Skip to main content

الحجج القائلة بوضع الأيدي لإعطاء الروح القدس ومواهبه والردّ عليها

1- [ إن الكتاب المقدس يعلن أن الروح القدس لم يكن يحل على أحد إلاّ بواسطة وضع أيدي الرسل، كما حدث مع التلاميذ الذين كانوا في أفسس والسامرة (أعمال 8: 14-17، 19: 3-7) ـ وهذا دليل على وجوب وجود خلفاء للرسل، للقيام بهذه المهمة الجليلة ].

الرد: (أ) فضلاً عن أنه ليس هناك مجال للخلافة الرسولية كما ذكرنا فيما سلف، نقول: إن تلاميذ أفسس لم يكونوا، كما يتّضح من (أعمال 19: 3-4)، مؤمنين بالمسيح من جهة كونه ابن الله الذي أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا (رومية 4: 25)، بل كانوا مؤمنين بشخصه كونه الملك الآتي إلى العالم (متى 3: 2)، وذلك بناءً على ما تعلّموه من يوحنا المعمدان.

ومن ثم كانوا معتمدين بمعموديته وحدها، وبالتبعية غير عارفين بشيء عن الروح القدس ([1])، الأمر الذي حرمهم من حلوله عليهم من قبل، ولما آمنوا بالمسيح رباً ومخلّصاً بواسطة كرازة بولس الرسول، كان من الممكن أن يحلّ عليهم الروح القدس في الحال أسوةً بغيرهم من المؤمنين (أعمال 10: 43). لكن لو كان قد حدث لك، لكان من المحتمل أن يظل يوحنا المعمدان مالكاً على قلوبهم، إذ أنهم كانوا يغارون على سمعته ويفضلونه على المسيح كثيراً (يوحنا 3: 26). إنما بقبولهم وضع يدي بولس الرسول (أحد أتباع المسيح) عليهم، أثبتوا أنهم انفصلوا عن يوحنا ، واتّصلوا بالمسيح عن طريق رسوله هذا، ولذلك حلّ الروح القدس عليهم مثل غيرهم من المؤمنين ـ ومن هذا يتضح لنا أن السبب في عدم حلول الروح القدس مباشرةً على تلاميذ أفسس، ليس له نظير الآن، ومن ثم ليس هناك مجال للظن بوجوب وجود خلفاء للرسل لكي بوضع أيديهم على المؤمنين، يحل الروح القدس عليهم.

(ب) أما تلاميذ السامرة، فكانوا يحجمون عن الاختلاط بالمسيحيين الذين في اليهودية، بسبب العداوة القديمة التي كانت بين اليهود وبين السامريين (يوحنا 4: 9). ولو كان الروح القدس حل عليهم بمجرد إيمانهم بالمسيح بواسطة كرازة فيلبس كما كان يحل على غيرهم، لكان من المحتمل أن يظلوا في عزلة عن المسيحيين الذين في اليهودية [الأمر الذي يتعارض مع هدف الروح القدس من سكناه في القلوب، ألا وهو ربط جميع المؤمنين الحقيقيين في كل البلاد بالمسيح كرأسهم جميعاً، وببعضهم البعض كأعضاء جسده الواحد (1كورنثوس 12: 13-27) ]، ولكان من المحتمل أيضاً أن يتخذوا بعد ذلك فيلبس المذكور زعيماً دينياً لهم، لا سيّما وأنه لم يكن من اليهودية بل كان من قيصرية، التي هي أقرب البلاد إلى السامرة بلدتهم. ولكن عندما أحنوا رؤوسهم تحت يدي بطرس الرسول ورفيقه يوحنا اللذين من اليهودية، أعلنوا أنهم يعتبرون أنفسهم واحداً مع المسيحيين الذين في اليهودية، وبالتبعية مع المسيحيين الذين في غيرها من البلدان، ومن ثم حلّ عليهم الروح القدس كما حلّ على تلاميذ أفسس.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن الرسولين المذكورين صليا، لا لكي يعطي الله الروح القدس بواسطتهما للسامريين، بل لكي يقبلوا هم هذا الروح، أو بالحري لكي يقبلوه منه تعالى (أعمال 8: 14-15)، اتّضح لنا أن السبب في عدم حلول الروح القدس مباشرةً عليهم عند إيمانهم بالمسيح بواسطة كرازة فيلبس، هو العداوة التي كانت في نفوسهم من جهة المؤمنين الذين في اليهودية كما ذكرنا ـ وهذا السبب ليس له نظير أيضاً في الوقت الحاضر، ومن ثم ليس هناك أيضاً مجال للظن بوجوب وجود خلفاء للرسل، لكي بوضع أيديهم على المؤمنين يحل الروح القدس عليهم.

فضلاً عما تقدم فإننا إذا وضعنا أمامنا أن الرب كان قد أعطى بطرس الرسول للسبب الذي ذكرناه في الباب السابق، امتياز فتح باب ملكوت السموات، أي باب الدخول في دائرة الإيمان المسيحي على الأرض، وذلك لثلاث فئات (الأولى) السامريين الذين كانت ديانتهم خليطاً من اليهودية والوثنية، (الثانية) اليهود الذين كانوا يعبدون الله وفق شريعته التي أعطاها لموسى النبي، (الثالثة) الأمم الذين كانوا يعبدون الأوثان ولم تكن لهم علاقة باليهود على الإطلاق (أعمال 1: 8)، اتّضح لنا أن وجود هذا الرسول بين السامريين لحلول الروح القدس عليهم كان أمراً ضرورياً في أول الأمر، وذلك بناءً على وعد الرب السابق له ـ أما وقد فتح الرسول المذكور باب الملكوت لكل الناس على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم، فإن الروح القدس يحل بدون وضع الأيدي، وذلك على كل من يتوب منهم ويؤمن إيماناً حقيقياً (أعمال 2: 38).

2- [ إن السبب في عدم حلول الروح القدس على أهل السامرة، يرجع إلى أنهم كانوا قد آمنوا بالمسيح بواسطة كرازة فيلبس. وفيلبس هذا كان مبشراً لا يملك السلطة الرسولية في وضع اليد التي يحل بها الروح القدس، الأمر الذي يدل على وجوب وجود خلفاء للرسل، حتى بواسطة وضع أيديهم على الناس في كل العصور، يحل هذا الروح عليهم ].

