Skip to main content

الفصل الثاني عشر: سفر نحميا

بعد مضي اثنتي عشرة سنة على إصلاح عزرا استأذن نحميا من أرتحششتا الملك – وقد كان ساقياً له – أن يصعد إلى أورشليم. والذي أثار عزيمته لهذه المهمة ما سمعه من الأخبار السيئة عن حالة المدينة المستوحشة وأسوارها المتهدمة. ولما تحقق صحة هذه الأخبار جمع الشيوخ حسب يد إلهه الصالحة عليه وقالوا: "نقوم ونبني وشدوا أيديهم في هذا العمل الصالح".

من أجل ذلك يكون موضوع هذا السفر الإصلاح. ففي سفر عزرا نقرأ عن بناء الهيكل، وفي هذا السفر نقرأ عن بناء الأسوار. وعليه نرى أن الإصلاح يبتدئ من الداخل ويمتد إلى الخارج. ومتى كان القلب مستقيماً أمام الله ومسكناً لروحه القدوس تصلح كل الأعمال الخارجة منه وتمتد إلى الأمام بدون عائق. إن هذا السفر كله حافل بالعبر والمواعظ لخادم المسيح. يبتدئ باعتراف نحميا واتضاعه أمام الرب من أجل سوء حالة شعبه. فسواء في شوشن القصر أم في المدينة المقدسة نجده شديد الاهتمام بما للرب، رجلَ الصلاة. ولد بمواهب سياسية سامية فاستخدمها كلها لمجد الرب وسخرها لخدمته تعالى. أدرك سر التعاون والتعاضد فأقبل يثير في قلوب المتعبين روح النشاط لينجزوا عملاً عظيماً.

العمل بقلب: بدأ نحميا يبني السور من عند باب الضان، وقسم السور على الأملاك التي في مداره. فبنى كل مالك القسم الذي يقابل ملكه (انظر نح 3: 10 و 28 و 29) وعملوا جميعهم قلباً بقلب ويداً بيد، التاجر والصانع والكاتب والكاهن والرئيس والمرؤوس حتى أن شلوم رئيس نصف دائرة أورشليم عاون في العمل هو وبناته. وكثير من البنائين لما أتموا القسم الذي عليهم تطوعوا لبناء قسم آخر. ومن هؤلاء مريموث بن أوريا (نح 3: 4 و 21)، ومشلام بن برخيا رمم جانباً من السور عدا الجزء المقابل لمخدعه (نح 3: 4 و 30)، ونحميا بن عربوق وهم ثلاثة أقسام (عد 16)، وباروخ بن زباي رمم بعزم قسماً ثانياً من الزاوية إلى مدخل بيت الياشيب الكاهن العظيم (عد 20).

المقاومون: إن أحفاد السامريين، الذين أزعجوا زربابل ليوقفوه عن بناء الهيكل، لم يعيوا ولا ملوا من اتخاذ الوسائل لتوقيف نحميا أيضاً. فبدأوا بالهزء "ماذا يعمل اليهود الضعفاء ... إن ما يبنونه إذا صعد ثعلب فإنه يهدم حجارة حائطهم. اسمع يا إلهنا لأننا قد صرنا احتقاراً ... فبنينا السور واتصل كل السور إلى نصفه وكان للشعب قلب في العمل" (4: 1 – 6).

فشل الاستهزاء فاعتصب الأعداء ليثيروا حرباً على أورشليم ولكن نحميا يقول "صلينا إلى إلهنا وأقمنا حراساً ضدهم نهاراً وليلاً". وعدا ذلك جهز نحميا البنائين بالسلاح وأمرهم أنه في المكان الذي يسمعون فيه صوت البوق يجتمعون إليه يدافعون عن سلامة المدينة.

وسعى العدو في أن يدبر مكيدة لنحميا فبعث أربع مرات يستدعيه لمقابلته في بقعة أونو فأجابه في المرات الأربع قائلاً "إني أنا عامل عملاً عظيماً فلا أقدر أن أنـزل لماذا يبطل العمل بينما أتركه وأنـزل إليكما". إن كان لنا جواب حسن فلا حاجة بنا إلى تغييره. فاتهم العدو نحميا وقومه بالفتنة والتمرد على ملك البلاد ليوقع الرعب في قلوبهم ويثبط همتهم عن مواصلة العمل فأجاب نحميا طوبيا على هذه التهمة قائلاً "لا يكون مثل هذا الكلام الذي تقوله بل إنما أنت مختلقه من قلبك". وآخر حيلة لتعطيل نحميا عن العمل كانت أن رسولاً جاء يتظاهر له بالنصيحة ويقول له: إنهم عازمون على قتلك فما لك سوى أن تذهب إلى الهيكل وتختبئ فيه. فلم تفلح فيه هذه الحيل لأنه أجاب قائلاً: أرجلٌ مثلي يهرب؟ ومن مثلي يدخل الهيكل فيحيا. لا أدخل. وكمل السور في اثنين وخمسين يوماً (انظر نحميا 6: 11 و 15).

