Skip to main content

الفصل الحادي عشر: سفر عزرا

الحكم الذي قضى به كورش من أشهر الأدلة على أن روح الله يتكلم مع الأجنبيين عن عهد النعمة. تنبأ أرميا النبي عن رجوع بني إسرائيل من سبي بابل قبل رجوعهم بسبعين سنة. ومن قبل ذلك بمائة سنة تنبأ أشعياء أن رجلاً لا يعرف الله غير أن الله يدعوه باسمه كورش يتمم قصده وينفذ إرادته في إعادة شعبه إلى بلادهم. فما أعجب هذه النبوة التي تعين ذات الاسم قبل ولادة مسماه بسنين كثيرة! ومن المحتمل أن يكون دانيال النبي هو الذي استلفت أنظار قواد الفرس إلى نبوات أنبياء إسرائيل في هذا الصدد وأن يكون كورش قد تعلم منه معرفة الإله الحقيقي الأحد.

وكما أن روح الله استمال قلب كورش إلى إعادة إسرائيل هكذا كان روح الله عاملاً في إسرائيل نفسه يشوّقهم إلى الرجوع حتى يغتنموا هذه الفرصة الثمينة ألا وهي تعطفات كورش نحوهم. إن السبب الذي حمل بني إسرائيل على الخروج من مصر عن آخرهم هو العبودية المرة التي عانوها؛ وأما في بابل فلم يعانوا مشقة بل نجحوا. فلولا ترغيب الروح لهم في الرجوع ما رجع أحد. وقد بلغ عدد الذين رجعوا حوالي الخمسين ألفاً وهم قليلون جداً بالنسبة للذين بقوا، وقليلون أكثر جداً بالنسبة لأمتهم في زمن زهوهم ونجاحهم.

الرجوع والإصلاح: خلاصة هذا السفر وغايته رجوع الذين رجعوا من بني إسرائيل. وهؤلاء يمثلون الراجعين إلى الله من أفراد المؤمنين الذين انحرفوا عنه وتجديد عزمهم في حياة أكثر تقوى وقربى من الله. والذين لم يرجعوا يمثلون المصرّين على خطاياهم الراغبين في هذا العالم الباطل. فلنأخذ حذرنا لئلا تعيقنا هذه الفئة عن الرجوع، ولنصغ إلى الله الذي يأمرنا بالانفصال عنهم، وما يزال يدعونا حتى هذه الساعة.

البقية الراجعة ابتدأوا يصلحون شؤونهم من الداخل إلى الخارج، فحينما بلغوا بلادهم لم يبدأوا ببنيان الأسوار حتى ولا ببنيان الهيكل لكنهم "بنوا مذبح إله إسرائيل ليصعدوا عليه محرقات كما هو مكتوب في شريعة موسى رجل الله ... وحفظوا عيد المظال". وعليه نرى المسيح وعمله التكفيري مرموزاً إليه بالمحرقات في وسط هذا السفر. فالذين رجعوا استدلوا عليه أولاً، وكذلك كل نفس تائبة أو راجعة من الارتداد تأتي إلى الصليب من جديد

وكانت الخطوة الثانية أنهم وضعوا أساس الهيكل في أثناء التسبيح والشكر. غير أن بعضاً من المتقدمين في السن لما تذكروا عظمة الهيكل الأول بكوا وصوّتوا حتى اختلط الفرح بالنوح، والتسبيح بالعويل. وهذه الحالة تحاكي حالة الراجع إلى المسيح – أساس الإيمان: تختلط دموعه وأنينه على خطاياه الماضية ببهجة الخلاص وفرح الشركة مع الله.

الانفعال: أمامنا درس عظيم الأهمية يجب على الكنيسة المسيحية اليوم أن تتعلمه. أن السامريين وهم قوم وسط ما بين اليهود والأمم، أتى بهم شلمناصر ملك آشور من بلاده وأسكنهم في السامرة بدل بني إسرائيل الذين سباهم من هناك. كانوا مقاومين لليهود الذين شرعوا في بنيان الهيكل. وخلطهم بين الديانة اليهودية والوثنية هو لأنهم لما سكنوا الأرض جديداً هجمت عليهم السباع فشكوا أمرهم إلى الملك فأرسل إليهم كاهناً من المسبيين يعلمهم ما يدعونه "قضاء إله الأرض". وكانت النتيجة كما ورد عنهم في سفر الملوك الثاني ص 17 أنهم "كانوا يتقون الرب ويعبدون آلهتهم".

