Skip to main content

الفصل الثامن: سفر الملوك الثاني

القوة التي تؤهل للخدمة:طلي أليشع بإلحاح من إيليا أن يباركه بأن يجعل فيه نصيب اثنين من روحه. لم يكن قصده أن يحوز على ضعف قوة إيليا بل أن يرث من قوته ما يرثه البكر من أبيه أي يصيب اثنين من إخوته. ويكون الحاصل أنه طلب النبوة وطلب القوة التي تؤهله للقيام بواجباتها. فإن تأملنا في المسألة تلتبس علينا حقيقة هذه الحادثة هل هي في العهد الجديد أم في العهد القديم، لأنا نرى سيداً صاعداً إلى السماء وتلميذاً يشخص إليه وقوة منحدرة من العلاء "ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً. ليس مسيحيّ معفى من عمل هذه الدعوة. يحتاج يسوع إلى شهود في كل زمان ومكان ولا يمكننا تأدية الشهادة له على الوجه المطلوب إلا باستمداد قوته. "صعّبت السؤال":

هنا شرطان (1) تسليم كلي. عندما دعي أليشع المرة الأولى امتثل الدعوة تماماً. والآن لم ينثن عزمه ولا خاب أمله إذ رأى سيده يفارقه في بضع ساعات بل ثبت في قصده لأنه حسب النفقة. واعلم أن إتّباع المسيح ليس بالأمر الهين بل أمر صعب وخطير للغاية، ولا يخلو من شدائد وأهوال. من أجل ذلك قبل أن يدعو أحداً يشترط عليه أن يجلس أولاً ويحسب النفقة لأنه لا بد له أن يعبر وراءه نهر الأردن أي أن يموت عن حياته الذاتية. هذه هي معمودية الروح: موت مع المسيح. والشرط الثاني هو الإيمان "فإن رأيتني أوخذ منك يكون لك كذلك". آمن أليشع بهذا الوعد ورفع عينيه إلى سيده منتظراً إتمام ما وعد به. وكانت النتيجة أنه شق ثيابه، أي لم يعد بعد يركن إلى نفسه، ورفع رداء إيليا الذي سقط عنه، وجربه في الحال فعمل مثل أعمال إيليا. "من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً". وكما أن الأنبياء علموا بالبركة التي حلت على أليشع هكذا ينبغي أن يعلم الناس بالقوة التي تحل علينا من قبل الرب.

الملح: إن إبراء مياه أريحا من ينابيعها بإلقاء طبق الملح فيها قد أثر في القوم في ذلك الزمن، وهو لا يخلو مع عظيم الفائدة لنا لأنه يشير على قوة الإنجيل الذي يغير الأعمال البشرية من مصادرها الأصلية أي يغير القلوب. يسوع أتى بهذه القوة المصلحة الواهبة حياة للعالم. ولكن ينبغي أن نعلم أن كل قلب متجدد "كطبق الملح" يصلح قلوب الآخرين. قال المسيح "أنتم ملح الأرض".

جباباً: إن معجزة المياه التي جاءت لسد حاجة جيوش إسرائيل ويهوذا وأدوم الذين اتحدوا معاً لرد تمرد الموآبين تعلمنا كيف يأتي الروح ويملأ فراغ احتياجاتنا. لما كانت يد الرب على أليشع قال "اجعلوا هذا الوادي جباباً جباباً". استلفتهم النبي إلى الوادي لأنه مكان منخفض يمثل التواضع: أنهار الله تفيض في الأودية أي القلوب المتواضعة، والماء الطبيعي يتطلب الوسط الأدنى. وعلاوة على ذلك فلا بد من حفر الجباب في الوادي كأن التواضع الطبيعي لا يفي بالمقصود بل يحتاج إلى عملية الحفر. فإن كنا نريد أن نمتلئ من نعمة الله فعلينا أن ندعه يحفر في قلوبنا جباباً جباباً تمتلئ وجداول تفيض إلى قلوب الآخرين: "لأنه هكذا قال الرب لا ترون ريحاً ولا ترون مطراً وهذا الوادي يمتلئ ماء فتشربون أنتم وماشيتكم وبهائمكم". لا صوت سمع ولا حركة شوشت ومع ذلك ملأ الماء الوادي؛ فما أشبه ذلك بطريقة الامتلاء بالروح!

