Skip to main content

الباب الرابع - الفصل الأول: سفر أيوب

الباب الرابع

المسيح في الأسفار الشعرية

قد يكون سفر أيوب أعجب ديوان شعري كتب.

كتب هذا السفر في زمن البطاركة ويقال أنه أقدم سفر في الوجود. أما كون أيوب شخصاً حقيقياً فأمر جزم به الكتاب نفسه كما يدل على ذلك قوله "نوح ودانيال وأيوب ... لا يخلّصون ابناً ولا ابنة. إنما يخلّصون أنفسهم" (حز 14: 20).

أما لغته فعلى أتم ما يكون من فصاحة العبارة وبلاغة المعنى. ويتضمن معرفة واسعة تتفق مع الحقائق العلمية؛ ويحل معضلة المعضلات ألا وهي "لماذا يتألم الأبرار"، ويكشف الحجاب عن العالم الروحاني، ويعلمنا إلى أي حد تبلغ سلطة إبليس، ويعلن حقيقة القيامة. وفوق هذا كله يشير من طرف خفي إلى سر الفداء.

ومع كون لغته فصيحة، كما قدمنا، فهي بسيطة. فإن حرارة وصف آلامه وقعت في نفوس عدد لا يحصى من البشر في كل الأجيال الذين محصهم الله في بوتقة التجارب. وبينما يصف أليهو الريح العاصفة نقدر أن نرى تأثيرها من السحب المتكاثفة ووميض البرق وقصف الرعد. من وسط العاصفة يتكلم الله.

كتاب الله: مع أنه ليس الغرض من الكتاب إظهار الحقائق العلمية نجد كثيراً من عباراته يتفق مع أحدث الاكتشافات العلمية كما نرى في هذا السفر. ومن ذلك قوله: "يعلق الأرض على لا شيء" (أي 26: 7). فأية عبارة أصرح من هذه أو أدق منها تدل على موازنة أرضنا في الفضاء. وقوله: "هل تربط أنت عقد الثريا" (38: 31)؟ يقال إن نظامنا الشمسي يدور حول أحد نجوم الثريا السبعة المسمى السيلون فما أقوى وأبدع تأثير هذا النجم الذي يعقد نظام هذه العوالم فتخطر حوله بهدوء من بعد شاسع!

ومثل قوله "عندما ترنمت كواكب الصبح معاً" (38: 7). اكتشفوا أخيراً أن لأشعة النور صوتاً يسمع. ولو كانت حاسة سمعنا أقوى مما هي لأمكننا أن نسمع صوتها.

ومثل قوله "في أي طريق يتوزع النور". لا عبارة أصرح من هذه للدلالة على انحلال النور إلى ألوانه الأصلية حسب الاكتشافات الأخيرة.

سر الألم: يتكلم هذا السفر عن سر الآلام البشرية وعلى وجه الخصوص آلام الأبرار. أما أصحاب أيوب فأخطأوا في تعليل هذه الآلام فقالوا هي عقوبات من الله على خطايا معلومة "من هلك وهو بري" (4: 7)؟ وكانت هذه الفكرة محور التعزيات التي عزوا بها زميلهم المبتلي. اعتبروا أن أيوب ارتكب ذنباً متجاوز الحد في فظاعته فاستحق عليه هذه المصيبة العظمى. فبالنسبة لهذه التهمة يلزمنا أن نفحص حالة أيوب وسلوكه أمام الله فنقول أولاً أنه كان يتقرب إليه بدم الذبيحة (1: 5) وسالكاً بقلب نقي وحياة مثل قلبه.

وهاك ما شهد الله به عنه "ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر" (1: 8). قال بعضهم: كان أيوب أنسب رجل في عصره اختاره الله مثالاً للصبر على احتمال التجارب موعظة للمجربين في كل الأجيال.

كان يعلم أيوب طبعاً بإخلاصه نحو ربه. من أجل ذلك لم يقبل من رفقائه التهم التي صوبوها نحوه، وبرهن لهم فساد نظريتهم باحتمال نجاح الأشرار في هذا العالم "يعللون كرم الشرير" (24: 6). من المبادئ الخطرة التي تغري الشرير على الاستمرار في شره نجاحه في أكثر الأحيان. فالشاب الذي يربح في الدور الأول من المقامرة معرّض لخطر الاستمرار أكثر من الخاسر.

العقوبة: إن أليهو الذي كان مصغياً إلى احتجاج أيوب ورفقائه لخص بحثهم في عبارتين حسنتي النهج: "على أيوب حمي غضبه لأنه حسب نفسه أبرَّ من الله. وعلى أصحابه الثلاثة حمي غضبه لأنهم لم يجدوا جواباً واستذنبوا أيوب" (32: 2 و 3). فكان أليهو رسول الله إلى أيوب يحمل إليه البلاغ الصحيح عن قصده تعالى في تأديب أولاده ومهد السبيل إلى أيوب ليفهم الإعلان الذي أعلنه الله عن نفسه فيما بعد. فالتأديب بيت القصيد في هذا السفر.