لا يزال أعداؤنا الروحيون يتخذون الوسائل ضدنا كأعداء نحميا" تارة بالاحتيال وأخرى بالتهديد رغبة في عرقلة مساعينا وإيقاع التفرقة بيننا وبين إلهنا. فيجب علينا والحالة هذه أن نقتدي بنحميا بأن نرجع إلى الذي بيده أمرنا ونصلي إليه أن يبطل مشورة الأعداء ويطيش سهامهم عنا.

رئيس كهنتنا العظيم: بعد تتميم السور قرأوا سفر انتساب اليهود الذين رجعوا من بابل تحت رئاسة زربابل. وحدث أن فريقاً من الكهنة لم يستطيعوا أن يثبتوا نسبهم إلى إسرائيل في السفر "فرذلوا من الكهنوت. وقال لهم الترشاثا (أي الحاكم) أن لا يأكلوا من قدس الأقداس حتى يقوم كاهن للأوريم والتميم" (7: 63 – 65). لنا هنا رمز إلى المسيح: إن عدم وجود نسب جماعة من الكهنة في سجل الإسرائيليين يذكرنا أن لنا رئيس كهنة يسوع المسيح الذي عنده الأوريم والتميم إذ هو النور الحقيقي الكامل، العالم بكل القلوب والفاحص الكلى، والقادر أن يحل المشكل الذي يعطلنا عن التمتع بامتيازاتنا ككهنة العلي حتى يحق لنا أن نأكل من الأقداس (أي أن تكون لنا شركة مع إلهنا) وأن نتمتع به ونكون أهلاً لمباركة الآخرين لأن رجاساتنا وأدناسنا وكل ما من شأنه أن يحول بيننا وبين مقادس العلي قد أُزيلت. فيسوع بدم نفسه دخل ليس إلى أقداس مصنوعة بيد بل إلى السماء عينها ووجد لنا فداء أبدياً. وطالما نحن واثقون في فدائه لنا الدالة العظمى عند الله وحظوى التمتع به لا مرة في العام أو في الشهر أو في الأسبوع بل كل حين.

المسيح كاهن عظيم ليس بانتسابه إلى هرون بل لأنه "على رتبة ملكي صادق" الذي كان "بلا نسب" (عب 7: 3). إن الوحي قصد أن يسقط نسبه ليجعله مثالاً لكهنوت المسيح الذي لم يكن له أب من البشر. اعلم أن الله جعلنا كهنة له مع المسيح؛ واستحقاقنا لهذه الرتبة العظيمة يتوقف على حصولنا على الميلاد الثاني الذي به تكتب أسماؤنا لا في سجل أرضي معرَّض للطوارئ بل في سفر حياة الخروف. وعلاوة على ذلك فإن الله يؤهلنا لهذه الخدمة بعمل مستمر أشار إليه الرسول يوحنا في موضع بفعل في صيغة الزمن الحاضر بقوله: "الدم يطهرنا". لا يلزم أن يكون بيننا وبين الله فاصل. وأشار إليه في موضع آخر بصيغة فعل تفيد الاستمرار بقوله: "وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم" بحيث أنه لا يلزم أن ينقصنا تعليم لإرشاد الآخرين لأن مسحة الروح القدس تعلم كل شيء ضروري للخلاص.

وعظ عزرا: كان من نتائج عودة اليهود إلى بلادهم وإصلاح شؤونهم أنهم أظهروا شوقاً عظيماً إلى استماع كلمة الله، فاجتمعوا كرجل واحد في الساحة التي أمام باب الماء وتوسلوا إلى عزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى. نرى عزرا هنا مرة أخرى – ولعله بالغ الآن سن الشيخوخة – نراه واقفاً مع نحميا جنباً لجنب في خدمة الله. لنا هنا مثال مؤثر في وعظ عزرا. رأيناه قبل ذلك الوقت مصلحاً عظيماً، وعهدناه رجل الصلاة المقتدر؛ وفي هذه الآونة نراه واعظاً بليغاً ذا خبرة بالشريعة، ارتقى المنبر المعد لهذه الغاية محفوفاً بقواد الشعب، والجمهور مزدحم عليه. ثم فتح السفر وتلا عليهم كلمة الله، وأفهمهم معناها ووالى الوعظ عليهم ساعة بعد أخرى ويوماً فيوماً حتى سمع الكل كلمة الله رجالاً ونساءً وأولاداً وفهموها.

