الفصل الثاني: سفر المزامير
لا شك أن سفر المزامير – أو كما دعي في اللغة العبرانية سفر التسبيح – قد وجد موكب الأجيال تجاوباً له منـزلة عالية في قلوب البشر أكثر من أي سفر آخر من أسفار الكتاب المقدس. له صلة خصوصية بأعماق القلب وحياة التكريس للرب، وفيه بيان وافٍ لطوارئ النفس وأحوالها المتباينة، من ريب وخوف وفرح وحزن وألم وشوق إلى غير ذلك مما يعرض لها على تمادي الأوقات.
ورغماً عما في سفر المزامير من نغمة حزن فهو كتاب حمد وتسبيح. وإن كان ثمة مزامير تستهل بنغمة اليأس فهي نفسها – ما عدا المزمور 88 – تختتم بنغمة الثقة وذلك لأن المرنم يحول نظره عن ظروفه الحرجة إلى الله القادر على كل شيء. والفكرة الرئيسية في هذا السفر هي "التعبد لله". استعمل، ويستعمل لهذه الغاية بين اليهود والمسيحيين إلى يومنا هذا. ومع أن كثيراً من تسابيحه صنفت لخدمة الهيكل لكنه أصبح مستعملاً للعبادة في كل مكان. سبح به داود في الخلاء حيث تظلله السماء المرصعة بالنجوم كما في المغائر والحصون.
المزامير سفر الطبيعة. فيه تسبح أفكارنا في دائرة الكون المتسعة وتذهل أبصارنا من أعمال الخلاق العظيم. سفرٌ يلائم الإنسان في كل أطوار الحياة وصروف الزمان؛ يلائم الإنسان الرازح تحت أثقال الضيقات، والمسجون، والملاح، والمطرود في منفاه، والمضطهد، والعليل، والمتألم، والبائس المحتاج. يشرح الواجبات المتبادلة بين الناس: من ملك ووزير ورئيس ومرؤوس وراع ورعية وسائر الإخوان. يدل الخاطئ على رحمة الله الواسعة ويرشد التقي إلى حياة أكثر تقوى وقربى من الله؛ ويبسط المقال في مدح شريعة الله، ويطوب السالكين بالكمال.
"إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده" (مز 8: 3 و 4). نرى في هذه العبارة غرابة الأجرام السماوية حسب الاكتشافات الحديثة. فحينما ننظر إلى مكان البشر بإزاء كواكب السماء يأخذنا العجب والذهول من اهتمام هذه العوالم الهائلة بخلاص سكان نقطة صغيرة من الخليقة. هذا ما حمل بعضهم على الكفر والإلحاد. أما المرنم فقد علم بعظم الأجرام السماوية الكثيرة من قبل الاكتشافات العلمية بقرون. ومع دهشته العظيمة فإنه لا يزداد إلا رسوخاً في الإيمان بفداء إله المحبة.
جاء في سفر الجامعة (ص 1: 7) قوله "كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة". نرى في هذه العبارة وصفاً دقيقاً لعملية الطبيعة في ارتشاف المياه من البحار وتكثيفها إلى غيوم في الجو ثم تقطيرها إلى أمطار لحفظ التوازن بين البر والبحر. ويشبه هذا الوصف ما جاء في مز 104: 8 و 9 حيث نقرأ عن صعود المياه على سطوح الجبال وانحدارها إلى الوديان. وتزداد هذه الحقائق العلمية بياناً في مز 135: 7 "المصعد السحاب من أقاصي الأرض. الصانع بروقاً للمطر. المخرج الريح من خزائنه". يتصاعد البخار من مياه المحيط بحجم هائل لا تقدر آلة بشرية أن تصعده، ومتى بلغ الجو يدركه الريح البارد فيكثفه ويصيره سحباً. ولو تركت السحب حيث هي مخيمة في أفق البحر لكانت عندما تمطر تعود المياه مباشرة إلى البحر الذي صعدت منه، غير أن بقية الآية تشرح لنا كيفية تسيير السحب فوق البحر وذلك بواسطة الريح حيث يقول "المخرج الريح من خزائنه" فالسحب تحمل على أجنحة الرياح إلى قمم الجبال. ورُب قائل: كيف تتحول السحب إلى أمطار؟ فنجيب بهذه الآية عينها حيث نقول "الصانع بروقاً للمطر": اصطدام الريح الكهربائي يحول السحب إلى ماء. فترى المرنم هنا يكشف الحجاب عن الحقائق العلمية بإلهام من الله.
