الفصل التاسع: أخبار الأيام الأول
أخبار الأيام الأول والثاني يملآن الحقبة التي يتكلم عنها سفر الملوك الأول والثاني. إلا أن سفري أخبار الأيام يقتصران على ذكر ملكة يهوذا وبيت داود، ويعظمان قدرة عبادة الله في عيني الشعب.
سلسلة الأنساب: الإصحاحات التسعة من أخبار الأيام الأول تقتصر على سلسلة الأنساب. إن أهم ما يمكن استخلاصه من هذه الأنساب المطولة هو اختيار الله لسلالة دون الأخرى. الإصحاح العاشر يسرد علينا عاقبة شاول الوخيمة . والإصحاح الحادي عشر يبتدئ بمسح داود ملكاً على يهوذا في حبرون.
إحضار تابوت الرب إلى صهيون: بعد أن مُسح داود ملكاً افتتح أعماله بإحضار التابوت من بيت أبيناداب بجلعاد إلى صهيون. مضى على التابوت عشرون سنة في ذلك الموضع أهمل الشعب في أثنائها اجتماعهم مع الرب إلههم. قد أمر الله أن يحمل التابوت على أكتاف اللاويين عند نقله من مكان لآخر، أما هم فاستحسنوا طريقة أخرى. وكانت نتيجة المخالفة موتاً. وإهمال التابوت هذه المدة الطويلة، وهو واسطة الاجتماع بين الله وشعبه، رمز للحياة العاطلة من الشركة مع الرب. ثم أُخذ التابوت إلى بيت عوبيد أدوم الحثي وبقي هناك ثلاثة شهور، فبارك الرب ذلك البيت في هذه المدة. ولما رأى داود أن الرب بارك بيت عوبيد بسبب التابوت زال خوفه وسعي في إحضاره إلى جيل الزيتون في الخيمة التي أعدها له.
اعتبر داود بموت عزة الذي لمس التابوت وهو على العجلة، وأدرك وصية الرب الآمرة بحمل التابوت على أكتاف اللاويين لا على عجلة أو غيرها. من أجل ذلك حرص داود في هذه المرة أن ينقله حسبما أوصى الرب "ليس لأحد أن يحمل تابوت الله إلا اللاويين لأن الرب إنما اختارهم لحمل تابوت الله ولخدمته إلى الأبد. وجمع داود كل إسرائيل إلى أورشليم لأجل إصعاد تابوت الرب إلى مكانه الذي أعده له" منبهاً الأمة على خطورة المسألة، ثم رتب اللاويين والكهنة والمغنين كلا في محله المناسب، ونظم موكب التابوت على أتم نظام، وتوشح هو بثوب كتان نقي وجعل يرقص أمام التابوت بكل قوته (2 صم 6: 14) والرقص في المواكب عادة مرعية في الشرق يراد به إكرام صاحب الاحتفال. وكلما أتى الراقص بحركات غريبة وكان يحمل ذلك منه على محمل المبالغة في إكرام المزفوف. وعلى هذا القياس رقص داود إكراماً لتابوت الرب، ونظرت ميكال ابنة شاول الملك من نافذة بيتها، فرأت زوجها يرقص، فاحتقرته واستصغرت شأنه في قلبها. ولا عجب في ذلك لأن الغيرة والحماسة التي تخالج قلوب المؤمنين فتحملهم على مثل هذه الأعمال مخفية بواعثها عن أهل العالم فيقابلونها بالهزء والسخرية. وتجدر الإشارة إلى أن ابن داود نفسه تحمس لبيت الرب في حادثة طرده الباعة والصيارفة خارج أبوابه حتى نسب إليه تلاميذه هذا القول "غيرة بيتك أكلتني".
ذبحت الذبائح عند نقل التابوت من بيت عوبيد ادوم، ثم عند بثبه في الخيمة التي في جبل الزبتون وهو المكان المعد له. وإرجاع التابوت إلى مكانه مثال لإعادة الشركة مع الله. امام غطاء التابوت الملطخ بالدم أمكن القوم أن يقدموا ذبائح السلامة وهي تشتمل أطعمة يأكل منها المقدم في محضر الرب كأنه تصالح مع الله ونال رضاه فحسب أهلاً لضيافته يأكل ويشرب امامه. إن فرح الشعب بإعادة التابوت إليهم، وجلوسهم على الطعام لتناول خبز ولحم وخمر في بيت الرب، مثال لفرحنا بإعادة شركة الله إلينا وأكلنا من الخبز الذي نـزل من السماء أي المسيح.
وعد الله لداود: كانت أمنية داود ومشتهاه أن يبني هيكلاً للرب. ومن حيث أنه سفك دماء كثيرة منعه الله من بناء هيكله، ولكنه وعده أن يعطيه ابناً يكون رجل سلام وراحة يبني الهيكل ويثبت ملكه إلى الأبد.
امتثل داود لحكم الله بدون شكوى ولا تذمر، وشكر له تفضّله عليه بهذا الوعد. أما ابن داود الموعود به فهو "أعظم من سليمان" "وتسمِّينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية" (لوقا 1: 31 – 33).