أنار وعظ عزرا مدينة أورشليم كما أنار وعظ سافونارولا مدينة فلورنس. اعتبر الناس وبكوا من جرى تفريطهم وتقصيرهم في السير بموجب شريعة الله فأسكتهم الكهنة واللاويون ونهوهم عن البكاء. ونعلم من سياق الكلام وقرائنه أن بكاءهم تحوَّل إلى فرح ونوحهم إلى انشراح حينما خضعوا لوصية الله، ومن ذلك قوله: "فذهب كل الشعب ليأكلوا ويشربوا ويبعثوا أنصِبة ويعملوا فرحاً عظيماً لأنهم فهموا الكلام الذي علموهم إياه" (8: 12) "سلامة جزيلة لمحبي شريعتك".

وتعهد بنو إسرائيل أن يحفظوا وصايا الرب وعلى الخصوص وصايا الزواج والسبت وعبادة الإله الحقيقي. وكان يوم تدشين الأسوار يوم فرح عام في كل المدينة "لأن الله أفرحهم فرحاً عظيماً وفرح الأولاد والنساء أيضاً وسُمع فرح أورشليم عن بعد" (12: 43).

ارتداد آخر: مضت اثنتا عشرة سنة على بناية السور، وكان قد عاد نحميا إلى شوشن القصر حسب الاتفاق الذي بينه وبين الملك. فلما رجع إلى أورشليم إذا به أمام شعب نقضوا العهود التي تعهدوا بها للرب وأهانوا شريعته تعالى، فقاومهم بعنف وثبات وأقام لهم شريعة موسى مرة ثانية ووجد فيها أن العمونيين والموآبيين لا يجوز لهم أن يختلطوا باجتماعات الشعب. وحيث أن الياشيب الكاهن كان قد صاهر طوبيا الموآبي وأعطى عدو الرب مقاماً في هيكله المقدس غار نحميا للرب وطرد الياشيب من الهيكل. ما أحوجنا اليوم إلى الحذر من القرابة والمصاهرة لئلا تفسد علاقتنا بإلهنا.

عاد نحميا يناقش رؤساء الشعب الحساب على إغفالهم خدمة بيت الرب وإهمالهم يوم الرب. إن إهمال هذا اليوم لمن أعظم الدواعي التي تؤدي إلى ارتداد كثير من المسيحيين في وقتنا الحاضر. وهذه الخطيئة مع مخالفة الوالدين تسري بسرعة في وقتنا الحاضر، وهي من علامات الأزمنة الصعبة التي تأتي في الأيام الأخيرة حينما يكون الناس محبين للذات دون محبة الله (انظر 2 تي 3: 1 – 4).

ثم وجد نحميا أن الشعب قد رجع إلى مصاهرة الأجانب وأن كثيرين منهم قد ساكنوا نساء أشدوديات فنتج عن ذلك أن أولادهم لم يحسنوا التكلم باللسان اليهودي بل صاروا يخلطونه باللسان الأشدودي. إن الله أمرنا نحن المسيحيين قائلاً: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين. لأنه أية خلطة للبر مع الإثم. وأية شركة للنور مع الظلمة". فإن خالفنا هذه الوصية وتزوجنا بزوجات غير مسيحيات نورط أنفسنا ونكدر كأس صفونا كل الحياة. وقد يحتج البعض قائلين إن زواج المؤمن بغير المؤمنة قد يؤدي إلى اجتذابها إلى الإيمان وإلى المحبة المتبادلة بينهما، فأجيب أنه في الغالب لا يبارك الرب أي عمل مبني على أساس المخالفة الصريحة لأمره المقدس وتكون النتيجة انجذاب الطرف المؤمن إلى غير المؤمن ووقوعه في محبة العالم والأشياء التي في العالم. وتكون ذريتهما بين بين – أي كذرية بني إسرائيل الذين تزوجوا بالاشدوديات يتكلمون باللسان اليهودي والأشدودي معاً – ويعجزون عن التكلم بلغة المدينة السماوية. وكم أفسد روح التعاون مع العالم شهادتنا للمسيح ومحى آثار المسيحية من بين عائلات كثيرة.

ففي هذه المسائل وما شاكلها من لمخالفات الشرعية قاوم نحميا اليهود، رؤساء وأشرافاً وعوام، وأصدر حكمه فيها على عجل ولم يهدأ له بال حتى فض الإشكال. لا يجوز أن نحمل هذه المعاملة من نحميا على محمل القساوة والجفاء لأنه كان محباً لقومه حباً مخلصاً ويود لو بذل حياته دونهم. وإنما عاملهم بهذه المعاملة لإنقاذهم من التعاليم المضلة. وأظن لو وجدت الكنيسة مصلحين كنحميا، فيهم الإقدام والشجاعة الأدبية لمقاومة كل هرطقة وبدعة، لكانت أحسن بكثير مما هي اليوم.

  • عدد الزيارات: 4905