيها حظ ولا سرور.
وفي العددين الأخيرين من السفر نجد الحل للسؤال المتقدم والدواء الشافي: "فلنسمع ختام الأمر كله. اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله. لأن الله يُحضِر كل عمل إلى الدينونة على كل خفي إن كان خيراً أو شراً". هذا سر الوجود وسلم النجاة. فمن أحب الله وأطاعه وتوكل عليه تخترق بصيرته الروحية حجاب السموات وتتجلى له مشاهد السعادة الحقيقية التي ينشدها الجهال تحت الشمس على غير طائل.
مركز جديد: نجد في الإصحاح 2 مقابلة مع الإصحاح 7 من رسالة رومية تستلفت الأنظار فإن كلا الإصحاحين ممتلئان من ضمير المتكلم، أي الأنانية، وينتهيان إلى خيبة وكارثة شقاء, ففي ص 2 من سفر الجامعة يقول سليمان: "قلتُ أنا في قلبي هلّم أمتحنك بالفرح ... قلتُ. افتكرتُ. عظَّمتُ عملي. بنيتُ. غرستُ. قنيتُ. جمعتُ. فنظّمتُ. ثم التفتُّ أنا فإذا الكل باطل وقبض الريح". أعاد ضمير المتكلم ستاً وثلاثين مرة. وكذا في ص 7 من رسالة رومية يعاد هذا الضمير ثلاثين مرة. للتعبير عما تكون عليه حالة الرسول بولس على افتراض اعتزاله عن المسيح واعتماده على ذاته حيث يصرح بأنها ستكون حالة تعيسة للغاية. ولكنه حالما سها عن نفسه وحصر آماله في المسيح كما ترى في الإصحاح التالي وصل إلى نتيجة في منتهى السعادة "لا دينونة" "انتصار فائق" "لا انفصال عن المسيح".
حين نجعل ذاتنا محور حياتنا وننظر إلى كل شيء بنسبته إلى ذاتنا فحينئذ تمسي الحياة فشلاً في فشل. وحين يصبح المسيح محور حياتنا ومحور كل شيء فحينئذ نجد راحة وطمأنينية.
الثياب البيض: في سفر الجامعة آية ترفعنا إلى ذات الجو الذي كان فيه يوحنا الرسول في رسالته الأولى "لتكن ثيابك في كل حين بيضاء ولا يعوز رأسك الدهن" (9: 8). يتبين منها أن الكاتب لا يشير إلى الأشياء المادية لأنه لا ضرورة لارتداء الملابس البيضاء كل حين بل يشير إلى حياة الطهارة والنقاوة. ولكن كيف يمكننا أن نحفظ ذواتنا من دنس الجسد والروح ونحن في عالم الإثم؟ وكيف يتأتى لنا أن نكون أمام الله وفي كل حين رائحة المسيح الذكية؟ "دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية". ما دمنا نسلك في النور كما هو في النور ونبقى تحت قوة الدم المسفوك نكون بمأمن من الدنس "وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس ... المسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم". فطالما نثبت في مسحة الروح القدس – المعزي – يثبت معنا إلى الأبد.
المدينة الصغيرة: يتضمن هذا السفر مثلاً جميلاً يحجب في طياته حقيقة رائعة تهم الذين يؤمنون أن كل أجزاء الكتاب المقدس تدور حول محور واحد (جا 9: 14 و 15).
"مدينة صغيرة فيها أناس قليلون". هذه كناية عن الأرض التي سلمها الخالق إلى بني الإنسان. وهذه الأرض، بالنسبة إلى الكون بأجمعه، هي كنقطة في بحر؛ ومع ذلك فإن الله يهتم ببني الإنسان.
"فجاء عليها ملك عظيم وحاصرها وبنى عليها أبراجاً عظيمة". قال المسيح "رئيس هذا العالم يأتي". وقال الرسول "إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح". والحاصل أنه استولى على مدينة نفس الإنسان.
"ووُجد فيها رجل مسكين حكيم فنجّى هو المدينة بحكمته" "فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره"، "أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. وإذا وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب"، "إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلّصين فهي قوة الله".
"وما أحد ذكر ذلك الرجل المسكين". "أما شعبي فقد نسيني أياماً بلا عدد" "قد نسي تطهير خطاياه". "فأجاب يسوع وقال أليس العشرة قد طهروا. فأين التسعة. ألم يوجد من يرجع ليعطي مجداً لله غير هذا الغريب الجنس". يا معاشر المفديين لا تنسوا كل حسناته.
يكون كلاهما جيدين سواء: يشتمل الإصحاح 11 على أقوال مشجعة لخادم المسيح: "ارم خبزك على وجه المياه فإنك تجده بعد أيام كثيرة". الخبز معناه – حسب سياق الكلام – الحنطة. تزرع بعض الحبوب ببذرها على وجه المياه، كالأرز؛ فلما تجف المياه ينبت الحب ويأتي بالأثمار المطلوبة. قال المسيح في مثل الزارع أن الحب أو البذر هو كلمة الله. وفسر "الطريق" "والأماكن المحجرة" والأرض ذات "الشوك" "والأرض الجيدة" بقلوب البشر. ومن هذا المثل نعلم أن قلب الإنسان لا يشتمل، من ذاته، على بذور الملكوت، ولكن تطرح فيه من الخارج بيد الزارع. إن زرع البذار الجيد هو أبداً عمل إيمان. "لأنك لا تعلم أيهما ينمو هذا أو ذاك أو أن يكون كلاهما جيدين سواء". فإن كان الأمر كما ذكر فلا نكف عن إلقاء البذار صبحاً ومساء، ولا نرصد الريح ولا نراقب السحب ويقول بولس الرسول لتيموثاوس "اكرز بالكلمة اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبخ انتهر عظ بكل أناة وتعليم".
الذين يبكرون إليّ يجدونني: يتناهى هذا السفر بنداء موجه إلى الشباب: "افرح أيها الشاب في حداثتك وليسرك قلبك في أيام شبابك واسلك في طرق قلبك وبمرأى عينيك واعلم أنه على هذه الأموركلها يأتي بك الله إلى الدينونة". بكل تأكيد لا يقصد الكاتب بقوله "اسلك في طرق قلبك" أن يحرض الشاب على السير بحسب هوى قلبه بلا مراعاة لمخافة الله، بدليل كونه يحذره من انتهاج هذا المورد في العبارات التالية "فانـزع الغم من قلبك وابعد الشر عن لحمك لأن الحداثة والشباب باطلان. فاذكر خالقك في أيام شبابك قبل أن تأتي أيام الشر أو تجيء السنون إذ تقول ليس لي فيها سرور".
فترى مما تقدّم أن الغاية من سفر الجامعة أن يكون بمنـزلة "عَلَم الخطر" الذي نصب في مقدمة سبيل الحياة ليحذر المارة من موارد العطب ويكفيهم مؤونة اختبار الخطر بأنفسهم حيث يخشى على سلامتهم.
قيل إن أكثر الذين كرسوا حياتهم لخدمة الرب قد اختاروا طريق الرب منذ حداثة سنهم؛ والذين اهتدوا بعد فوات الشباب قليلون! فما أهم التبكير إلى الله! قال يسوع "دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم".
- عدد الزيارات: 4964