Skip to main content

تأسيس الكنيسة المسيحية وأسباب تكون الطوائف

الباب الثامن: الحجج الخاصة بتوقف الخلاص على الانضمام إلى كنيسة الكهنة الطقسيين

كنا نودّ أن نكتفي بما ذكرناه عن مهام الكهنوت الطقسي، لكن نظراً لأن رجاله ذهبوا إلى أنهم، بمعتقداتهم الخاصة، هم الكنيسة الرسولية، وأن كل الخارجين عن هذه الكنيسة لا خلاص لهم عند الله، مهما كان إيمانهم، رأينا من الواجب أن نتحدث قليلاً عن نشأة المسيحية والأدوار التي مرّت بها، وأن نردّ بعد ذلك على الاعتراضات الخاصة بهذا الموضوع:

1- معنى كلمة "الكنيسة": إن هذه الكلمة مشتقّة من كلمة "كنيست" العبرية، ومعناها جماعة من الناس تربطهم رابطة ما. وقد استعملها استفانوس في خطابه الشهير عن جماعة بني إسرائيل قديماً (أعمال 7: 38) ؛ لكنها استعملت بعد ذلك في العهد الجديد للدلالة على جماعة المؤمنين الحقيقيين بالمسيح دون غيرهم. وهذه الكنيسة من حيث كونها دائرة عمل الله الروحي، تدعى فلاحته (1كورنثوس 3: 9)، ومن حيث كونها الدائرة التي يحلّ فيها روحياً، تدعى هيكله (1كورنثوس 3: 16)، وبيته (1تيموثاوس 3: 15)، ومسكنه (أفسس 2: 22) … ومن حيث مكانتها في نظره، بالنسبة إلى غيرها من الجماعات الدينية، هي عمود الحقّ وقاعدته (1تيموثاوس 3: 15). ومن حيث علاقتها بالمسيح، تدعى جسده (أفسس 1: 22و23). ومن حيث محبة المسيح لها، تدعى عروسه (أفسس 5: 25-27، 2كورنثوس 11: 2). ومن ثم فالكنيسة ليست هي البناء الذي يجتمع فيه المؤمنون للعبادة، وليست هي الطقوس والعقائد الدينية، وليست هي جماعة رجال الدين في أي طائفة من الطوائف المسيحية، بل هي المؤمنون الحقيقيون أنفسهم. فقد قال الرسول "أحبّ المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها" (أفسس 5: 25). والمسيح لم يحب جماعة خاصة من الناس وأسلم نفسه لأجلها، بل أحبّ جميع المؤمنين الحقيقيين في العالم وأسلم نفسه لأجلهم. ولذلك تسند الكنيسة إلى المسيح (متى 16: 18) أو إلى الله (1كورنثوس 10: 18)، وليس إلى بشر أو ملائكة.

2- تأسيس الكنيسة المسيحية: بالرجوع إلى الكتاب المقدس، يتّضح لنا أن الكنيسة المسيحية تأسست في يوم الخمسين من قيامة المسيح، أو بالحري عند حلول الروح القدس على رسله، وعلى كل من كان معهم من المؤمنين (أعمال 1: 15). إذ تجلّى على أثر حلوله عليهم ترابطهم الشديد معاً كأخوة أحباء، وذلك في الاجتماع بنفس واحدة باسم المسيح للعبادة والصلاة، وفي التعاون على نشر إنجيله في كل مكان، وأيضاً في الاهتمام بمدّ يد المعونة للمحتاجين منهم، وذلك بكل محبة وإخلاص (أعمال 2: 42-47).

وعن طريق خدمات الرسل الشفوية والتحريرية، آمن كثيرون من اليهود والأمم بالمسيح إيماناً حقيقياً في جهات متفرّقة من العالم، وساروا طبقاً لما تلقوه من الرسل، من جهة العبادة والخدمة والسلوك. فمن ثم وإن كانت قد نشأت كنائس في بلاد متعددة، لكن هذه الكنائس كانت كنيسة الله الواحدة في إيمانها وعبادتها ومسلكها. وقد أشار إلى وحدة الكنيسة أغناطيوس في القرن الأول، فقال: "إنها كنيسة واحدة في العالم أجمع"، كما أشار إليها ترتوليانوس في القرن الثالث، فقال:
" إن بيت الرب الروحاني واحد" (تاريخ الآباء في القرون الثلاثة الأولى ص23و145). وكذلك القانون المعروف بقانون الإيمان، فقد "نؤمن بكنيسة واحدة جامعة رسولية".