مشاهدو الجهاد: لله في تأديب أولاده غاية أرفع من تكميلهم الشخصي، ولنا الدليل من كلام بولس "لكي يعرّف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة" (أف 3: 10). توجد سحابة من الشهود غير منظورة تتطلع بشوق إلى الجهاد في ميدان عالمنا الصغير. إن الله يريد أن يعلن لملائكة النور وجنود الظلمة قصد نعمته الأزلي في افتداء أولاده الذين على وجه الأرض. اعترض العدو على صلاح أيوب في مجلس السماء في مظهر المدافع عن كرامة الله. ولم يعلم أيوب إلا قليلاً بالنتائج العظيمة التي ترتبت على ثباته بقوله في أحرج المواقف: "الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً". ما أقل ما تعلم الكنيسة بما يترتب على أمانتها! وهل يجد الله بين الذين يثقون فيه عدداً كبيراً من القديسين أهلاً لثقته ...

العدو: إن عظم قوة إبليس ونهاية ما تبلغ إليه هي في هذا السفر ظاهرة – كانت له القدرة على جلب السبئيين والكلدانيين ليسلبوا مواشي أيوب، وأمكنه أن يعالج البرق فأخرج منه ناراً أحرقت قطعان الغنم، ودعا الريح فلبَّت دعوته وأسقطت البيت على السكان الذين فيه، وضرب أيوب بقرح رديء. أليس هو رئيس سلطان الهواء والروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية؟ ألم يضرب بولس بشوكة في جسده؟ ومع أن له هذه القوة الهائلة والنفوذ المتسع غير أنه لا يقدر أن يستخدم شيئاً من ذلك إلا إذا أذن له الله. فأية تعزية لأولاد الله في هذا التعليم إذ يتأكدون أنه لا تحل بهم مصيبة إلا بأذن أبيهم الذي في السموات الذي قال "من حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم. إذ جعلتُ السحاب لباسه والضباب قماطه. وحزمتُ عليه حدي وأقمت له مغاليق ومصاريع وقلت إلى هنا تأتي ولا تتعدى وهنا تُتخم كبرياء لججك" (38: 8 – 11). فهو لا يجربنا فوق ما نستطيع أن نحتمل ولا يدخلنا في أتون لا نقدر أن نصبر على حرارته.

ولنا في هذا السفر، عدا مسألة الآلام، نموذج حي في أحد أولاد الله وضع في البوتقة وظهر تأثيرها الحسن في حياته. لما كان أيوب أهلاً لثقة الله تعالى أحال إليه خدمة الآلام قدوة للمتألمين، وحيث أن الله أحبه فقد أدبه. وأقر أيوب في وسط كربه أنه لا يمحص بالنار سوى الذهب. لما كان أيوب راتعاً في بحبوحة الخيرات مشمولاً بالصحة والتوفيق في كل أعماله كان معرضاً لخطر الوثوق بنفسه، ومعرضاً لأن ينسى أن قوته وثروته ومقامه بين الناس هي نتيجة اعتماده على الله عز وجل. لكنه بعد التجربة تحطمت نفسه وذلت (16: 12 و 14 وص 17: 11). تمحص قلبه كالذهب (23: 10) ولطف طبعه حيث جاز له أن يقول "يد الله قد مسّتني" 19: 21). "الله قد أضعف قلبي والقدير روعني" (23: 16).

"الآن رأتك عيني". رؤية الله هي التي جعلت أيوب يتواضع إلى التراب. كان يدعي أيوب في بادئ التجربة أنه يريد أن يحاج الله على معاملته له بهذه القساوة. أما وقد أتى به الله إلى كلمته وقال له "هل يخاصم القدير موبخهُ أم المحاجُّ الله يجاوبه" أجاب بتواضع قائلاً "ها أنا صغير فماذا أجاوبك؟ وضعت يدي على فمي". واستمر الله يخاطبه ويعلمه حتى أدرك أيوب حقيقة نفسه فقال "نطقت بما لم أفهم. بعجائب فوقي لم أعرفها ... بسمع الأذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني. لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد" (42: 3 – 6)

خادم الله بعد التمحيص: أيوب بعد انسحاق قلبه وتنقيته صار أهلاً بحسب أمر الله للشفاعة في رفقائه الذين زادوا مصيبته ثقلاً. وقبل أن يفرج عنه قدم الذبيحة التي أمر الله بها أصحابه الثلاثة أن يقدموها عن أنفسهم بواسطته وصلى من أجلهم. وكان لما قدم الذبيحة وصلى إلى الله من أجل رفقائه الثلاث رد الله إليه السبي مضاعفاً من الغنم والبقر والإتن والإبل وكل مواشيه. أما أولاده فلم يضاعفهم له. وفي ذلك تلميح إلى حقيقة القيامة. لا شك أن الله أجاب صلاة أيوب بخصوص أولاده وقبل ذبائحه؛ لكن السبب الذي من أجله لم يضاعف له الله البنين كما فعل له بالمواشي هو أن أولاده الأولين لم يعدموا من الوجود بل محفوظون في السماء "هناك يكف المنافقون عن الشغب وهناك يستريح المتعبون" (3: 17).