فهؤلاء المقاومون أضمروا العداوة للذين قاموا ببناء الهيكل وتظاهروا لهم بأنهم يرغبون في مساعدتهم. وهكذا أعداء الكنيسة فإنهم يبدأون بأن يظهروا لها التودد والمساعدة. فينبغي لنا أن نأخذ حذرنا منهم ونقف بإزائهم موقف بنّائي الهيكل أمام السامريين فلا نجمع بين عمل الله ومساعدة الأشرار كأن لا نسمح لغير المؤمنين أن يتقلدوا مناصب عالية في الكنيسة أو الاجتماعات الدينية أو مدارس الأحد. قد ظهر في هذه الأيام ميل عند بعض الكنائس الإنجيلية إلى الاتحاد مع الكنيسة البابوية ولم يفطنوا إلى هذه الكنيسة خصيمة لهم كما كان السامريون خصوماً لزربابل قلم يقبل منهم مساعدة بناء الهيكل كما تقدم.

إن هؤلاء الخصوم وإن كانوا قد أظهروا التودد ما لبثوا حتى انكشفت عداوتهم فضايقوا رجال يهوذا وهم قائمون ببناء الهيكل حتى ظفروا بمرادهم وأوقفوهم. غير أن الرب أرسل نبيين إلى شعبه وهما حجي وزكريا فشجعاهم وأمراهم أن يستأنفوا البناء على الرغم من مقاومة المقاومين. أخذوا يبنون بنشاط وإقدام ولما سألهم تتناي والي عبر النهر" من أمركم أن تبنوا هذا البيت وتكملوا هذا السور" أجابوه جواباً لم يصدقه فأرسل كتاباً إلى داريوس الملك لتحقيق المسألة. فراجعوا سجلاتها في أحمثا في القصر ووجدوا جوابهم صحيحاً فتشجعوا في العمل حتى أكملوا البنيان إلى آخره.

النسخة السامرية: تقدم أن السامريين كانوا أعداء ألداء لليهود في ذلك الزمن عند تجديد أسوار أورشليم. ثم أن عداوتهم في زمن عزرا ونحميا بعد هذا التاريخ بنحو ثمانين ومئة سنة لم تتناقص. وبالنسبة للعداوة بين العنصرين كان أمراً أكيداً أن السامريين لن يسمحوا لعزرا نبي اليهود أن يمس نسختهم بإضافة أو حذف أو تغيير. وقد رأينا أن هؤلاء السمرة حازوا نسختهم قبل زمن عزرا بمائة وسبعين سنة حين جاءهم الكاهن اليهودي بأمر شلمناصر ملك آشور وعلمهم "قضاء إله الأرض" أي شريعة موسى. ومن ذلك الوقت حصلوا على نسختهم. ولذلك لم يكن معقولاً بعد مئة وسبعين سنة أن يسمحوا لعزرا عدوهم أو لأي رجل يهودي أن يغيرها. ونعلم أن العداوة استعرت بين السامريين واليهود إلى زمن المسيح. ومع ذلك نجد النسخة السامرية اليوم موافقة تقريباً لتوراتنا اليهودية. ونختم كلامنا بهذه النتيجة أنه لا بد أن يكون السامريون قد حازوا نسختهم قبل أن يتعادوا مع اليهود أي قبل رجوع عزرا إلى أورشليم بسبعين سنة. وعدا ذلك فوجود نسختهم بالخط الفينيقي دليل على بلوغها ذلك الحين من القدم. ولنا في سفر عزرا أدلة كثيرة على أن شريعة موسى رجل الله كانت موجودة في أيامه. ثم إن بناء المذبح وتقديم المحرقات وحفظ عيد المظال في زمن زربابل شواهد تؤيد هذه الحقائق.

حالما تم بناء الهيكل دشنه الشعب بفرح. وكان من جملة المحرقات التي قدموها اثني عشر تيس معزى ذبيحة خطية عن جميع إسرائيل حسب عدد أسباط إسرائيل (انظر عزرا 6: 17). هذا أحد الأدلة على أن البقية التي رجعت من السبي اشتملت على جماعة من كل سبط من أسباط إسرائيل العشرة ومن سبط يهوذا وبنيامين كما كانت الحال مع البقية التالية التي رجعت تحت قيادة عزرا حينما "قربوا محرقات لإله إسرائيل اثني عشر ثوراً عن كل إسرائيل" (عز 8: 35). وعدا ذلك فقد حدث قبل السبي أن عدداً وفيراً من الأسباط العشرة انضموا إلى مملكة يهوذا تخلصاً من عبادة الأصنام ورغبة في عبادة الله (انظر أخبار الأيام الثاني 11: 14 – 17 و 31: 6). ومما تقدم نعلم أن البقية التي رجعت من السبي البابلي ممثّلة للأسباط الاثني عشر، وكذلك يهود زماننا الحاضر يمثلون الأسباط كلهم، وإن وجد بعض الأسباط العشرة بين نساطرة بلاد فارس. قال بعضهم أن الخلاف الذي كان مستحكماً بين مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا زال في السبي وتوادوا معاً وأصبح اسم أورشليم عزيزاً عند الأسباط العشرة كما هو عزيز عند يهوذا.