كتبة هذا السفر: أولهم داود إمام المغنين الذي ربت خدمة الترنيم في المقدس. وقد كتب ثلاثة وسبعين مزموراً. ويوجد خمسون مزموراً لا يعرف لها كاتب يحتمل أن يكون داود قد كتب بعضها. وكتب موسى المزمور التسعين ويظهر من خلال عباراته سجاياه وبعض أحواله الخصوصية. وكتب سليمان مزمور 72: 127. يظن أن بعضها كتب مدة السبي وعند العودة منه. والمعتقد عامة أن داود رتب المزامير التي وجدت في عصره، وعزرا الكاتب جمع السفر كله ورتبه على ما هو عليه اليوم.
تقسم المزامير إلى خمسة أقسام ينتهي كل قسم منها بالبركة، وينتهي القسم الأخير بمزامير السبح الخمسة. فهي مرتبة ترتيباً حسناً في مجموعها وفضلاً عن ذلك لكل مزمور نظام خاص.
عدة مزامير كتبت على نظام الحروف الهجائية في اللغة العبرانية (مثل مزمور 9 و 10 و 25 و 34 و37 و 111 و 112 و 119 و 145). فإذا تأملت في مزمور 119 مثلاً تجده مقسماً على عدد الحروف الهجائية العبرية إلى اثنين وعشرين قسماً وكل آية من آيات القسم الواحد تبتدئ بالحرف الذي يقابله.
وثمة خمسة عشر مزموراً (120 – 134) هي مزامير المصاعد. ولعلها سميت بهذا الاسم لأنه رتل بها الزوار اليهود حينما صعدوا إلى هيكل أورشليم احتفالاً بأعيادهم.
ما هو مكتوب عني في .... المزامير: لا يمكننا أن نستقصي مادة هذا السفر. كتب اسبرجن الواعظ الطائر الصيت سبعة مجلدات كبيرة عن سفر المزامير سماها "خزانة داود". أما نحن فنقتصر في هذا المجال على انتقاء ما في المزامير من إشارة إلى المسيح.
نرى المسيح يذكر كثيراً باسم "الراعي الصالح" (راجع مزمور 23 و 77: 20 و 78: 70 – 72 و 180: 1 و 95: 7 و 100: 3 و 119: 176).
ويذكر أيضاً باسم "صخر الدهور" (كما في مزمور 27: 5 و 40: 2 و 28: 1 و 31: 2 – 3 و 71: 3 و 42: 9 و 61: 2 و 62: 2 و 6 و 7 و 78: 20 و 89: 26 و 94: 22 و 95: 1).
ويذكر ممثلاً بالنور (مزمور 27: 1 و 118: 27 و 43: 3).
ويذكر ممثلاً بالفادي أو الولي (كما في مزمور 19: 14 و 69: 18 و 82: 14 و 77: 15 و 78: 35 و 103: 4 و 106: 10 و 107: 2 و 119: 154).
ويشار إلى المسيح في بعض المزامير تحت الغفران بالنعمة وهذا ما حمل لوثر أن يكني هذه المزامير بالبولسية نسبة إلى بولس الذي كان من أهم تعليمه التبرير بالنعمة.