وليي حي: إن رأي أيوب عن مستقبل الحياة كان في بادئ الأمر غامضاً غير واضح لأننا نراه يسأل كالمرتاب في حقيقة القيامة قائلاً: "إن مات رجل أفيحيا" (14: 14)؟ أما وقد تدرب في الإيمان، بفضل الضيقات، فقد أدرك هذه الحقيقة وأجاب عن سؤاله الأول جواباً سديداً قائلاً: "أما أنا فقد علمت أن وليي حي والآخر على الأرض يقوم وبعد أن يُفنى جلدي هذا وبدون جسدي أرى الله الذي أراه أنا لنفسي وعيناي تنظران وليس آخر". مهما يكن من قلة خبرة أيوب بهذا الإعلان الموحى إليه بالروح فإن لنا فيه نبوة صريحة دوى صداها في العصور الأولى عن المخلص الذي يشير إليه أيوب بكلمة وليي وهو صاحب المرتبة الأولى من القرابة وله حق الافتداء.

وعدا ذلك رأينا في هذا السفر أكثر من مرة ذكر الذبائح التي تشير إلى ذبيحة المخلص وذلك في بداءته حينما يتكلم عن الذبائح التي قدمها أيوب عن أولاده، وفي ختامه حينما يتكلم عن الذبائح التي قدمها عن رفقائه الثلاثة. ثم نرى أيوب يسأل سؤالاً لا يمكن الإجابة عليه إلا بمعرفة المسيح وهو قوله "كيف يتبرر الإنسان أمام الله" لأن الإنسان يتبرر بدم المسيح (انظر رو 5: 9).

الوسيط: إننا نرى المسيح في هذه الكلمة "مُصالح" التي في قوله "لأنه ليس هو إنساناً مثلي فأجاوبه فنأتي جميعاً إلى المحاكمة. ليس بيننا مُصالح يضع يده على كلينا" (9: 32 و 33). إن الطلب الذي ينقص أيوب، ولا غنى له عنه، متوفر في المسيح "يوجد ... وسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع" (1 تي 2: 5 – 6).

فدية: ثم نرى المسيح أيضاً في كلام أليهو حيث يقول: "يترأف عليه ويقول أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة قد وجدت فدية". إن الفدية التي يتنبأ عنها أليهو عين الفداء الذي كرز به بولس. رأى أيوب بعين الإيمان أن فاديه حي وأنه سيبرره عند مجيئه؛ يترأف عليه ويخلصه من السقوط في الحفرة لا إكراماً لبر أيوب بل باستحقاق ذاك الذي سفك دمه فدية عن الجبلة البشرية الساقطة.

ثم في الآية التالية يشرح نتائج الفدية قائلاً: "يصير لحمه أغضّ من لحم الصبي ويعود إلى أيام شبابه. يصلي إلى الله فيرضى عنه ويعاين وجهه بهتاف". نعم لأن التطهير من الخطية ومعاشرة الحضرة الإلهية قائمان على حقوق الكفارة الكاملة.

ثم نرى في آلام أيوب صورة لآلام المسيح، وذلك من جملة وجوه. أولاً أن آلام أيوب نتجت عن عداوة إبليس له. ثانياً إن آلام الرجل المستقيم إشارة إلى آلام المسيح، رجل الأحزان الذي لم يعمل خطيئة قط. ثالثاً إن أيوب جرح بسهام رفقائه وصار أغنية ومثلاً عن الأوباش. قال "يكرهونني يبتعدون عني وأمام وجهي لم يمسكوا عن البصق .... فالآن انهالت نفسي علىّ وأخذتني أيام المذلة. الليل ينخر عظامي ... قد طرحني في الوحل فأشبهت التراب والرماد. إليك أصرخ فما تستجيب لي" (ص 30). فما أشبه حالة أيوب الموصوفة هنا بحالة مخلصنا! إلا أن أيوب يشكو ويضجر، وأما حَمَلُ الله القدوس فلم يفتح فاه كنعجة صامتة أمام جازّيها لأنه سكب نفسه ذبيحة عن خطايانا.

  • عدد الزيارات: 4214