ثم أنهم بعد ما دشنوا الهيكل كما ذكرنا حفظوا عيد الفصح. قلما نقرأ عن الفصح لأن في زمن الارتداد فرط إسرائيل في حفظ أعيادهم إذ قد نسوا معنى السرور. ولكننا كلما قرأنا عن عيد الفصح تذكرنا افتداء إسرائيل في مصر وبالتالي الافتداء الذي تم في جلجثة.

عزرا: بين تدشين الهيكل وعودة البقية التالية من السبي مضى ستون سنة من تاريخ هذا السفر. ثم أقام الله مصلحاً عظيماً في شخص عزرا: هذا كان بحسب نسبه وارثاً للكهنوت. وإذ لم يكن في السبي في بابل هيكل ولا مذبح تفرغ لدرس الشريعة حتى صار كاتباً ماهراً، واشتعل غيرة على حفظ ما فيها من الوصايا والتعاليم والسير بموجبها قبل أن علمها لأمته. وهذا ما جعل لكلامه التأثير الشديد في نفوس سامعيه.

وقد منح ارتحششتا الملك لعزرا منحة لم يكن ينتظرها إذ قد دفع إليه رسالة ملكية تخوله السلطة والنفوذ لترحيل من أراد من إسرائيل أن يعود إلى بلاده وإمداده بكل ما يلزم لبيت الله ويكون له الحق أن يقيم بين الشعب حكاماً وقضاة ويعلمهم شريعة الله. ونسب عزرا عطف الملك واستعداد الشعب للسفر وسلامتهم في الطريق إلى عناية الله وحسن رعايته لأنه في كل عمل كان يتوكل على الله ويسلم له طريقه. لما ابتدأ عزرا بتنفيذ مشروعه العظيم لبى دعوته بضعة آلاف من الشعب قد اجتمعوا معه على نهر أهوا، واستودعوا ذواتهم إلى الله بالصوم والصلاة. وكانوا كلما تذكروا معاملات الله المملوءة من العناية والرحمة يطمئنون بالاً، على الخصوص حين يتذكرون تدبير الله الغريب في إنقاذهم في الستين سنة الأخيرة مدة أستير الملكة.

رجل مضطرم بالغيرة: إن المدة الأخيرة التي قضاها إسرائيل في أورشليم قبل رجوع عزرا كانت مدة ارتداد استحكم فيها الفتور والإهمال، ورجع الشعب إلى مصاهرة الأمم الأجنبية. إن وجود إسرائيل كأمة متوقف على عدم مصاهرة الأجانب وتكريس نفسه للرب. ولما بلغ عزرا هذا الخبر الرديء حزن حزناً مفرطاً ومزق ثيابه "وجلس متحيراً إلى تقدمة المساء". ومرة ثانية في تلك الساعة المقدسة أتاه الفرح فجثا على ركبتيه وسكب قلبه في الصلاة لله بجهاد عظيم مشتركاً مع شعبه في الاعتراف بخطيته. ولما كانت صلاته صادرة من صميم قلبه أثرت في قلوب الشعب فاجتمعوا رجالاً ونساء وأولاداً، وسرت فيهم النار التي في قلب عزرا حتى اشتعلوا جميعهم بنار الروح وبكوا بكاء عظيماً. ولم تقف ندامتهم عند حد البكاء والنحيب بل عاهدوا الله وحلفوا أمامه بأن يرجعوا إليه ويعضدوا عزرا في مساعي الإصلاح. وكانت الرسالة التي بيده من ارتحششتا الملك من ضمن الرسائل التي عضد بها الله عبده. وأحصوا النساء الأجنبيات التي تزوج بها الشعب فبلغ عدد الزيجات المختلطة مئة واثنتي عشرة فنفذت في هؤلاء جميعهم شريعة موسى.

  • عدد الزيارات: 4431