بعض المزامير تشرح بنوع خاص التوبة والندامة على الخطية (مثل مزمور 6 و 32 و 38 و 51 و 102 و 130 و 143). فهذه المزامير تشخص الحزن المفرط عن الخطية والتذلل العميق الذي خالج قلب المرنم حينما فاه بها. ألسنا نرى في ذلك المرنم المتفاني في تذللـه واعترافه بالخطية صورة المسيح الذي وإن كان لم يخطئ قط غير أنه أخذ مقامنا الأثيم فتذلل لخطايانا كأنها خطاياه.
نعلم من هذا السفر عن إحساسات المسيح الداخلية وآلامه أكثر من أي سفر آخر. والمسيح يقتبس منه كثيراً ويطبقه على ذات نفسه؛ ولعله قصد بذلك أن يستلفت أنظارنا إلى اعتبار سفر المزامير بمنـزلة سفر مسيا الخاص. ومن الحقائق الراهنة أن سفر المزامير، بوجه الإجمال، حافل بالإشارات إلى المسيح. وأجمع علماء اليهود على الاستشهاد بهذه المزامير المشيرة إلى المسيا كاستشهاد المسيحيين بها. فلا عجب إذا رأيت اقتباسات العهد الجديد من هذا السفر في ما يتعلق بالمسيح قد بلغت إلى نصف مجموع اقتباساته من أسفار العهد القديم كلها.
الملك: في كثير من المزامير يتجلى لنا المسيح بوظيفته الملوكية كالملك الممسوح من الله (كما في مزمور 2 و 20 و 21 و 24 و 45 و 72 و 110).
ففي المزمور الثاني نجد ثلاثة ألقاب من ألقاب مخلصنا الرئيسية. فدعي في عدد 2 "مسيح"؛ وفي عدد 6 "ملك صهيون" وفي عدد 6 و 7 "ابن الله". ثم نستدل من عدد 8 و 9 أنه مالك كل الأرض وربها. ونعلم من عدد 12 أن السلامة ومرضاة الله تتحققان بالخضوع الصادق لذلك المسيا الذي يظهر في بداءة هذا السفر ليس كالمسيح في حالة إتضاعه وآلامه بل في حالة مجده وجلاله مالكاً على كل العالم. وفي العدد الأول والثاني نبوة عن معركة هائلة ستقع بينه وبين "ملوك الأرض" "والرؤساء" "والشعوب". وقد تمت هذه النبوة جزئياً أي في دائرة ضيقة من الأرض وذلك حينما قام هيرودس الملك وبيلاطس الوالي وشعب اليهود واتحدوا جميعهم على المسيح وصلبوه. وظهر في بادئ الأمر أن الفوز بات في جانبهم، إلا أن المسيح في اليوم الثالث قام غالباً قوة الموت الهائلة. على أن للنبوة المذكورة إتماماً أعم وأوفى في آخر الزمان حينما يقاوَم المسيح مقاومة أعظم ويحارَب حرباً حامية فينتصر انتصاراً باهراً وتصبح ممالك الأرض خاضعة لسلطانه من مشارقها إلى مغاربها.
وفي عدد 6 يقول: أما أنا (أي ملك السماء) فقد مسحت ملكي (أي ابني نائبي على العرش) على صهيون جبل قدسي. وفي هذا تلميح سابق للحقيقة المشهورة الواردة في مزمور 110 من حيث أنه سيكون ملكاً وكاهناً.
عدد 7 يقول "أنت ابني أنا اليوم ولدتك". إن الرسول بولس يعلمنا أن إتمام هذه النبوة قد حصل بقيامة المسيح من بين الأموات، فإنه بهذه القوة الفائقة التي قام بها من بين الأموات يبرهن أنه ابن الله (أعمال 13: 33 ورومية 1: 4).
عدد 8 "اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الأرض ملكاً لك". لا شك أن هذه النبوة تثير في جماعة المرسلين روح الأمل والنشاط إذ يتحققون أن الوثنيين في أقاصي الأرض ميراث للمسيح فيقبلون بفرح ونشاط أوامره الوداعية بالكرازة بالإنجيل بينهم.