 

الرد: فضلاً عن أن المسيح لم يأمر تلاميذه أن يقيموا خلفاء لهم، ولا هم أقاموا أمثال هؤلاء الخلفاء. وفضلاً عن أن هذه الحجة (إن جاز أن تدعى حجة) تجعل الأساقفة لدى القائلين بها أفضل من فيلبس المبشّر، الأمر الذي لا يؤيده وحي أو اختبار، نقول:

(أ) إن الروح القدس حلّ على التلاميذ دون أن يضع المسيح يده عليهم، كما أنه لم يأمرهم بوضع أيديهم على المؤمنين لكي يحل هذا الروح عليهم، ولذلك نرى أنه عندما آمن كرنيليوس والذين كانوا معه بما قال بطرس الرسول لهم عن فداء المسيح وقيامته من الأموات، حلّ عليهم الروح القدس في الحال (أعمال 10: 42) وهذا دليل على أنه يحل بمجرد الإيمان بالمسيح، أو بالحري الإيمان الحقيقي به، وليس بواسطة وضع أيدي فريق من الناس مهما كان شأنهم.

(ب) كما أننا إذا وضعنا أمامنا (أولاً) أن فيلبس المبشّر الذي نحن بصدده بشّر وزير ملكة الحبشة بالمسيح (أعمال 8: 39)، ولما آمن هذا واعتمد، ظهرت عليه في الحال علامات سكنى الروح القدس فيه. إذ سجل الوحي عنه أنه فرح بالخلاص. والفرح بالخلاص هو أحد نتائج حلول الروح القدس (1تسالونيكي 1: 6). (ثانياً) أن هذا الوزير كان ذاهباً إلى بلاد بعيدة ليس بها رسول يمكن بوضع يديه على هذا الوزير، أن يحل الروح القدس عليه هناك، إن كان الروح القدس لا يحل إلاّ بوضع الأيدي كما يقال. (ثالثاً) وأن هذا الوزير أيضاً (كما ينبئنا التاريخ) نادى بالمسيح بين الوثنيين في بلاده وربح كثيرين منهم له، الأمر الذي لا يستطيع القيام به إلاّ من يسكن فيه الروح القدس ـ اتّضح لنا أن الروح القدس لا بد أنه حل على هذا الرجل بمجرّد إيمانه بواسطة كرازة فيلبس، ومن ثم لا يكون هناك مجال للحجة التي أمامنا كما ذكرنا.

 

3- [ إن الرسل بوضعهم الأيدي على استفانوس، أخذ يصنع عجائب ومعجزات في الشعب (أعمال 6: 5-8). وأن حنانيا بوضع يديه على شاول أبصر وامتلأ بالروح القدس وصار رسولاً (أعمال 9: 17)، الأمر الذي يدل على توقف حلول الروح القدس ومواهبه على وضع الأيدي ].

الرد: فضلاً عن أن الرسل حصلوا على الروح القدس ومواهبه، هم وغيرهم من المؤمنين الحقيقيين بدون وضع الأيدي كما ذكرنا (أعمال 2: 40). وفضلاً عن أن الكتاب المقدس يعلن أن الروح القدس يسكن في القلوب بمجرّد الإيمان الحقيقي([2]) (أعمال 10: 43 و 44) ـ فقد قال المسيح عنه "من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يوحنا 7: 38-39). وقال بولس الرسول للمؤمنين (أي بمجرّد أن آمنتم) ختمتم بروح الموعد القدوس" (أفسس 1: 14). كما قال إننا "ننال بالإيمان موعد الروح" (غلاطية 3: 14)، الأمر الذي لا يدع مجالاً للحجة التي أمامنا نقول:

(أ) إن الوحي سجل عن استفانوس أنه كان (قبل وضع الأيدي عليه) رجلاً مملوءً بالإيمان والروح القدس. وسجل عنه بعد وضع الأيدي عليه: "فإذ كان مملوءاً إيماناً وقوة" (أعمال 6: 4 و8). وهذا دليل على أنه لم يحصل على الروح القدس ومواهبه الروحية، بواسطة وضع الأيدي عليه.

أما الغرض من وضع الأيدي عليه الوارد في (أعمال 6: 6) فكان لتعيينه شماساً، وذلك حتى لا يعترض عليه أحد عند اتصاله بالعائلات الفقيرة، وتوزيع المساعدات المالية عليها، الذي هو العمل الرئيسي للشماس في الكتاب المقدس.

(ب) إن حنانيا لم يكن واحداً من الاثني عشر رسولاً، وليس هناك دليل أيضاً على أنه كان واحداً من السبعين رسولاً، ولذلك فالراجح أنه كان فقط واحداً من المؤمنين أو الأنبياء القدامى. ومن ثم لم يكن ليمنح بولس الرسول المواهب الرسولية، لأن النبي أقل مقاماً من الرسول. فإذا أضفنا إلى ذلك أن بولس الرسول أعلن أنه ليس رسولاً من إنسان، بل من الله (غلاطية 1:1)، اتّضح لنا أن حنانيا لم يضع يديه على بولس لكي يجعله رسولاً، إنما لكي يبصر فقط، كما يتّضح من قول المسيح لحنانيا عنه "هوذا يصلي. وقد رأى في رؤيا رجلاً اسمه حنانيا داخلاً وواضعاً يديه عليه لكي يبصر" (أعمال 9: 12)، دون أية إشارة إلى صيرورته رسولاً. أما من جهة امتلاء بولس بالروح القدس وقتئذٍ (أو بالحري سكنى هذا الروح فيه)، فيرجع إلى توبته وإيمانه، اللذين أعلنهما جهاراً في الاعتماد باسم الرب يسوع، فمكتوب "توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس" (أعمال 2: 38).