وفي الصباح عند إصعاد التقدمة إذا مياه آتية عن طريق أدوم فامتلأت الأرض مياهاً. نرى هنا مرة أخرى أن بركات الله مترتبة على إصعاد تقدمة المسيح.

دهنة الزيت: لنا في تكثير دهنة الزيت عند الأرملة مثل آخر لعمل الروح، مثل يعلمنا أننا من أنفسنا فارغون. لم يكن للأرملة المسكينة شيء في بيتها تفي به الدين الذي عليها سوى دهنة زيت. وكذلك الحال معنا فإننا مديونون ولا نستطيع الوفاء: مديونون لنعيش حسب الروح، مديونون أن نحب بعضنا بعضاً، مديونون أن نكرز بالإنجيل لليونانيين والبرابرة للحكماء والجهلاء. وبالجملة علينا ديون متكاثرة لا قدرة لنا على وفائها حسب حالتنا الطبيعية. لكن الزيت – روح الله – قادر على وفائها. فبالإيمان نطيع أمر الرب ونبتدئ نصب هذا الزيت في الأواني الفارغة التي حولنا، والرب يمدنا فتمتلئ الأواني والزيت لا يفرغ. قال النبي لصاحبة دهنة الزيت بعد ما ملأت بها الأوعية التي استخضرتها "اذهبي بيعي الزيت وأوفي دينك وعيشي أنت وبنوك بما بقي". وعليه فقوة الروح تفي بحاجة الخدمة وحاجة الحياة أيضاً.

ربح النفس: إقامة أليشع لابن الشونمية من الموت يعلمنا أموراً مهمة عن الكرازة بالإنجيل. كان لجيحزي خادم أليشع صورة الكرازة بدون قوتها فأتى بعصا النبي وطرحها على الصبي الميت فلم يحدث شيء. أما أليشع فكان له سر القوة "فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما وصلى إلى الرب ثم صعد واضطجع فوق الصبي ووضع فمه على فمه وعينيه على عينيه ويديه على يديه وتمدد عليه فسخن جسد الولد". نرى في عمل أليشع سر اعتماده على الله، وفاعلية الصلاة، وقوة النفوذ الشخصي. ثم لنا في عمله مثال للنفقة التي أنفقها على ربح النفس لأنه التصق بالميت حتى كأنه يفيض فيه من حياته أو يعطيه نفس حياته. وهذه التضحية توافق إحساسات الرسول بولس ويدل على ذلك قوله "كنا نرضى أن نعطيكم لا إنجيل الله فقط بل أنفسنا أيضاً لأنكم صْرتم محبوبين إلينا" (1 تس 2: 8).

النفوذ المسيحي: تنقية السليقة من العنصر المميت بإضافة بعض الدقيق إليها مثال لتأثير الديانة المسيحية في الوسط الذي تنتشر فيه فتطهر آداب القوم من أدران الفساد، وتمحص حديثهم من الألفاظ القبيحة، وذلك بإدخال مبدأ كلي الصلاح إليهم.

في تكثير أرغفة الشعير تذكرة للمعجزة التي تمت على ساحل بحر الجليل.

نعمان: أتينا هنا إلى قصة إبراء نعمان السرياني التي تصور لنا بشارة الإنجيل بصورة مصغرة. كان نعمان رجلاً عظيماً شريفاً ذا كرم واسع وصيت طائر في الحروب والفتوحات لكنه كان أبرص. توجدْ هذه الكلمات "لكن" في حياة كل امرئ لم يأت إلى يسوع ليطهره "إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب". مهما يكن برص الخطية طفيفاً في ظاهره فصاحبه واقع لا محالة تحت حكم البرص بأكمل معناه "نجس تماماً" "لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرماً في الكل". قال الله "لا فرق إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله". تسع درجات من التواضع نـزل إليها نعمان حتى نال بركة الله: (أولاً) قبل شهادة خادمة أسيرة. (ثانياً) حوّل نظره عن ملك إسرائيل الذي كان يعلق به أمل الشفاء. (ثالثاً) حوّل نظره عن المال فلم يعلق عليه أهمية. (رابعاً) سلم أنه يذهب إلى منـزل حقير. (خامساً) ومع ذلك لم يقابله النبي بنفسه ليشفيه بل أرسل إليه كلمة مع خادمه. (سادساً) لم تكن الكلمة التي أرسلها إليه ذات أهمية لأنه أمره أن يغتسل في نهر الأردن، وهو بالمقابلة مع أنهر بلاده، لا يستحق الاعتبار. (سابعاً) التزم أن يقبل مشورة خدامه. (ثامناً) أطاع الأمر ونـزل إلى النهر. (تاسعاً) صار كطفل. وبعد نـزوله درجات التواضع التسع طهر من برصه.