عدد 12 "قبِّلوا الابن لئلا يغضب" أي أطيعوا الابن واحترموه لئلا يغضب الرب. قال المسيح "لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله" (يوحنا 5: 22 و 23).
مزمور 45 يخبر عن عرس الملك، فهو تتمة سفر نشيد الأنشاد ومثال لعشاء عرس الحمل. إن المسيح يدعو نفسه العريس ولهذا يدافع عن عدم صيام تلاميذه وهو معهم. قال بعضهم إن كلمة "العريس" خلاصة الكتاب المقدس. هذا المزمور قد يشير إلى عرس سليمان الملك. غير أن الجلال الموصوف فيه لا ينطبق تماماً إلا على شخص المسيح حيث يصرح فيه أن ملكوته دائم إلى الأبد. وعدا ذلك يرفعه فوق رتبة البشر بقوله "أنت أبرع جمالاً من بني البشر" وقوله "انسكبت النعمة على شفتيك".
العروس "كلها مجد ابنة الملك في خدرها. منسوجة بذهب ملابسها. بملابس مطرزة تحضر إلى الملك"؛ "لنفرح ونتهلل ونعطه المجد لأن عرس الخروف قد جاء وامرأته هيأت نفسها وأعطيت أن تلبس بزاً نقياً بهياً لأن البز هو تبررات القديسين". ويكون منـزل العروس "قصر الملك"، "في بيت أبي منازل كثيرة".
مزمور 72: هو أحد المزمورين المنسوبين إلى سليمان يعظم فيه تتويج الملك "يزداد الملك سليمان جمالاً وعظمة أكثر من بني البشر" لأنه تغير إلى شكل ممجد في ضياء الوعد الذي وعد به لداود: كرجل رقي ربوة وقت الغروب فخلعت عليه الشمس رداء ذهبياً من أشعتها الساطعة ومدت على الأرض ظله أكثر من الطول المعهود. فهذا التصور البالغ منتهى المجد والجلال الذي ينعكس سناه على سليمان الملك لا يصدق إلا على المسيح. فهو – دون سواه – رئيس الحياة وملك المجد، يمتد سلطانه من البحر إلى البحر ولا يكون لملكه نهاية وبه تتبارك كل الشعوب: "حفنة بر في الأرض في رؤوس الجبال تتمايل" هي زمرة التلاميذ العاميين المضطهدين قد غرسوا في أرض غير صالحة للزراعة بين اليهود المفسدين، وبقوة خارقة لناموس الطبيعة أثمرت وترعرعت وعظمت فصارت كأرز لبنان وسيملأ الحصاد كل الأرض يوماً ما.
تجري في المزامير النبوة على خطين متوازين: النبوة عن المسيح كملك أرضي، والنبوة عن مجيء الرب ملك إسرائيل الحقيقي ومجده وفدائه. ولكن في نور العهد الجديد تجتمع النبوتان في شخص واحد حيث نرى أن المسيح ابن داود وربه. قال أحد العلماء في شرح هذه الحقيقة: طلع في ليل العهد القديم نجمان متعارضان من الوعد، أحدهما يسير من فوق إلى أسفل وهو الوعد بمجيء السيد الرب، والثاني يسير من أسفل إلى فوق وهو الرجاء الذي يترتب على نبوة ابن داود وقد جرى شوطاً في بادئ الأمر بملء التواضع. وهذان النجمان يلتقيان أخيراً ويتحدان نجماً واحداً ومن ثم يتلاشى الليل ويضيء نور النهار. وهذا النجم الواحد هو يسوع المسيح ابن داود وربه في أقنوم واحد، الملك الحقيقي وفي الوقت نفسه فادي العالم، وبعبارة مفردة هو الإله المتأنس له المجد والبركة.