3- أسباب انقسام المسيحيين: ولو كان رجال الدين قد حافظوا بعد العصر الرسولي على السلوك بتواضع ووداعة، وظلوا متمسكين بكلمة الله دون سواها، لما حدث بينهم اختلاف ما، ولبقيت الكنيسة إلى الآن واحدة، تربط أفرادها في كل أنحاء العالم روابط المحبة الخالصة، كما كانت الحال من قبل. غير أن رجال الدين لم يحافظوا بكل أسف على وحدة الكنيسة أو على روابط المحبة بين أفرادها، لأنهم منذ تولوا رياسة اجتماعات العبادة، أخذ كل فريق منهم في تشكيلها حسب ما استحسنه من نظم خاصة، كما أخذ في وضع عقائد دينية تتفق مع ما ذهب إليه من تفسير لبعض الآيات الكتابية، أو ما عرفه من الآراء الفلسفية أو اليهودية. وبذلك تكونت طوائف مختلفة لكل منها رئيس خاص.

مما تقدّم يتّضح لنا أن ما يطلق عليها الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية، و … هي مجرّد طوائف دينية تجتمع كل منها على أساس عقائد خاصة بها، وتحت رياسة أشخاص معينين فيها. وما الاسم الذي استحسنت كل منها أن تطلقه على نفسها إلاّ اسم بشري بحت. وقد ينطبق هذا الاسم على عقائدها وتصرّفاتها أو لا ينطبق - ومع كل ففي كل طائفة من هذه الطوائف يوجد مؤمنون بالحق، كما يوجد مؤمنون بالاسم. فالمؤمنون بالحق فيها جميعاً هم الكنيسة الحقيقية أمام الله ([1]). أما المؤمنون بالاسم فليسوا من ضمن هذه الكنيسة، حتى إذا كانوا من أعظم رجال الدين وأشهرهم بيننا ـ ومن ثم فالقول [إن هذه الكنيسة هي الحقيقية، وإن تلك ليست هي الحقيقية ] هو قول بشري لا أساس له في الكتاب المقدس، إذ أن الكنيسة الحقيقية هي المؤمنون الحقيقيون في كل العالم مهما كانت طوائفهم أو أجناسهم كما ذكرنا.

4- نسبة الكنيسة إلى المؤمنين: ذكرنا أن المؤمنين الحقيقيين هم الكنيسة نفسها. ولذلك من الخطأ أن يدعو بعض المؤمنين الكنيسة التي ينتمون إليها، أماً لهم. لأن الذي ولدنا ولادة روحية هو الله. فمكتوب "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي رحمته الكثيرة ولدنا ثانيةً" (1بطرس 1: 3). كما أن الواسطة التي استخدمها الله لولادتنا هذه، هي كلمته. فمكتوب أنه "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يعقوب 1: 18)، كما ذكرنا في الباب الثالث. ولذلك تكون علاقتنا بالله أقوى من علاقتنا بالطائفة التي ننتمي إليها، ويكون تأثّرنا بكلمته التي ولدنا بها أعظم من تأثرنا بأقوال قادة هذه الطوائف، وبناءً عليه، إذا كان لنا أب وأم من الناحية الروحية، فالله هو أبونا، وكلمته هي أمنا، لأنها هي الواسطة التي بها ولدنا من الله، وهي الواسطة لتغذية نفوسنا طالما نحن في العالم الحاضر (1بطرس 2:2).


[1] - وطبعاً، ما عدا المنتمين إلى الطوائف التي تنكر لاهوت المسيح وكفاية كفارته، وخلود النفس، وغير ذلك من الحقائق الأساسية في الكتاب المقدس.

  • عدد الزيارات: 6957