وإذا كان الأمر كذلك، يكون المراد بقول حنانيا لشاول الذي صار بولس فيما بعد: "قد أرسلني الربّ يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئت فيه، لكي تبصر وتمتلئ من الروح القدس"، أن إبصار شاول متعلّق بوضع يدي حنانيا عليه، وأن امتلاءه بعد ذلك بالروح القدس متعلّق بإيمانه بالمسيح إيماناً حقيقياً - وغني عن البيان أن شفاء عيني شاول، كأي شفاء آخر، كان من الممكن أن يتم بدون وضع يد أحد (كما كان يحدث بواسطة المسيح ورسله مرات متعددة)، لكن اقتضى الأمر أن يضع حنانيا يده على شاول بالذات، لأنه كان من الواجب أن يحني هذا رأسه التي كان يشمخ بها من قبل على المسيح وذلك أمام أحد أتباعه، حتى يعلم أن شفاءه لم يكن مصادفة، بل كان بواسطة المسيح العامل بقوته في حنانيا هذا، كما في غيره من المؤمنين وقتئذٍ.

4- [قال بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس "لا تهمل الموهبة التي فيك المعطاة لك بالبنوّة، مع وضع أيدي المشيخة" (1تيموثاوس 4: 14). وقال أيضاً له "أذكّرك أن تضرم موهبة الله التي فيك بوضع يدي" (2تيموثاوس 1: 6). وأيضاً "لا تضع يداً على أحد بالعجلة" (1تيموثاوس 5: 24). الأمر الذي يدل على توقّف حلول المواهب الروحية على وضع الأيدي ].

الرد: (أ) إن بولس الرسول لم يقل لتيموثاوس عن الموهبة إنه (أي بولس) أعطاها له، بل قال له عنها "المعطاة له"، أو بالحري المعطاة من الله له. لأنه لم يكن هناك داعٍ لاستعمال اسم المفعول "المعطاة"، الذي يدل على المبني للمجهول، إذا كان بولس المتكلم، هو الذي أعطى الموهبة لتيموثاوس بواسطة وضع يديه عليه. كما أن قوله بعد ذلك عن الموهبة إنها "موهبة الله"، لا يدع مجالاً للشك في أن الله (وليس بولس) هو الذي أعطى الموهبة لتيموثاوس. وقد أعطاه الله إياها، لأنه كان منذ طفولته يعرف الكتب المقدسة (2تي 3: 15)، كما أن إيمانه كان بلا رياء (2تي 1: 5).

(ب) إن الكلمة المترجمة (ب) في العبارة "المعطاة لك بالبنوة"، هي في الأصل اليوناني ذات الكلمة المترجمة (ب) في العبارة (بوضع يدي)، وهذه الكلمة هي "ديا". وهي لا تدل على أن ما بعدها هو الفاعل، بل أنه الوسيلة أو العلامة الظاهرية التي يتم بها فعل الفاعل. ومن ثم كما أن النبوة لم تكن هي التي أعطت الموهبة لتيموثاوس، بل كانت مجرد إعلان عن إعطاء الله إياها له، كذلك لا يكون بولس بوضع يديه على تيموثاوس قد أعطاه إياها، بل أعلن فقط بعلامة منظورة أن تيموثاوس حصل من الله عليها. ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك ، وإلاّ كان الحصول على المواهب يتم بحركة آلية، لا شأن لها بالصلة الروحية التي بين المؤمنين وبين الله، الأمر الذي يتعارض كل التعارض مع الحق المسيحي ـ وإذا كان الأمر كذلك، يكون مثل تيموثاوس مثل يشوع قديماً، فإن موسى وضع يده عليه "لا لكي يحل عليه روح الله، بل لأن روح الله كان حالاً فيه من قبل" (العدد 27: 18).

(ج) وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن وضع بولس يديه على تيموثاوس، لم يكن أمراً حتمياً للدلالة على حصوله على الموهبة من الله، لولا أن الله أراد أن يكون لتيموثاوس مركز خاص كنائب رسولي، على الرغم من حداثة سنه وانتمائه إلى الجنسية اليونانية التي كان اليهود يحتقرونها. ومن ثم يكون الغرض من وضع بولس يديه على تيموثاوس، ليس فقط الإعلان عن حصوله على الموهبة من الله، بل وأيضاً خلع هيبة خاصة عليه تحترم خدمته. ومن ثم يكون مثل تيموثاوس من هذه الناحية مثل يشوع أيضاً، كما يتّضح من (العدد 27: 20).

(د) أما من جهة وضع الشيوخ (أو القسوس) أيديهم على تيموثاوس نقول: إن هؤلاء لم يضعوا أيديهم عليه من تلقاء أنفسهم، بل بناءً على النبوة التي سمعوها عنه، فمثلهم والحالة هذه مثل يعقوب. فإنه لم يضع يده اليمنى على أفرايم لكي يكثر نسله، بل لأنه علم بالنبوة أن نسله سيكون كثيراً (تكوين 48: 14-19). كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن الشيوخ أقل درجة من تيموثاوس، أدركنا أنه لا يمكن أن يكونوا هم الواسطة في إعطاء الموهبة له، أو تخويله حق ممارستها. ولذلك لا يقول الوحي إن الموهبة أعطيت لتيموثاوس بواسطة أيدي المشيخة، بل "مع وضع أيدي المشيخة". أي أن موقف الشيوخ بوضع أيديهم عليه هو فقط المصادقة أو الشهادة، على أن الله هو الذي أعطاه الموهبة، وبالتبعية على أحقيته في ممارستها، على الرغم من حداثة سنة وانتمائه إلى الجنسية اليونانية التي كان اليهود يحتقرونها من قبل، ويعتقدون أن المنتمين إليها لا يمكن أن ينالوا بركة من الله كما ذكرنا. وعلى هذا النسق كان بنو إسرائيل يضعون أيديهم على اللاويين الذي اصطفاهم الله من بينهم لأجل خدمته (العدد8: 10). فإنهم كانوا أقل قدراً من اللاويين، ومع ذلك وضعوا الأيدي عليهم، وطبعاً لا لشيء سوى المصادقة على خدمتهم.