ابن داود وربه: في مزمور 110 يشغل المسيح وظيفتي ملك وكاهن على رتبة ملكي صادق. ويجمع علماء اليهود على أن هذا المزمور يشير إلى المسيح. ويستدل من الرسالة إلى العبرانيين، التي يقتبس كاتبها المزمور المذكور ويسنده إلى المسيح بدون أن يشفع كلامه ببرهان ولا بيان، إن هذه القضية مسلم بها. ثم إن مخلصنا نفسه ينسب هذه الحقيقة إلى ذات شخصه، ويقدمها لنا كحجة قاطعة لإثبات لاهوته: "كيف يقول الكتبة أن المسيح ابن داود لأن داود نفسه قال بالروح القدس قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك فداود نفسه يدعوه رباً فمن أين هو ابنه" (مزمور 12: 35 إلى 37 مع متى 22: 41 – 46).
قال يسوع صراحة إن داود دعاه رباً بالروح القدس. ومن الغرابة بمكان أن يكلفنا بعضهم أن نؤمن بأن المسيح لم يصب كبد الحقيقة في هذا المسألة، وأن المزامير كتبت بعد عصر داود بمئات السنين. فتأمل ولاحظ أن المسيح حوالي الوقت الذي اقتبس فيه هذا المزمور أي قبل عيد الفصح قال مشيراً إلى كلامه "لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني ماذا أقول وبماذا أتكلم". إن كلام داود وكلام ابن داود من مصدر واحد وهو الله. ويضيف البشير مرقس معلقاً على كلام المسيح فيقول "وكان الجمع الكثير يسمعه بسرور". يا له من توبيخ صارم يصوبه البشير بهذه العبارة إلى من يزعمون أن العامة لا يقدرون أن يميزوا بين الغث والسمين من حقائق الكتاب وأن لا بد لهم من التعويل على أهل العلم والدراية. أما متى البشير فيشرح لنا نتيجة سؤال المسيح أوفى شرح حيث يقول "فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتة".
وقُبيلَ ذلك تاماً، جاء أعلم علماء اليهود في ذلك العصر إلى يسوع، وتعاونوا عليه لعلهم يصطادونه بكلمة. وتقدموا إليه حسب طوائفهم فرقة فرقة. فجاء إليه أولاً طائفة الفريسيين والهيرودسيين فلما أجابهم حسناً تعجبوا منه ومضوا لحالهم. ثم جاء إليه طائفة الصدوقيين فأسكتهم بجواب مقنع. ولما علم الفريسييون أنه حج الصدوقيين تحمسوا فأعادوا عليه الكرة وسألوه ما سألوا، وأجابهم بما استلفت مسامعهم. وبعد ما أسكتهم جميعاً سألهم سؤاله المشار إليه المتعلق بابن داود فما قدر أحد من هؤلاء العلماء المتضلعين أن يجيبه بكلمة. فلو كان المسيح مخطئاً في نسبة هذا المزمور إلى داود أما كان يعترض عليه أولئك الخصوم؟ أو لم يكونوا، في مسألة تحقيق مصدر الأسفار التي بأيديهم، أعلم منا نحن المتأخرين عنهم بزهاء ألفي سنة؟
الحاصل أن محاجة المسيح أقنعت معلمي الشريعة كما أقنعت العامة. إلا أن هناك فرقاً بين إقناع العلماء وإقناع الجمهور: إن الجمهور كان "يسمعه بسرور" (مر 12: 37)، أما رؤساء الكهنة والكتبة فكانوا يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه (مر 14: 1). إن الله قد ارتضى أن يجعل الحقائق الموحى بها هكذا بسيطة وفي متناول القوم البسطاء حتى أن الحكماء والأقوياء يعثرون بها. "من سلك في الطريق حتى الجهال لا يضلّ".