حفظُ إسرائيل كأمة أمر موعود به إلى انقضاء الدهر "تدوم كدوام الشمس والقمر في السماء" (انظر أرميا 31: 35 – 37)، وكذلك يدوم كرسي داود كدوام السموات وعلى ذلك قوله "مرة حلفت بقدسي إني لا أكذب لداود. نسله إلى الدهر يكون وكرسيه كالشمس أمامي. مثل القمر يثبَّت إلى الدهر. والشاهد في السماء أمين" (مز 89: 35 – 37 وانظر أيضاً عد 3 و 4). يجلس ابن داود على عرش أبيه في أورشليم، ويسوع المسيح هو الشخص الوحيد الباقي حياً من نسل داود والوارث الشرعي لعرشه.
جبل المريّا: الحادثة الثانية من تاريخ بناء الهيكل نتجت عن خطية داود في إحصاء الشعب. وحُسب الإحصاء خطية له لسببين الأول أنه تعظم لاتساع سلطانه، والثاني أنه لم يذكر خبراً عن الضريبة التي أمر بها الرب في شريعة موسى عند كل إحصاء. وعلى ذلك قوله "إذا أخذت كمية بني إسرائيل بحسب المعدودين منهم يعطون كل واحد فدية نفسه للرب عندما تعدهم" (خر 30: 12). وقيمة هذه الضريبة نصف شاقل عن كل إنسان علامة أنهم خاصة الرب وليسوا لأنفسهم. فلما أحصى داود النفوس وأهمل الوصية وقع فيهم الوباء وحصد منهم جمهوراً عظيماً واستقر أخيراً في بيدر أرنان اليبوسي على جبل المريّا. فاشترى داود ذلك البيدر بخمسين شاقل فضة، وبنى فيه مذبحاً للرب وقدم عليه المحرقات وذبائح السلامة ودعا هناك باسم الرب فأجابه الرب بنار من السماء على المذبح. وفي هذا المكان بُني هيكل سليمان. فكما أن خيمة الاجتماع قامت على قواعد من الفضة جُمعت من ضريبة الفدية، كذلك قام هيكل سليمان على بيدر أرنان اليبوسي المقتنى من مال الفدية أيضاً. وكان جبل المريّا الموضع الذي قدم فيه إبراهيم ابنه إسحق ذبيحة. كل هذه الظروف لم تتوافق بالصدفة بل بتعيين الله حسب الخطة التي رسمها للفداء.
اشترى داود أيضاً المقام الذي ببيدر أرنان المذكور مع الملك كله بستماية شاقل ذهب. وكانت هذه المقامات بقاعاً مقدسة عند أهل كنعان أشار إليها موسى في سفر التثنية (12: 2 و 3) وهي سرادقات للمرتفعات المذكورة بكثرة في الأسفار المقدسة. والمقامات كثيرة في أيامنا الحاضرة، ويربح أهلها أرباحاً طائلة من الزوار. ولعله لهذا السبب اشترى داود ذلك الملك بمبلغ عظيم بستماية شاقل ذهب في حين أنه اشترى البيدر بخمسين شاقلاً من الفضة. والمظنون أنهم اتخذوا هذه البقعة مقاماً لأن فيها قدم إبراهيم ابنه اسحق.
في سفر صموئيل الثاني (24: 24) نجد أن داود اشترى الثيران والبيدر بخمسين شاقل فضة. وفي سفر أخبار الأيام الأول (21: 25) نعلم أنه اشترى المكان بستمائة شاقل ذهب. لا إشكال ولا تناقض بين الروايتين لأن الخمسين شاقل فضة ثمن للثيران وأجرة للبيدر لأجل بناء المذبح وإصعاده المحرقات دفعة واحدة وهذا كان كل قصد الملك في بادئ الأمر. إلا أنه لما قدم الذبائح وصلى وأجابه الرب بنار من السماء غيّر فكره وأراد أن يشتري البيدر والمقام الذي فيه ملكاً دائماً بستمائة شاقل ذهب ليقيم عليه الهيكل.
تحضيرات داود: "سليمان ابني صغير وغض والبيت الذي يبني للرب يكون عظيماً جداً في الاسم والمجد في جميع الأراضي".
"فهيأ داود كثيراً قبل وفاته"، وقدم رؤساء الأسباط والشعب تقدماتهم "وفرح الشعب بانتدابهم لأنهم بقلب كامل انتدبوا للرب. وداود الملك أيضاً فرح فرحاً عظيماً" (1 أخبار الأيام 29: 9). ومما يستحق الاعتبار في هذا المقام أن ملكنا يسر ويفرح بعطايانا الاختيارية سواء كانت نفوسنا أو أولادنا الأعزاء أو أموالنا الخ. ويُظهر داود بتسبيحته وشكره حالة القلب المستقيم كيف يعترف بأن كل شيء لله. قال داود "ولكن من أنا ومن هو شعبي حتى نستطيع أن ننتدب هكذا. لأن منك الجميع ومن يديك أعطيناك" (1 أخبار الأيام 29: 14).
- عدد الزيارات: 3812