(هـ) أخيراً نقول إن التحريض الذي وجهه بولس إلى تيموثاوس من جهة وجوب عدم وضع يديه بالعجلة على إنسان ما، لا يستنتج منه أن تيموثاوس كان يعطي المواهب الروحية للناس بواسطة وضع يديه عليهم. لأنه فضلاً عن أن المواهب تمنح من الله مباشرةً للأشخاص المهيئين لها، فإن تيموثاوس لم يكن يقيم بوضع يديه أنبياء أو مبشرين أو معلمين فحسب (1تيموثاوس 3)، للأسباب السابق ذكرها. وكان من الواجب على تيموثاوس أن يدقق ويتريث في اختيار أولئك وهؤلاء، حنى لا يضع يديه على أشخاص غير أتقياء فيكونون سبب عثرة للكثيرين.

5- [وإن كان المسيح هو مصدر المواهب الروحية، لكن يجب على من يمنحهم إياها في الوقت الحاضر، أن لا يمارسوها إلاّ بعد وضع أيدي رجال الدين عليهم، كما يتّضح من الآيات الواردة في البند السابق].

الرد: إذا استثنينا الظروف التي كانت تستلزم وضع الشيوخ أيديهم على تيموثاوس، لأن هذه الظروف كانت خاصة به وحده، فإنه بالرجوع إلى الكتاب المقدس نرى أن كل من نال موهبة من المسيح، كان يمارسها بتأثير الروح القدس في نفسه، دون أن ينتظر أحداً ليضع يديه عليه (إذ أن ظهور الموهبة فيه، دليل كاف على أن المسيح نفسه هو الذي أعطاها له).

كما كانت الحال مع الأنبياء مثل أغابيوس (أعمال 13: 1)، ويهوذا وسيلا (أعمال 15: 23)، والمبشّرين مثل فيلبس ([3]) (أعمال 8: 5) وبرنابا (أعمال 15: 35). كما أننا إذا نظرنا حوالينا الآن، نرى في كل طائفة من الطوائف المسيحية مؤمنين حقيقيين، أعطاهم المسيح مواهب روحية ([4]) (مثل الرعاية والوعظ والتعليم والتدبير)، وهم يقومون باستثمارها بأمانة وإخلاص، ويؤيدها له المجد من جانبه ببركات كثيرة، دون أن يضع أحد عليهم الأيدي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للحجة التي أمامنا.

أخيراً نقول: إن الحصول على المواهب الروحية من الله يتطلّب أولاً تطهير النفس وتقديسها له، كما يتطلّب الاجتهاد الروحي في خدمته والمحبة الشديدة له، والغيرة الصادقة على مجده، والتأثّر القلبي بعظمة كفارته ووجوب إعلانها للخطاة المساكين. وهذه الاتجاهات الكريمة تتولّد فينا بواسطة المواظبة على الشركة مع الله والتأثّر المستمر بكلمته. فقد قال الرسول "إن طهر أحد نفسه ([5])، يكون إناءً للكرامة مقدّساً نافعاً للسيد، مستعدّاً لكل عمل صالح" (2تيموثاوس 2: 21). كما قال "جدوا للمواهب الروحية" (1كورنثوس 14: 1). أما عن كون المسيح وحده هو مصدر المواهب، فواضح من قول الرسول عنه أنه أعطى البعض أن يكونوا رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين.. (أفسس 4: 11، 1 كورنثوس 12: 28). ولذلك فإن من لا يحصل على المواهب الروحية منه، لا يستطيع الحصول عليها من أيدي رجال الدين كلهم عليه، حتى إذا كانوا من أصحاب المواهب. لأن هذه ليست كالسلع التي تنتقل من شخص إلى آخر بالتسليم، بل إنها مرتبطة بنفس الحاصل عليها وخاصةً به وحده. ومن ثم لا يستطيع أن ينتزعها من نفسه ويعطيها إلى غيره.

6- [ إن وضع الأيدي كان منذ القديم، هو الواسطة لحلول البركة. فيعقوب عندما بارك ابني يوسف، وضع يديه عليهما (تكوين 48: 14)، والمسيح عندما بارك الأولاد وضع يديه عليهم (متى 19: 15)، ولذلك لا سبيل للحصول على البركة في وقت ما، إلاّ بواسطة وضع الأيدي ].

الرد: (أ) إننا لا ننكر أن منح البركة كان مقترناً في بعض الحالات بوضع الأيدي. لكن وضعها لم يكن إلاّ علامةً خارجية ليست لها في ذاتها قوة منح البركة. والدليل على ذلك أن كثيرين تباركوا بدون وضع الأيدي عليهم. فإبراهيم تبارك بواسطة ملكي صادق (تكوين 11: 9). ويعقوب تبارك بواسطة اسحق (تكوين 27: 27)، وبواسطة ملاك الرب (تكوين 48: 15)، وهكذا أخوته أيضاً (تكوين 49: 28). والذين صنعوا الخيمة تباركوا بواسطة موسى (خروج 39: 43). ويهوناداب تبارك بواسطة ياهو (2ملوك 10: 15). والعذراء مريم وخطيبها يوسف تباركا بواسطة سمعان الشيخ (لوقا 2: 34). والتلاميذ تباركوا بواسطة المسيح ([6]) (لوقا 24: 5)، بدون وضع الأيدي على واحد منهم. ومن ثم فالبركة تتوقف أولاً وأخيراً على قصد الله، والحالة الروحية للناس المقدمة لهم البركة كما ذكرنا.

(ب) هذا وقد عرف أيضاً الأرثوذكس القدامى أن الروح القدس يحل بالصلاة، وليس بوضع الأيدي، فقال أناتوليوس "جاهدوا حتى الدم، فتنالوا عطية الروح". وقال أغناطيوس "حينما يسكن الروح القدس في إنسان، فإنه يشفع فيه بأنات لا ينطق بها. وما معنى أنات ؟ معناها التنهّدات ([7]) والبكاء من أجلنا … فكم بالحري يجب أن نبكي نحن على أنفسنا حتى نصير أهلاً لحلول ذلك الزائر العظيم ([8])، الذي هو الروح القدس". وقال أنطونيوس "ذلك الروح الناري العظيم الذي قبلته أنا، اقبلوه أنتم أيضاً. اطلبوا باستقامة قلب هذا الروح، وحينئذٍ يعطى لكم بالصلاة ([9])".