مزمور 110 يمثل المسيح في المنصب الذي عينه فيه الله كملك وكاهن. لم يكن لملوك يهوذا مدخل في الكهنوت. ونعلم من الكتاب المقدس أن عزيا الملك ابتُلي بالبرص حينما حاول أن يحرق بخوراً على مذبح الرب. وورد في الرسالة إلى العبرانيين أن سبط يهوذا "لم يتكلم عنه موسى شيئاً من جهة الكهنوت" (عب 7: 14). وكذلك ليس لسبط لاوي جماعةِ الكهنة مدخل في الملك. أما المسيح فهو كاهن ملوكي، على رتبة ملكي صادق. وفي عدد 2 من هذا المزمور يقول "يرسل الرب قضيب عزك من صهيون" الكلمة المترجمة هنا "قضيب" ليست هي كلمة الصولجان المستعملة عادة شعاراً للقوة الملوكية بل هي "مطا" بالعبري أي عصا الأجداد. كان في اصطلاح القدماء – ولا يزال جارياً الآن بين قبائل العرب – أن الرئاسة يتوارثها الأبناء عن الآباء. ومن استقرت في نصابه يحمل عصاً شعاراً لها. وفي زمن البطاركة كان رئيس البيت يقوم بالخدمة الكهنوتية؛ ومن هنا صارت العصا أو القضيب شعاراً للرئاسة مع الكهنوت. من أجل ذلك ناسب جداً أن يحمل هذا الشعار من قيل عنه أنه ملك وكاهن ورئيس بيت داود. وتقول الآية أن هذا القضيب "يرسل من صهيون". وذكر صهيون والعصا يرجعان بنا القهقري إلى زمن هرون صاحب النفوذ الأعظم في الكهنوت. لقد وضعت عصا هرون أمام الرب، ولما أخرجت من التابوت وجدت أنها قد أفرخت وأنضجت لوزاً كناية عن القيامة من الأموات. فحقاً إنه قضيب نفوذ لا نـزاع فيه أرسل من المقدس.
على هذه الكيفية كانت رسالة رئيس كهنتنا العظيم مبنية على سند لا نـزاع فيه. لأنه "تعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات" (رومية 1: 4). لما طلب اليهود من المسيح آية لإثبات صحة رسالته قال هلم "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" "أما هو فكان يقول عن هيكل جسده" (انظر يوحنا 2: 18 – 22) وفي حادثتين أخريين طلب منه الصدوقيون والفريسيون آية يثبت بها كونه المسيح، فقال لهم: "جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي" (متى 12: 39) يشير بذلك إلى قيامته من الأموات في اليوم الثالث، كما فسر هو بنفسه. وما تزال القيامة هي الآية المثبتة أن المسيح هو ابن الله. إن عصا هرون التي أُخبرنا أنها رمز إلى السماء قد وضعت في قدس الأقداس. ولنا في ذلك إشارة إلى صعود المسيح وجلوسه على عرش الله. ثم إن إخراج العصا مرة أخرى من حضرة الرب لعمل آيات أخرى يمثل مجيء المسيح الثاني بآيات وقوات ومجد عظيم. "لسنا نرى الكل بعد مخضعاً له" ولكن نرى يسوع مكللاً بالمجد والكرامة. الآب "أعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان" (يوحنا 5: 27).
ذبيحة واحدة: في مزمور 40 نرى المسيح ثانية في منصب الكهنوت: "هأنذا جئت بدرج الكتاب مكتوب عني أن أفعل مشيئتك يا إلهي". ووردت هذه العبارة في الرسالة إلى العبرانيين تفنيداً لزعم القائلين بدوام الذبائح اليهودية. هذه كانت جزءاً من الشريعة الموسوية التي ترمز إلى الخيرات العتيدة والدليل على عدم كمالها تكرار تقديمها المرة بعد الأخرى. ثم قابل كاتب الرسالة بينها وبين ذبيحة المسيح التي يترتب فضلها على كونها مقدمة بمحض إرادة صاحبها وطاعته؛ ثم ينبه القراء باقتباس كلام المرنم وتحقيقه في شخص المسيح.