قبل أن يطهر نعمان كان يقول "أَفتكر" أما الآن فيقدر أن يقول "اعلم". فبمثل هذه المعاملة يحولنا الله عن آرائنا في طلب الخلاص ويأتي بنا إلى صليب المسيح. قد يتفق أن نسمع بشارة الخلاص من مصدر حقير. ولا نقدر أن نستحق الخلاص بأعمالنا الحسنة. ليس إلا واسطة واحدة للخلاص "دم يسوع المسيح ابنه (ابن الله) يطهرنا من كل خطية".

ضياع الفأس: استخرج بعضهم درساً من ضياع الفأس فقالوا: "قد يحدث أننا نفقد الفأس الذي نعمل به في الحياة – أي قوة الروح – بأحد هذه الأسباب: عدم الطاعة، عدم الانفصال عن المعاشرة الردية، إهمال المطالعة في الكتاب المقدس، إهمال الشركة مع الرب، قلة الإيمان". فإن كنت أضعت الفأس فعد من حيث أتيت وفتش عنه حيث سقط منك فتجده هناك لا في موضع آخر. "اذكر من أين سقطت وتب". فإن كنت أضعته بسبب العصيان فارجع إلى الطاعة وأنت تجده هناك. لا تضيع وقتك باطلاً في العمل بيد الفأس بدون الحديد فإنك تتعب كثيراً من تكرار الضرب على غير طائل. إن كنت حظيت مرة بالامتلاك من الروح، وذقت تلك السعادة، ثم فقدتها فاعترف بخطيتك وتب عنها واطلب الامتلاء من جديد من ملء الله الذي يملأ الكل في الكل. والآن ننصحك ونناشدك باسم يسوع أن لا تعمل في الحياة بدون امتلاء من الروح.

المركبات النارية: قضى إيليا أيامه شاعراً بالحضرة الإلهية، وكان ذلك سر قوته. لما أحاط به وبغلامه جيش الآراميين في مدينة دوثان قال له غلامه "آه يا سيدي كيف نعمل؟ قال له لا تخف لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم. وصلى أليشع وقال: يا رب افتح عينيه فيبصر. ففتح الرب عيني الغلام فأبصر، وإذا الجبل مملوء خيلاً ومركبات نار حول أليشع. فإن كنا نحن نعاشر الرب على الدوام كأليشع يكون لحياتنا قوة عظيمة هادئة.

الشهادة: الرجال البرص الأربعة الذين بشروا أهل السامرة، الذين في نـزاع الموت جوعاً، بالمؤونة الكثيرة التي وجدوها في خيام الأعداء هم مثال لما ينبغي لنا أن نفعله نحن معاشر المسيحيين. فإن اكتشفنا غنى المسيح الذي لا يستقصى وتمتعنا به، فعلينا أن نذيع الخبر لا أن نكتمه. علينا أن نعمل كما عمل الرجال البرص "الآن ندخل ونخبر بيت الملك".

الصداقة: "هل قلبك مستقيم". قال ياهو ليهوناداب بن ركاب: "هل قلبك مستقيم نظير قلبي مع قلبك. فقال يهوناداب نعم ونعم هات يدك. فأعطاه يده فأصعده إليه في المركبة". هكذا حينما يرانا ملكنا متعبين في أسفارنا الروحية يسألنا مثل هذا السؤال "هل قلبك مستقيم نحوي" "هل تحبني أكثر من هؤلاء"؟ فإن أجبته: "نعم أنت تعلم يا رب إني احبك" يمد إليك يده ويصعدك ويجلسك معه في السمويات ويركبنا معه مركبة قوته. فنرى هنا ذات الفكر الذي في سفر الأيام "لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه" (أخبار الأيام الثاني 16: 9).

(تنبيه) تاريخ يهوذا مرتبط بتاريخ الهيكل. فمن الصواب أن نطلع عليه في سفر الأيام الذي يجعل مسألة الهيكل موضوع كلامه.

  • عدد الزيارات: 4387