كما عرفوا أن حلول الروح القدس ليس مجرّد عقيدة تتم بطقس خارجي (كما هي الحال في نظر القائلين الآن بحلوله بواسطة وضع الأيدي)، بل أن حلوله حقيقة عملية لها فعالية عظيمة. فقد قال أوغسطينوس عنه "إنه يُنشئ سروراً خفياً في الداخل، وفرحاً وطرباً في القلب. كما يُنشئ اشتياقاً ملتهباً نحو الله، وتهليلاً داخل النفس لا ينقطع". وقال القديس أنطونيوس "عندما يسكن روح الله في المؤمنين الحقيقيين، يُريحهم من جميع أعمالهم. فيحاولون حمل نير المسيح بلا تعب، سواء في عمل الفضائل أو في الخدمة". وقال أيضاً "هكذا القديسون، عندما وجدوا هذا الروح وسكن فيهم، رفعوا إلى الربّ شكراً عظيماً، لأنه يكشف لهم الأسرار العلوية، وأشياء أخرى أمسك القلم عن ذكرها ([10])" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص24 و190و178 و 470 و482). وفي العصر الحاضر، قال الراهب الفاضل متى المسكين إن الروح القدس يحمل كلمة الله من الله إلى روح الإنسان. وهو لا يُفارق هذه الكلمة قط. كما أنه يفتح ذهن القارئ فيفهمها. فضلاً عن ذلك فإنه يُنشئ فيه بواسطتها وعياً روحياً فائقاً، يسمو فوق كل حقائق العالم. غير أنه يتطلب من الإنسان القلب الوديع الذي يتوسّل بإيمان (كلمة الله: ص49، 51، 53، 76). كما قال "إن الروح القدس يجعل إرادة الإنسان تعمل الصلاح بحريتها، الأمر الذي كان يتعذّر عليها من قبل … كما يفتح الطبيعة البشرية على الله، وبهذا يصير الإنسان في علاقة أصيلة بالله ويدخل معه في رباط حيوي" (المواهب الكنسية ص8).

وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن الاعتقاد بحلول الروح القدس بواسطة وضع أيدي القائلين إنهم خلفاء للرسل بعيد عن الصواب، ليس فقط من الناحية العقائدية الكتابية، بل وأيضاً من الناحية الاختبارية العملية، لأننا لا نرى ثمراً من ثمار الروح القدس قد ظهر في أحد، نتيجة لوضع هؤلاء الأشخاص أيديهم عليه. ومن ثم يكون وضع أيديهم هو مجرّد تقليد، أو مظهر لا جوهر له ـ وعمل مثل هذا لا حاجة لنا به على الإطلاق.

أما دعوى المشتغلين بعلم الأرواح [ أنهم رأوا أشعة خاصة تخرج من أيدي الكهنة الطقسيين، عندما توضع على طالبي البركة ]، فبالإضافة إلى أنه لا يمكن أن يكون لها في ضوء ما تقدّم نصيب من الصواب، فإنها من ترّهات القائلين بأنهم علماء الأرواح. إذ ثبت بالاختبار العملي أن أقوالهم خليط من الحق والضلال، وذلك لنشر الثاني على حساب الأول. إذ أن الأرواح التي يقولون إنهم علماء فيها ليست أرواح موتى كما يدّعون، بل هي أرواح شريرة تتشكّل بأشكال هؤلاء، وذلك لإقصاء الناس عن الله (2كورنثوس11: 4) لأن أرواح البشر تصبح بعد انطلاقها من أجسادها تحت سلطان الله المطلق، إما في الفردوس أو في الهاوية (لوقا 16: 19-30).

7- [ إن وضع الأيدي هو اسم آخر لزيت المسحة أو الميرون، الذي قال الرسول يوحنا عنه "وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه (أي من الله) ثابتة فيكم، ولا حاجة أن يعلّمكم أحد، بل كما تعلّمكم هذه المسحة عينها" (1يوحنا 2: 26-27) وهذا دليل على أن الميرون (أو دهن المسحة) المستعمل في الكنائس الرسولية هو الوسيلة لحلول الروح القدس ] .

الرد: فضلاً عن أن الكنيسة هي كنيسة واحدة لا ثاني لها، وأن هذه الكنيسة هي المؤمنون الحقيقيون بالمسيح في كل العصور والبلاد (كما يتضح من الباب التالي)، الأمر الذي لا يدع مجالاً للقول بوجود كنائس رسولية وأخرى غير رسولية، ما دامت تؤمن جميعاً بلاهوت المسيح وكفاية كفارته وغير ذلك من الحقائق الكتابية. وفضلاً عن أن الآية التي نحن بصددها لا تدلّ على أن الروح القدس يحلّ بواسطة دهن المسحة كما يقال، الأمر الذي ينقض الحجة المعروضة علينا من أساسها، نقول:

(أ) إن اعتبار وضع الأيدي اسماً آخر للميرون، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يكون صواباً (لاختلاف أحدهما عن الآخر)، فإنه لا يؤثر على البحث الذي نقوم به في قليل أو كثير، ليس فقط لأنه لا أساس له في الكتاب المقدس بل وأيضاً لأنه لو كان الروح القدس يحلّ بواسطة الميرون، لما كان من الممكن أن يحلّ بواسطة وضع الأيدي كما يقول المعترضون، أو بواسطة الإيمان الحقيقي كما يعلن الكتاب المقدس، ذلك لأن معاملة الله واحدة مع جميع الناس في كل العصور، وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن كلمة "المسحة" الواردة في الآية التي نحن بصددها، لا يُراد بها دهن ما، بل إنها مستعملة هنا بالمعنى المجازي للإشارة إلى الروح القدس نفسه. والدليل على ذلك أن الرسول يسند إليها التعليم، والحال أن الذي يعلّم هو الروح القدس. فقد قال المسيح لتلاميذ عنه أنه "يُعلّمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يوحنا26:14).