مزمور 23: سبق لنا الكلام عن هذا المزمور في معرض كلامنا عن حياة داود. يتضمن ثلاثة أسرار: سر الحياة السعيدة والموت المرضي والأبدية الصالحة. ولنلاحظ أن هذا المزمور هو أحد ثلاثة يظهر كل منها جانباً أو مظهراً من مظاهر المسيح.
مزمور 22
|
مزمور 23
|
مزمور 24
|
---|---|---|
الراعي الصالح | الراعي العظيم | رئيس الرعاة |
مائتاً | قائماً من بين الأموات | في المجد |
يوحنا 1 | عبرانيين 13: 20 | 1 بط 5: 4 |
مخلصي | راعيَّ | ملكي |
الصليب | العصا | التاج |
النعمة – الماضية | القيادة – الحاضرة | المجد - العتيد |
الجلجثة: المزمور 22 يقودنا إلى المكان المدعو جلجثة. وفي ضوء هذا المزمور نسير حتى نبلغ إلى مقر الصليب. وإن أضفنا إليه الإصحاح 53 من سفر أشعياء نستحضر منهما شرحاً وافياً لواقعة الصلب أكثر صراحة من أي موضع آخر من بين أسفار العهد القديم. فالإصحاح 53 يبسط حادثة موت المسيح من الوجهة التكفيرية، والمزمور 22 يبسطها بإزاء الآلام المبرحة التي كابدها. ويبتدئ بالصرخة التي صاح بها المسيح في ساعة الظلمة: "إلهي إلهي لماذا تركتني"، وينتهي بقوله "بأنه قد فعل" – أو "قد أكمل" حسب الأصل العبري – وهي ذات الكلمة الأخيرة التي فاه بها المسيح على الصليب. فهو "مزمور التنهدات" لأن فصوله ليست منسوقة على نهج الكلام المطرد بل سلسلة من تنهدات الأنين والألم التي يصعّدها المحتضر.
وإذا أضفنا إلى هذا المزمور المزمور 69 يتألف منهما حكاية الصليب. وكثيراً ما استعار منهما البشيرون في بشائرهم لتطبيق وقائع الجلجثة على التصريحات الواردة فيها. فقوله "أما أنا فدودة لا إنسان. عارٌ عند البشر ومحتقرُ الشعب" يصور لنا هون المسيح على الصليب "كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه" (22: 6 و 7) "كان ... الرؤساء أيضاً معهم يسخرون به" "والجند أيضاً استهزأوا به" (لو 23: 35 و 36) "ينغصون الرأس قائلين اتكل على الرب فلينجِّه. لينقذه لأنه سُرّ به" (مز 22: 8) "وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزّون رؤوسهم ... وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا ... قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده" (متى 27: 39 و 41 و 43). "أحاطت بي ثيران كثيرة. أقوياء باشان اكتنفتني. فغروا عليّ أفواههم كأسد مفترس مزمجر" (مز 22: 12 و 13) "ثم جلسوا يحرسونه هناك ... وبذلك أيضاً كان اللصان اللذان صلبا معه يعيّرانه" (مت 27: 36 و 44) "ثقبوا يديّ ورجليّ. أُحصي كل عظامي" (مز 22: 16 و 17). لاحظ أن طريقة الصلب الرومانية لم تكن معروفة عند اليهود، ومع ذلك سبقت فتنبأت النبوة عن الصلب: من تسمير على الأعواد، وشد العظم والعضل حتى تكاد تنفصل. وأكثر من ذلك فقد تنبأ عن ذات العمل الذي عمله العسكر بثيابه: "يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز 22: 18) "لصق لساني بحنكي" (مز 22: 15) "في عطشي يسقونني خلاً" (مز 69: 21) "بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل فلكي يتم الكتاب قال أنا عطشان. وكان إناء موضوعاً مملوّاً خلاً. فملأوا إسفنجة من الخل ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه" (يوحنا 19: 28 و 29).