(ب) أما السبب في استعمال كلمة "المسحة" للإشارة إلى الروح القدس. فلا يرجع إلى أنها هي بعينه، بل إلى أنه هو الذي كان يرمز إليه بها في العهد القديم([11]) لأن كل الذين كانوا يقدسون لخدمة الله في هذا العهد، كانوا يمسحون بدهن يدعى "دهن المسحة"، رمزاً إلى تأييد الروح القدس لهم، كما ذكرنا في كتابي "كهنوت المسيح" و"كهنوت المؤمنين". فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن تلاميذ المسيح لم يمسحوا بدهن ما عندما حلّ الروح القدس عليهم، أو مسحوا أحداً بدهن لكي يحلّ عليه هذا الروح. كما أن المسيح عندما حلّ عليه الروح القدس لم يسمح أيضاً بدهن، إذ أن قول الوحي إن الله مسحه بالروح القدس (أعمال 10: 38)، معناه أن الروح القدس حلّ عليه لا أكثر ولا أقلّ، اتّضح لنا أن كلمة المسحة لا تستعمل في العهد الجديد إلاّ بالمعنى المجازي، للإشارة إلى الروح القدس كما ذكرنا.

8- [ إن الرسول بولس قال: "ولكن الذي يثبّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا، هو الله الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا" (2كورنثوس 1: 21، 22)، وهذا دليل على وجوب استعمال الميرون للحصول على الروح القدس].

الرد: يتّضح من هذه الآية ضمناً، أن الله مسح بولس الرسول وختمه. لكن بالرجوع إلى الكتاب المقدس لا نرى أن الله عندما قام بهذين العملين له استعمل دهناً ما. ومن ثم فإن المسح والختم هنا مستعملان بالمعنى المجازي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للحجة التي أمامنا، ومع كل فالآية التي نحن بصددها تدل على حقائق روحية هامة، وهي:

(أ) إن الله لا يتركنا لمجهوداتنا الشخصية في مهمة الثبات في المسيح، بل إنه نفسه هو الذي يقوم بهذه المهمة لنا، ومن ثم يضمن سلامتنا إلى الأبد. ولذلك فكل ما يجب علينا القيام به هو تسليم نفوسنا بالتمام له، لكي يقودنا في سبيله كل حين، لأنه له المجد لا يقوم لنا بأي عمل رغماً عنا.

(ب) إن الله ختمنا، أو بالحري وضع علينا اسمه، فأصبحنا خاصته التي يعتزّ بها ويحافظ عليها كل أيام الحياة. وإن أخطأنا، فإنه يؤدبنا حتى نعود إليه، لكنه لا يسمح بإهلاكنا على الإطلاق (1كورنثوس 11: 32).

(ج) إنه أيضاً أعطانا الروح القدس عربوناً للمجد الأبدي، وبما أنه كلما كان العربون عظيماً، كان امتلاك الشيء المقدم عنه هذا العربون أكيداً ؛ لذلك ليس هناك أي مجال للشك في امتلاكنا للمجد الأبدي شرعاً من الآن، لأن العربون المقدم لنا عن هذا المجد أعظم من قيمته بما لا يقاس، إذ أن الروح القدس ليس مخلوقاً مثل المجد المذكور، بل إنه الخالق له ولغيره، إذ أنه مع الآب والابن، الله الذي ليس هناك إله سواه.

وهذه الحقائق الثمينة عندما تتغلغل في نفوسنا، تبعث فيها كل حب وإخلاص لله، كما تقودها للسلوك بكل تقوى وقداسة أمامه.

9- [ إن دهن المسحة كان يستعمل في الكنيسة منذ نشأتها كوسيلة لحلول الروح القدس، ولذلك يكون الرسل أنفسهم هم الذين أمروا باستعماله لهذا الغرض، ثم انتقل إلينا منهم عن طريق التقليد ].

الرد: فضلاً عن أن حقائق الإيمان المسيحي بأسرها قد سلّمت إلينا بواسطة الرسل مرة واحدة، أو بالحري دفعة واحدة (يهوذا 1: 3) على صفحات الكتاب المقدس، حتى أن الرسول بولس قال للمؤمنين "إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أثيماً (أو محروماً)" (غلاطية 1: 8)، الأمر الذي لا يدع مجالاً للاعتقاد بوجود أي تقليد تسلّمه الأقدمون من الرسل، بجانب ما جاء في هذا الكتاب، نقول: إن الدليل الذي يثبت أن تقليداً ما يرجع إلى الرسل، هو أن تكون هناك إشارة إليه في الكتاب المقدس، أو يكون متفقاً مع ما جاء في هذا الكتاب. وبما أنه ليست هناك عبارة في الكتاب المقدس يستنتج منها أن الرسل كانوا يستعملون دهناً ما كواسطة لحول الروح القدس على المؤمنين، إذن لا يمكن أن يكون استعماله لهذا الغرض منقولاً عنهم. ولكن إذا رجعنا إلى التاريخ ([12])، يتّضح لنا ما يأتي:

(أ) استحسن فريق من الأساقفة في القرن الثاني أن يمسحوا المؤمنين الذين يقبلون المعمودية بزيت الزيتون العادي، لأنهم وجدوا أن كلمة "المسحة" هي التي يشتق منها اسم المسيح (بمعنى الممسوح ([13])) في كل اللغات ؛ وكان غرضهم الأول والأخير من هذا العمل، أن يعلنوا للمؤمنين المذكورين أنهم أصبحوا مسيحيين. واستحسن فريق آخر من الأساقفة أن يمسحوا مثل هؤلاء المؤمنين بالزيت المذكور، لأنهم وجدوا أنه كان يستعمل في العهد القديم عند تعيين الملوك والكهنة في وظائفهم، رمزاً إلى حلول الروح القدس عليهم. ومن ثم كان مسح المؤمنين المذكورين بالزيت لديهم، رمزاً أو إشارةً إلى حلول الروح القدس عليهم وصيرورتهم ملوكاً وكهنةً بالمعنى الروحي (رؤيا 1: 6). فقد قال كيرلس الاسكندري: "إن الميرون يُشير حسناً إلى مسحة الروح القدس (أسرار الكنيسة السبعة ص65)، أي أنه ليس هو ذات الروح القدس، أو حتى الواسطة لحلوله.

(ب) وبعد ذلك أخذ الاعتقاد بشأن هذا الزيت يتطوّر شيئاً فشيئاً، حتى ذهب كثير من الأساقفة في القرن الرابع إلى أنه هو الواسطة الوحيدة التي يحل بها الروح القدس. ولذلك أخذوا يعدونه بتلاوة صلاة خاصة وقراءة فصول معينة من الكتاب المقدّس، بعد مزج هذا الزيت بثلاثين صنفاً من العطور، ولكي يبرروا تصرّفهم هذا في نظر أتباعهم، قالوا إن الرسل أخذوا الأطياب ومزجوها بزيت الزيتون ([14]). كما قالوا إن الرسل أنفسهم هم الذين قاموا بتوزيع هذا المزيج على الكنائس التي كانت في أيامهم، وأوصوها بأنه إذا أوشك على النفاذ من عندها، يجب أن تضيف إلى ما تبقى منه شيئاً من زيت الزيتون مع العطور المذكورة، وأن ترفع لله صلوات خاصة عند قيامها بهذا العمل، لكي يقدّس الله الزيت الذي تعمله.

(ج) وفي القرن التاسع ذهب بعض الأساقفة إلى أنه كما أن الخبز والخمر المستعملين في العشاء الرباني يتحوّلان بواسطة القداس (حسب اعتقادهم في هذا القرن) إلى ذات جسد المسيح ودمه ([15])، فإن زيت المسحة لا يبقى أيضاً بعد صلاتهم عليه زيتاً عادياً، بل يصبح "موهبة المسيح وحضور الروح القدس، وفاعلاً أيضاً فعل الموهبة([16])" أو بالحري أنه موهبة الروح القدس نفسها ([17]). وبناء على ذلك أمر مجمع بافيا سنة 950م باستعمال هذا الزيت في الكنائس اللاتينية لتقديس المؤمنين وتثبيتهم في الله. أما عند الأرمن فلم يستعمل الزيت المذكور إلاّ في القرن الرابع عشر، أي بعد انتقال عقيدة الاستحالة إليهم بقرن من الزمان.

مما تقدم يتضح لنا أن عقيدة حلول الروح القدس بواسطة الميرون، فضلاً عن أنها بنيت على فهم بعض الآيات فهماً يختلف عن المقصود منها، فهي تجعل الواسطة لحلول الروح القدس على البشر (إن كان يحل عليهم بالميرون) واسطةً مادية خارجية، لا علاقة لها بالتوبة والإيمان الحقيقي والصلة الروحية بالله. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الذين يمسحون بهذا الزيت مرات متعددة لا تظهر فيهم ثمار الروح القدس [التي هي الصلاح والبر والحق والسلام وطول الأناة واللطف والوداعة والتعفف (أفسس 5: 10، غلاطية 5: 22) ]. كنتيجة مباشرة لهذا المسح، اتّضح لنا أن الاعتقاد [بتوقف حلول الروح القدس على المسح بالميرون، أو أن هذا الميرون يثبت الذين يمسحون به في الله ] لا يؤيده وحي أو اختبار، بل هو تنكّر للحقائق المسيحية وعودة إلى الطقوس اليهودية التي لا تجدي ولا تفيد.

أما الاعتراض بأن [ الكتاب المقدس لم يسجّل أن الروح القدس يحلّ بواسطة زيت المسحة، لأنه (أي هذا الكتاب) لم يذكر كل شيء عمله المسيح أو رسله ]، فلا يجوز الأخذ به. لأن الأمور التي لم يذكرها الكتاب المقدس هي بعض المعجزات التي عملها المسيح، ويرجع السبب في ذلك إلى أن ما سجله منها كافٍ لإثبات شخصيته له المجد. فقد قال الرسول "وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة أبدية" (يوحنا 20: 30-31). أما لو كان الروح القدس لا يحلّ إلاّ بالميرون، لكان الوحي تحدث عن كيفية صناعته وطريقة ممارسته، وغير ذلك من الأمور التي تتعلّق به، لأنه يكون من أهم الموضوعات الدينية التي يجب على المؤمنين معرفتها في كل العصور والبلاد.

وأخيراً نقول: بما أن الكتاب المقدس يعلن لنا أن الوسيلة الوحيدة لحلول الروح القدس هي التوبة الصادقة والإيمان الحقيقي بالمسيح، وأنه بحلوله في النفس يسمو بها إلى حالة التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية كما ذكرنا فيما سلف، فليس هناك إذن مبرر بعد للقول إن هذا الروح يحلّ بواسطة المسح بالميرون المذكور، أو إن هذا الميرون هو موهبة الروح القدس نفسها، كما يُقال - وإذا كان الأمر كذلك فإن القول "وصار الماء والزيت والخبز والخمر مجالات اتحاد بين الله والمادة.. فيها يهب الله الروح القدس نعماً فعّالة في أسرار لا ينطق بها" (التجسد الإلهي ص16و17)، ليس من المسيحية في شيء.


[1] - لأن معمودية يوحنا كانت لإعداد الأمة اليهودية بالتوبة لقبول المسيح كالملك (متى 3: 2). ومن ثم لم يترتب عليها حلول الروح القدس. لأنه لا يحل على أحد إلاّ على أساس الإيمان الحقيقي بالمسيح رباً وفادياً (أفسس 1: 13).

[2] - أما الدعوى (بأن الرسل كانوا قد آمنوا بالمسيح بمجرد أن دعاهم إليه، ومع ذلك لم يحل الروح القدس على أحد منهم، إلاّ بعد صعود المسيح عنهم بعشرة أيام، مما يدل على أن حلول الروح القدس غير مقترن بالإيمان) فلا مجال لها … لأن الروح القدس كان يرافق الرسل منذ إيمانهم بالمسيح (يوحنا 14: 7). ولكن لم يحل عليهم ويسكن فيهم قبل يوم الخمسين من قيامة المسيح، لأنه لم يكن قد مجّد بعد (يوحنا 7: 39). أما عندما تمجد (أو بالحري أكمل الكفارة وقام من بين الأموات وصعد بعد ذلك إلى السماء، للدلالة على قبولها الأبدي أمام الله) حلّ الروح القدس عليهم وعلى غيرهم من المؤمنين (أعمال 2: 1و 32) ومنذ حلوله هذا يحل ويسكن في كل من يؤمن إيماناً حقيقياً كما ذكرنا، وذلك باستحقاقات كفارة المسيح دون سواها.