قلب مكسور: "كالماء انسكبتُ ... صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي" (مز 22: 14) "العار قد كسر قلبي" (مز 69: 20). يصرح هنا بالعلة التي قضت مباشرة على مخلصنا: مات بسبب كسر قلبه. وتكررت كلمة "العار" ست مرات في مزمور 69: حَمَلَ العار والهوان والخزي لأجل الآخرين. ما الذي كسر قلبه يا ترى؟ إنه ثقل خطايا العالم، وكذا احتجاب وجه الآب عنه. هنا نرى عار المسيح وعثرة الصليب! ولا عجب إن إتّباع المسيح ما يزال يجلب العار على المؤمنين إلى هذا اليوم.
"فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح. وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت والصخور تشققت" (مت 27: 50 و 51). فلما جاء إليه العسكر لأجل أن يكسروا ساقيه، إجهازاً عليه، وجدوه قد مات. فكسروا سيقان اللصين اللذين صلبا معه؛ وأما هو فلم يكسروا ساقيه "لكن واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء. والذي عاين شهد وشهادته حق وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم" (يوحنا 19: 32 – 34). الموت بعلة انكسار القلب نادر جداً؛ وهو ينتج عن انفعال نفسي شديد. ومما يبرهن على موت يسوع بهذه العلة صرخته العالية وموته بعدها حالاً وخروج الدم والماء من جنبه على أثر طعنة الحربة. كل هذه تبرهن هذه الحقيقة. ويصدق عليها كلام المسيح في الموضوع عينه حيث يقول "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي" (يوحنا 10: 17). بمشورة الله وعلمه السابق أُسلم للموت؛ وبأيدي أثمة صُلب. أما حياته فقد بذلها بملء إرادته. فهذه الحقائق الثلاث تمت في سر الذبيحة العظمى المقدمة للتكفير عن الخطايا.
ولا شك أن لنا في المزمور 51 ليس فقط صرخة الخاطئ بل أيضاً نبوة عن هذه الذبيحة العظمى": "ذبائح الله هي روح منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره". واعلم أن صيغة الجمع في اللغة العبرانية ترد كثيراً حيث يتضمن الاسم المفرد معنى العظمة. وعليه يكون نص الآية هكذا "ذبيحة الله العظيمة هي روح منكسرة"، وهي ذات الذبيحة التي قدمها عنا مخلصنا. لقد لبس جسدنا البشري حتى يستطيع أن يموت (عب 10: 5 و 9 و 10)، واقتنى قلباً إنسانياً لكي تمثل فيه عملية الكسر. فطريق الأقداس إذاً فتحت أمامنا بواسطة كسر قلب مخلصنا.
هذه هي بشارة الخلاص لنا نحن الخطاة. هذا هو الإنجيل الذي يذلل كبرياءنا ويعلن لنا قوة صليب المسيح على سحق سلطان الخطية وكسر نيرها من أعناقنا لنخدم مَن فدانا بدمائه. ثم إن المزمور 22 و الإصحاح 53 من سفر أشعياء، فضلاً عن كونهما يشرحان لنا واقعة الصلب عن طريق النبوة، فإنهما يتقدمان إلى ما وراء ذلك المشهد المهيب ويبشران بقيامته. ويختمان أقوالهما بهتاف النصر. ولا عجب في ذلك فإن راية الغلبة ما هي إلا عود الصليب وترنيمة الانتصار بدم الحمل. إن الصليب هو الطريق الوحيد إلى حياة القيامة، أو بعبارة أخرى، إلى جدة الحياة التي نحياها هنا لمجد الله. لا يجوز لأتباع السيد المصلوب أن يستعفوا من الصليب. فالصليب لا سواه يفطمنا عن محبة العالم ويحرك قلوب البشر. "كلمة الصليب" هي قوة الله للخلاص حينما يكرز بها بحكمة الناس بل ببرهان الروح.
- عدد الزيارات: 17623