[3] - أما وضع الأيدي على فيلبس الوارد في (أعمال 6: 5)، فلم يكن لتعيينه مبشراً بل شماساً، ويرجع السبب في ذلك إلى أن موهبة التبشير معطاة له من الله، ومن ثم لا تتطلب تأييداً من الناس. أما خدمة الشموسية التي كانت تدعو صاحبها للاتصال بالعائلات الفقيرة لمدّها بالمساعدات المالية، كانت تتطلّب وضع أيدي الرسل، حتى لا تتعرّض للمقاومة من أي فريق من الناس.

[4] - مما تجدر الإشارة إليه أن هناك فرقاً كبيراً بين المواهب الروحية، وبين المواهب العقلية في المجال الديني؛ فالأولى يمنحها الله للمؤمنين الحقيقيين المكرّسين له، لكي يعلنوا محبته الفائقة للناس، حتى يقبلوا إليه، يوجدوا في كفارته الثمينة خلاصاً لنفوسهم، وحتى ينموا بعد ذلك في معرفته والسير برفقته. أما المواهب العقلية، فقد تتوافر لدى المؤمنين بالاسم، لأنها تتوقف أولاً وأخيراً على الفصاحة واللباقة، أو الدراسة العقلية للكتاب المقدس، ولذلك لا تفيد إلاّ في حشو أدمغة الناس بمعلومات دينية.

[5] - أو بالحري طهّرها بوضعها تحت تأثير كلمة الله، وهذا التطهير تابع للتطهير بالدم الكريم (1يوحنا 1: 7) عند الإيمان الحقيقي بالمسيح (أعمال 15: 9)، والذي يؤدي إلى القبول الأبدي أمام الله. فالتطهير بالكلمة تابع للتطهير بالدم وليس سابقاً له.

[6] - حقاً إن المسيح رفع يديه إلى فوق عندما بارك تلاميذه، لكن رفع اليدين إلى فوق يختلف عن وضعهما على رأس أحد ما، لأن العمل الأول علامة على الصلاة أو طلب البركة. أما العمل الثاني فعلامة على إعطاء البركة.

[7] - بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتّضح لنا أن المراد بالأنات، هو الشعور بآلام الحياة الحاضرة، والشوق إلى فداء أجسادنا بتغييرها إلى صورة جسد المسيح، عند عودته لاختطافنا إلى مجده (رومية 8: 23، فيلبي 3: 21).

[8] - مما تجدر الإشارة إليه أن الروح القدس يجب أن لا ينظر إليه كزائر يحل في قلوبنا، بل كالمالك الحقيقي لها، الذي له وحده حق التصرف فيها كما يشاء. وهذا ما يدعونا إلى تسليم حياتنا له تسليماً مطلقاً.

[9] - إذا كنا نحصل على الروح القدس بالتوبة والإيمان الحقيقي كما أعلن الكتاب المقدس، وكانت الصلاة ليس لأجل أمور حصلنا عليها بل لأجل أمور لم نحصل عليها، لذلك تكون الصلاة المشار إليها أعلاه خاصةً بطلب الامتلاء من الروح القدس، والنمو المتواصل في حياة الشركة مع الله.

[10] - لعلّ المراد بذلك: أمجاد المسيح وبركاته السماوية، لأن هذه وتلك لا يمكن وصفها.

[11] - وعلى هذا النسق، فإن المسيح يطلق عليه الفصح (1كورنثوس 5: 7)، ليس لأنه خروف الفصح، بل لأن هذا الخروف كان رمزاً إليه. وإن الصلاة يطلق عليها البخور (رؤيا 5: 8)، ليس لأنها هي البخور، بل لأن البخور كان رمزاً لها.

[12] - ريحانة النفوس في أصل المعتقدات والطقوس، وتاريخ الكنيسة لموسهيم (للإنجيليين) وأسرار الكنيسة السبعة، واللآلئ النفيسة في شرح طقوس الكنيسة (للأرثوذكس) وشرح التعليم المسيحي زمختصر المقالات اللاّهوتية (للكاثوليك).

[13] - كما تستعمل كلمة "جريح" بمعنى "مجروح". و"قتيل" بمعنى "مقتول".

[14] - فضلاً عن أنه ليست هناك أية إشارة في الكتاب المقدس تدل على ذلك، فليس من المعقول أن تلاميذ المسيح قد عادوا إلى قبره، بعد أن رأوه له المجد حياً بينهم. كما أنه ليس من المعقول أيضاً أن يكون قد جال بخاطرهم أن يجمعوا الحنوط التي كانت على جسده، لأنه لم يطلب منهم القيام بجمعها لأي غرض من الأغراض.

[15] - إقرأ شيئاً عن تاريخ الاستحالة في كتاب "العشاء الرباني".

[16] - وهنا نتساءل: إذا كان الميرون هو موهبة الروح القدس نفسه، فلماذا لا يسمح به الكهنة أنفسهم والذين معهم، بدلاً من أن يطلبوا من الله (في القداس) أن يحل الروح القدس عليهم جميعاً، أليست صلواتهم هذه دليلاً على أنهم يعتقدون بينهم وبين أنفسهم أن الميرون ليس هو الروح القدس، أو الواسطة التي يحلّ بها.

[17] - وبذلك جسموا الروح القدس في زيت الميرون أو بالحري جسموا الله نفسه (لأن الروح القدس هو أحد أقانيم اللاهوت) في الزيت المكور. وقد ترتب على ذلك أنهم ذهبوا إلى أن هذا الزيت هو الذي يقدّس الصور الدينية التي تسمح به (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص552-556 و561). ولعل هذا هو السبب في تقبيلهم إياها وانحنائهم أمامها، ورفعهم للبخور نحوها، والتبرّك بها - الأمر الذي يتعارض مع الحق المسيحي كل التعارض.

  • عدد الزيارات: 6377